|
في مغازة العجائب
جيلاني العبدلي/ كاتب صحفي مع جنون الليل، وجدتُ نفسي وأنا في سبيلي إلى منزلي، أمام مشهد عجيب غريب سرعان ما استفزّني، فاندفعتُ نحوه لأجلو غوره، وأفقه سرّه. مشهدٌ مثيرٌ، لبشر كُثّر مُتوافدين في ازدحام وارتطام، مُتدافعين في وُلوج وخُروج، على مداخل بناء فخم ضخم، في مكان عليّ جليّ، رُكّبت في واجهته الأمامية لوحةٌ ضوئيةٌ مُشعّةٌ، خُطّ عليها: " الفضاءُ الأنيقُ لاقتناء المساحيق ". وفي المدخلين الرئيسيين رُكّزت لافتتان بارزتان، كُتب على الأولى: " المساحيقُ المدروسةُ لإنعاش الآمال المحبوسة ". وعلى الأخرى كُتب: " مساحيقُ الرّشى لتحقيق المُنى ". تابعتُ خطواتي يدفعني الفضولُ، وعيونٌ لأعوان شداد غلاظ ترمُقني، وشرعتُ أشقُّ الجموع بالعجل، فإذا بي في الدّاخل يُخالجني الوجلُ وأنا أقفُ أمام لوحات للتوجيه، خُطّ على إحداها: " أطعم الفم حتّى تستحي العينُ ". وعلى أُخراها خُطّ: " كول ووكّل وشارك الناس في أموالهم ". وغيرُها كثيرٌ خُطّ عليها كلامٌ ذو صلة بفلسفة الرّشوات. النّاسُ في الداخل يا إخوانُ، شيبا وشبابا، من غير ولدان، تراهم في نشر، تخالُهم في يوم حشر، والسلعُ مُثيرةٌ آسرةٌ، والبيعُ كثيرةٌ ساريةٌ. زاحمتُ أنا بدوري يغلبني فُضولي، وتناولتُ مُعلّبة تحوي مسحوقا سحريّا، وقلّبتُها فقرأتُ عليها: النوع: رشوةٌ رفيعةٌ – الفعالية: وظيفةٌ عموميةٌ – الصلاحية: سنة من تاريخ الصناعة – المواصفات: تُونسيةٌ – العلامة: مُسجّلةٌ – السعر: عشرة آلاف دينار. أخذتُ مُعلّبة أخرى فقرأتُ عليها: النوع: رشوةٌ رفيعةٌ – الفاعليّة: شهادةُ كفاءة للتدريس – الصّلاحيّة: سنة من تاريخ الصّناعة – المواصفات: تُونسيةٌّ – العلامة: مُسجّلةٌ – السّعر: سبعة آلاف دينار. أخذتُ مُعلّبة ثالثة فقرأتُ عليها: النوع: رشوةٌ رفيعةٌ – الفاعليّة: تأشيرةٌ للهجرة – الصلاحية: ثلاثة أشهر من تاريخ الصناعة – المواصفات: تُونسيةٌ – العلامة: مُسجّلةٌ – السعر: خمسة آلاف دينار. هكذا كنتُ أفحصُ المُعلّبة تلو المُعلّبة مبهوتا مدهوشا، وقد ضجّت في رأسي أسئلةٌ حارقةٌ، لم أجد في من حولي من أُجهر له بالأمر، فيزيح عنّي حُرقة أسئلتي. واللافتُ للأنظار في هذا المضمار، أنّ مئات الشبّان كانوا في الطلب أشدّ إقداما وأكثر إقبالا، تراهم يتخيّرون حاجتهم في كُلّ الأجنحة ممّا يُناسبهم من أصناف الرّشوات. وما حزّ في نفسي أنّ أحد الشّبان، كان كسير النّفس حسران، دامع العين خجلان، حين أعوزه المالُ وضاق به الحالُ وتلاشت حُظوظه في الفوز بمسحوق من أجل العمل. أزعجني هذا الوضع وأربكني، فقرّرتُ أن أُشهر قلمي في الأمر، وشرعتُ في إجراء تغطية صُحفيّة، علّي أكشف صُنوف الحيف وصُروف الزيف في هذه المهزلة، لكنّ شخصين غليظين، انقضّا عليّ في الحال، وشدّا وثاقي إلى الخلف، ودفعا بي بعد الصّفع والرّكل إلى التحقيق في الشّأن. والحقُّ، أقُولُ أنّي كدتُ أهلكُ هناك لولا تدخّلُ هاتفي الجوّال، حين نبّهني من غفوي، وأيقظني من نومي، فاستعذتُ باللّه من الشّيطان وشرّ الإنسان، واستحضرتُ من واقع أيّامي ما ظلّ يُردّده القاصي والدّاني، من حكايات الرّشوات وفنون قضاء الحاجات، وتملّكني كثيرٌ من إحساس بالإشفاق، على المُعطّلين والمحرومين، من بني وطني ومنهم آلافُ الشّبان، فقلتُ: " لا حول ولا قوّة إلا باللّه "
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |