|
أول معالم الإمامة .. الزهد في الأموال ورفض المشبوه منها .. الإمام المجاهد السيد محمد الحسني البغدادي (رحمه الله) نموذجاً رعد الجبوري كانت بداية تعرفي على هذا الموضوع هي عند قراءتي لأحد كتب الدكتور على الوردي (رحمه الله) حين أشار الى (علماء الحفيز) وعندما علمت ماهية هذا المصطلح، لا اعلم بعدها ما الذي شدني الى تعقب جذوره هل هو غرابته أم غرابة الموضوع بحد ذاته وهو وجود علماء دين يقبضون مخصصات ويستلّمون أموالا مشبوهة أو غامضة المصدر، شيء غير قابل للتصديق وإذا أردنا تصديقه فلا مجال لكي تهضمه عقولنا أو تتقبله أخلاقياتنا. كيف ذلك ؟ ... لقد شبهوا قديماً العلماء ورجال الدين بالملح وهو المادة الأكثر شهرة تاريخياً التي استخدمت للمحافظة على الطعام من الفساد والتعفن. ولكن السؤال الأصعب هو ما يصلح الملح أذا الملح فسد؟.. صرخة مدوية جهر بها احدهم قبل قرون طويلة لكنها ما زالت تتردد أصداؤها في كل حين. نعم ما الذي يصلح العالم (أي رجل الدين) أذا فسد وأصبح يسعى الى الأموال؟، وهي حطام الدار الدنيا، في الوقت الذي يفترض ان يكون جل همه هو الدار الآخرة. لا عذر لأي مسلم في قبض أي أموال غير معلومة المصدر أو مجهولة المقصد، لا يمكن ان ينتفع بمثل هذه الأموال ولا حتى التصدق بها، فالصدقة يفترض أن تكون من مال طيب وإلا فلن يؤجر عليها المسلم. هذا بالنسبة للمسلم من العامة، فما بالك بالمسلم من الخاصة أو من علماء الدين الذين كلما ارتقوا في العلم الشرعي يفترض ان يزيد زهدهم في الدنيا وأدواتها وشهواتها وعلى رأسها الأموال. هكذا أفهم الدين، وقد أكون مخطئاً وأتمنى حينها ان اعلم الحقيقة واعرف ما هو الصواب. ذكر هذه المقدمة أجده ضرورياً كي نرى أين قادني هذا البحث أو تلك الرغبة في معرفة الحقيقة، فقد بدأت أضع مقياساً لرجال الدين، اقصد وضع معيار أخلاقي أو ديني لمدى ورع رجل الدين ونظافة يده، وهذا بالنتيجة سيقودنا الى حسم موضوع أتباعنا لفكره أو علمه وهل يستحق منا أن نقلده أو أن نجعله مثلاً أعلى لأخلاق المسلم المتدين ناهيك عن رجل الدين. وكلما بحثت أكثر في هذا المجال برزت أمامي شخصيات دينية تسطع سيرتها الناصعة أمام أعيننا، وتخبو أسماء آخرين كانت (حتى وقت قريب) تحيط بها هالات من الورع الزائف وما أن فقدت السلطة أو غيّبها الموت حتى بدأنا نسمع الهمز واللمز أو حتى الشتم واللعن بحقها. فرجل الدين الحقيقي في رأيي المتواضع هو من يقرن العلم بالعمل بل ان العمل له الأولوية في الكثير من المواضع ومنها (على سبيل المثال لا الحصر) الجهاد، فالشهادة والاستشهاد هي من الدرجات العظيمة يوم القيامة اكبر من الأعلمية في علوم الدين الفقهية والشرعية. وهنا تبرز أسماء قلة قليلة من الفقهاء الإجلاء الذين كانوا متنبهين الى هذه المسألة ممن قرنوا العمل بالعلم أمثال السيد على الحسيني شبر والشيخ خضر الدجيلي وأبرزهم بالتأكيد هو الإمام المجاهد آية الله العظمى السيد محمد الحسني البغدادي (رضوان الله عليه) والذي صادفت قبل أيام الذكرى السنوية الرابعة والثلاثون لوفاته، فهذا العالم الجليل رحمه الله كان من النماذج الرائعة في طهر يده من شبهة قبض الأموال وكان صارماً وحاداً في تطبيق هذا المفهوم القيمي الشرعي والمجتمعي. ولم تأخذه في الحق لومة لائم ولم يهاب سلطاناً بهذا الشأن، ولم يثنِ عزمه قول بعض (التبريريين) أو (الذرائعيين) بقولهم بأنه يفترض بل ومن الواجب أن يكون لعالم الدين أموال تحت يديه كي يصرف منها لما فيه مصلحة وخدمة الإسلام والمسلمين. وان من المهم أن تكون هذه الأموال تصرف في مقاصد شرعية. وهو الذي مات مديناً للناس، وانه في ليلة وفاته لم يكن عند أهله ما يصرف لعزائه، أو ما يساعد على كفالة عائلته الكبيرة التي تركها من بعده. وقد نقل عن السيد البغدادي (رحمه الله) قوله في مجلسه العلمي "بأني وجميع أصدقائي نظير السيد على الحسيني شبر والشيخ خضر الدجيلي (قد) رفضنا قبض خيرية أوده وكان كل من يقبضها يكون موضع غمز الناس ولمزهم (1). وقد ذكر الإمام المجاهد السيد البغدادي في تحصيله حول الأموال المأخوذة من الحكومات الجائرة ما نصه: (( نهي في الأخبار المعتبرة عن طلب الحوائج من الظلمة كالسلطان وأمرائه فلا يحسن الاستغناء بهم بل كل الأموال التي تحصل بسببهم سريعة الذهاب عديمة البركة. بل شاهدنا ذلك في زماننا قد خاب المتعلقون بهم وأصابهم ما ليس في خلدهم من أقسام البلوى. واستشهد بقول الشيخ البهائي وهو: (( إنا جربنا ذلك وجربه المجربون قبلنا واتفقت الكلمة منا ومنهم على عدم البركة في تلك الأموال وسرعة نفاذها واضمحلالها وهو أمر ظاهر محسوس يعرفه كل من حصل شيئا من تلك الأموال الملعونة . نسأل الله أن يرزقنا رزقا حلالا طيبا يكفينا ويكف اكفنا عن مدها الى هؤلاء وأمثالهم انه سميع الدعاء لطيف لما يشاء انتهى . ولا يخفى عليك اتساع هذا الأمر في هذا العصر فلا ترى من يسلم منه إلا النادر اللهم نجنا من ذلك وأنت ارحم الراحمين )) ولو عدنا الى البداية لوجدنا انه رفض بشكل صارم قبول أي شيء (أسوة ببعض العلماء والطلاب الدينيين).. من عائدات الأوقاف الهندية المشهورة بـ ((خيرى اوده)) (نسبة الى أمارة أوده الشيعية في شمال الهند (وتدعى أيضا في بعض المصادر (أوضَ) وهو في رأي المتواضع اقرب للصحة وذلك لأن حرف (الضاد) يستعصي على الترجمة ويلفظ دالاً بالإنجليزية). وهذه الأموال يفترض أن تصرف على أهل العلم والفقراء في النجف وكربلاء تحت رعاية المراجع والمجتهدين في كل شهر).. أو ما عرف أيضا بـ (فلوس الهند)).. ومن الثابت أن السيد البغدادي رفض رفضاً صارماً استلام هذه المخصصات الشهرية المشبوهة . والتي أصبح من خلالها للانجليز علاقات وصلات لا يمكن أن تكون بريئة المقاصد مع بعض المحسوبين على رجال الدين ومنهم (محمد كاظم اليزدي) وكان عضو الارتباط بين الانجليز واليزدي هو محمود اغا الهندي الذي هرب الى إيران بعد انتصار الثوار في ثورة العشرين المجيدة. وربما هذا يفسر بعض الشيء كيف تسنى لصهره (أبو القاسم الخوئي) التصدي للمرجعية بعد ذلك، واستيلاء أبنائه بعده على تلك الأموال الطائلة للحوزة من أموال العامة والخاصة. وتأسيسهم لمؤسسة الخوئي السيئة الصيت في لندن. وفي إحدى مقالاته (2) يشير الباحث باقر الصراف لهذا الموضوع بشيء من التفصيل وكما يلي:- " قبلها كان وقف ((أوض)) هو الوسيلة المناسبة لرشوة الدينيين المثقفين للقضاء على الإمبراطورية العثمانية، كان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر ، تقول تقارير المخابرات البريطانية ما يلي : ((كان العقيد نيو مارش يعرف هذه الأشياء ، وقد أمل في أنْ يكتسب بعض النفوذ على المجتهدين ، وذلك خلا السـلطة المخولة له في أنْ يختار من بينهم مسـتلمي الإعانات المالية بمقتضى وقف أوض)) ولمزيد من الإطلاع عن ذلك ، ينبغي قراءة بعض النص الكامل لما ذكرته وثيقة بريطانية كانت آنذاك تتمتع بالسرية التامة : ((وفي إبّان ذلك بدأ العقيد نيو مارش ينفذ سياسته في أمور المجتهدين، وهو متأكد من موافقة حكومة الهند سلفاً، فبعد جمع معلومات عن المؤهلات الدينية لمن يزعمون الاِجتهاد في الأماكن المقدسة عين مخصصات من الوقف لمن يتمتع من هؤلاء بأحسن سمعة، وكان يقبل مثل تلك المخصصات عدد من المجتهدين الذين يتمتعون بمنزلة رفيعة جداً، وفي مايو عام 1903 ألغيَ توزيع الاِعتماد المالي المنفصـل لإعانة الهنود حتى في الكاظمية، والمجتهدون الآتية أسماؤهم كانوا يتلقون مرتبات شهرية منتظمة من الوقف، وهذا بيان بالمرتبات وأصحابها : في كربلاء : سيد محمد باقر ((حجة الإسلام)) وهو (شيخ المجتهدين) الموزعين ويقبض 1500 روبية، سيد هاشم القزويني، الشيخ حسين المازندراني، سيد جعفر الطباطبائي، الشيخ علي يازدي، سيد مرتضى حسين، سيد حسين ... . ويقبض كلاً منهم 500 روبية. وفي النجف : سيد محمد بحر العلوم وهو شيخ المجتهدين والموزعين ويقبض 1500 روبية . ملا على النهاوندي، الشيخ محمد حسن جواهري، الشيخ عبد الله المازندراني، عبد الحسن . . .، سيد محمد هندي، محمد كاظم خراساني. ويقبض كلاً منهم 500 روبية. مما يجدر ذكره ، إنَّ العقيد نيو مارش قد خطط من أجل ضمان نجاح أسلوبه الجديد للحصول ((على بعض النفوذ على المجتهدين ، وذلك من خلال السلطة المخولة له في أنْ يختار من بينهم مستلمي الإعانات المالية بمقتضى وقف "أوض" ، وفي يونيو عام 1903 ذُكِرَ في خطاب رسمي أنَّ سيد محمد باقر في كربلاء ، وسيد محمد بحر العلوم في النجف، أصبحا يرتبطان بعلاقة صداقة قوية ، وإنهما مذعنان لسلطته، وقد وصل تقرير مُشابه للموقف من سير أ . هاردنج وزير صاحب الجلالة في طهران الذي كان يعتقد أنَّ نفوذ المجتهدين في كربلاء والنجف يمكن اِستغلاله عن طريق المفوضية البريطانية ببغداد وذلك لمنع القلاقل والاِضطرابات في إيران، بل وفي إحباط السـياسـة الروسية فيها))، راجع المؤلف الاِستخباري الكبير الذي يتكون من أربعة عشر جزءاً بعنوان دليل الخليج بقسميه الدليل التاريخي والدليل الجغرافي ، تأليف ج . ج لوريمر ، الجزء الرابع من القسم التاريخي الطبعة الثانية الجديدة المعدَّلة والمنقحة التي أعدها قسم الترجمة بمكتب أمير قطر دون تاريخ لصدره في قطر ، ص 2375 ـ 2378. وللإطلاع الوافي على الموضوع كله يرجى مراجعة الصفحات 2353 ـ2380 من الكتاب الموسوعي، هذا من ناحية، وإنَّ العلماء الدينيين والمجتهدين كانوا يعدون آنذاك الفئة المثقفة في مجتمع كانت تسوده معالم الأمية الشاملة، وإنَّ كسب البعض منهم إلى جانب الموقف السياسي البريطاني لتقاسم تركة الرجل المريض، والقضاء على الإمبراطورية الإسلامية القائمة آنذاك، كان هدفاً أوروبياً حيوياً، من ناحية ثانية، وكان ذلك المسعى الاِستراتيجي يتناقض كلياً مع الرؤية الدينية الإسلامية، والرؤية الحضارية الإسلامية، من ناحية ثالثة. " ومن المحطات التي تستوقفنا في سيرة هذا الفقيه الجليل (رحمه الله) ما حصل له في حواره مع قائد الفرقة الأولى الزعيم حميد حصونة في صيف 1959ميلادية الذي ابلغه رسالة شفهية من عبد الكريم قاسم بتقديمه مخصصات شهرية الى السيد البغدادي (ليستعين بها في شؤونه الخاصة والعامة) ولكن جاءه الجواب سريعاً وقاطعاً وهو رأي السيد (رحمه الله) (بعدم قبض مخصصات من أي سلطان مهما كانت هويته) بل وعدم قبول حتى الهدايا بأي شكل كانت وبأي طريقة قدمت. محطة أخرى عندما بعث إليه عبد السلام عارف وطلب منه أن يقف الى جانبه ضد مؤامرات الشاه المقبور عن طريق محسن الحكيم والملا مصطفى البارزاني وخصص له مبلغاً كبيراً في مقاييس ذلك الزمن وهو عشرة آلاف دينار وابلغه ان ذلك (من اجل أدارة شؤون حوزتكم العربية ، وتغطية نفقات نشاطكم .. يرجو سيادة الرئيس قبولها مع فائق التقدير والاحترام..) وتكرر الجواب بشكل آخر لم يختلف كثيراً عما قاله قبل ذلك بسنوات بل ازداد تمسكاً به، وخرج الى داره وهو يردد ((لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. إنا لله وانا إليه راجعون .. والى الله المشتكى ومنه نتمسك بدينه القويم)) . تغيرت الزعامات وتبدلت أحوال الدنيا ولم يتغير الإمام المجاهد محمد الحسني البغدادي !! وتلك حال العظماء من الرجال. ومحطة أخرى تثير الاهتمام هي ما حدث في نهاية الستينيات من القرن العشرين لعبد المجيد الرافعي (وهو العضو البارز في قيادة حزب البعث الحاكم في العراق في حينها) أثناء زيارته لسماحته وكيف انه (أي الرافعي) انتبه (مستغرباً) لحياة سماحته المتقشفة وزهده، وكان استغرابه نابعاً من مقارنته لحياة سماحته والحياة (الارستقراطية) لبعض علماء الدين ممن كان قد التقاهم في لبنان. ناهيك عن مواقف الإمام الثورية في دعم حركات التحرر العربية. وعلق على ذلك شبيب المالكي (وكان في حينها متصرف لواء كربلاء) بقوله:- ((ان هذه الشخصية بعيدة عن المال والجاه كزهد الإمام علي (ع) ، أن الملفات الموجودة لدى الأجهزة المختصة حاليا أكثر من مرة تؤكد أن السيد البغدادي يرفض الهدايا التي تقدم الى سماحته)). وهنا لابد لنا من ذكر كلمة نافعة قالها الإمام المجاهد السيد البغدادي في تحصيله حول الأموال المأخوذة من الحكومات الجائرة إذ يقول: (( نهى في الأخبار المعتبرة عن طلب الحوائج من الظلمة كالسلطان وأمرائه فلا يحسن الاستغناء بهم بل كل الأموال التي تحصل بسببهم سريعة الذهاب عديمة البركة .بل شاهدنا ذلك في زماننا قد خاب المتعلقون بهم وأصابهم ما ليس في خلدهم من أقسام البلوى. ولا يخفى عليك اتساع هذا الأمر في هذا العصر فلا ترى من يسلم منه إلا النادر اللهم نجنا من ذلك وأنت ارحم الراحمين)). ولعل ابلغ شهادة لسماحته (رحمه الله) هي ما جاءت بعد وفاته على لسان البكر (وكان رئيس العراق حينها) ونقلها عنه (خير الله طلفاح) حين ابلغه بأن الحكيم يقبض من شاه إيران مليون دينار شهرياً، أما البغدادي فهو طاهر الذمة ولا يقبض الأموال من الشاه فأجابه البكر :- (( المرحوم الشيخ البغدادي رفض المال مني شخصياً .. فكيف تتوقع أن يأخذ من تلك المخصصات .. وهو الخصم العنيد لشاه إيران؟.. )) رحم الله الإمام المجاهد السيد محمد الحسني البغدادي وجزاه الله عنّا خير جزاء المحسنين، فقد كان من النادر الذي سلم ونجاه الله ، وقمة شاهقة فيها الكثير من قيم السلف الصالح . ــــــــــــــــــ (1) معالم الامامة في فكر السيد البغدادي، علي الحسني البغدادي، ص 155، بيروت، 2007م. (2) العدو الاميركي يفضح انصاره!! ـ اللهم لا شماتة ـ شبكة البصرة
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |