|
دي مستورا وخبراؤه وقضية كركوك
لقد بات من الصعب، منذ اعلان الادارة الامريكية الحرب على الارهاب، العثور على جامعات، سواء كانت امريكية او بريطانية، لم تتأثر بشكل او آخر بالضغوط الحكومية، خاصة في مجال بحوث ودراسات العلوم السياسية، نتيجة التحكم بنظام المنح والمخصصات التي تتيح للجامعات استمرارية التعليم واجراء البحوث. وقد امتدت أيدي مخططي السياسة الخارجية للدولتين اللتين قادتا الغزو غير القانوني على العراق، لتفرض شروطها، بدرجات متفاوتة، على الباحثين في مختلف المجالات. وقد بلغ تأثير السياسة الخارجية للادارة الامريكية وبريطانيا حد توفير فرص العمل للباحثين والاكاديميين في العراق المحتل، خاصة للعاملين في مجال الانثروبولجي (علم ألأنسنة) في سنوات الاحتلال الاولى، بحجة توفير الفرصة للباحثين لدراسة طبيعة المجتمع والمساعدة على تحسين اوضاعه آنيا ومستقبلا. وقد اعترض العديد من الاساتذة على استخدام الاكاديميين من قبل قوات الاحتلال وعلى تمويه طبيعة عملهم المفترض فيه ان يكون محايدا ولصالح الجميع وليس ذرائعيا لصالح دولة غازية. وكان حضور عدد من علماء الآثار العسكريين من الجيش الامريكي مؤتمر علماء الآثار، اثناء انعقاد مؤتمرعلماء الآثار العالمي في مدينة دبلن في ايرلندا، في حزيران (يونيو) 2008، ومساهمتهم بادارة بعض الجلسات، قد اثار احتجاج العلماء الذين يحترمون عملهم ويتمسكون بقيمه الأخلاقية وطالبوا بفصل البحث العلمي والعمل الاكاديمي عن الاستغلال السياسي والعسكري. وتزداد صورة التدخل الحكومي في عمل الهيئات التدريسية للجامعات وموضوعات اجراء البحوث وبالتالي ابتعاد نتائجها المعلنة وتقاريرها المنشورة عن الحيادية والموضوعية والدقة العلمية كلما قبلت الجامعات بالدعم المادي المشروط من جهات مختلفة. نتيجة هذه التدخلات وشبكة العلاقات غير الواضحة، عموما، ووجود بعض الاكاديميين والباحثين الشباب الطموحين للوصول الى اعلى المناصب وباسرع وقت ممكن، فضلا عن التبريرات الاخلاقية المصطنعة، بات العمل الاكاديمي، في هذه الحالات، جزءا من سياسة الدولة الخارجية على اختلاف تدرجاتها، فاقدا لاستقلاليته ومصداقيته. وقد لاحظنا، في اعوام الغزو الستة، بروز عدد من الأكاديميين، في بريطانيا، الذين يصفون انفسهم بانهم 'خبراء' في الشأن العراقي. تجمعهم ميزات مشتركة من بينها انهم شباب، حديثو العهد بالمنصب الجامعي، يبحثون عن محط قدم لهم في السلم التنافسي في الجامعات التي تعاني من خفض في الميزانيات ومن التسول للمنح لاجراء البحوث، ومعظمهم، وهنا الطامة الكبرى، لايجيد لغة البلد الذين يدعون انهم خبراء بشؤونه. وقد وفرت لهم سنوات الغزو والاهتمام بالشأن العراقي، غنيمة حرب لاتضاهى بشكل مناصب كرؤساء اقسام، وموفدين لحضور المؤتمرات الخاصة بكافة جوانب التدخل الاستعماري في العراق، وكمؤلفين لكتب تشبه وجبات الاكل السريعة، وكمتلقين للمنح والمخصصات السخية من جهات مانحة رسمية بريطانية أو 'عراقية'، تمكنهم من الاستمرار في ' بحوثهم ودراساتهم الموضوعية'. ولأنهم من الاكاديميين ووزارة الخارجية البريطانية راضية عن عملهم (ولا اعني بالرضا الدعم المادي بالضرورة بل قد يكون بشكل تسهيلات اخرى)، صار لهؤلاء 'الخبراء' موقع ومصداقية لدى منظمات الامم المتحدة. فلم يعد هناك تقرير يصدر عن وضع العراق الداخلي مالم تجد اسم 'الخبير' البريطاني واردا فيه، على الرغم من ضحالة معرفته بالعراق تاريخا وشعبا ولغة. وكلنا يتذكر نوح فيلدمان، الشاب الاكاديمي الذي استدعاه حاكم العراق الامريكي بول بريمر، ليكتب الدستور استنادا الى 'خبرته'. وهو الذي لم يزر العراق قبل ذلك ولامعرفة له باي شأن عراقي باستثناء، ربما، لون الاموال العراقية المنهوبة وعنصرية المستعمر. ويقودني ذكر نوح فيلدمان الى 'خبير' آخر من حديثي النعمة، يدعى دكتور غاريث ستانسفيلد، برز في الاعوام الستة الاخيرة، كخبير في الشأن العراقي والقضية الكردية ويتركز عمله حول 'التطور السياسي الكردي منذ التسعينات. وتشكيل حكومة اقليم كردستان مع التركيز بشكل خاص على الفيدرالية'، حسب تعريفه عن نفسه. وهو مدير مركز الدراسات الكردية في جامعة أكستر البريطانية الذي تم تأسيسه اثر تلقي الجامعة منحة مالية كبيرة تصل الملايين، من قبل مؤسسة ابراهيم أحمد التي تشرف عليها السيدة هيرو أحمد زوجة 'الرئيس' جلال طالباني. كما تدعم حكومة اقليم كردستان المركز 'بسخاء'، حسب موقع المركز الرسمي. وكانت السيدة هيرو قد زارت المركز، في حزيران (يونيو) 2008 ومنحت القسم، حسب صحيفة 'أكستر' المحلية، نصف مليون جنيه استرليني اضافية. ومما يستحق الذكر ان جامعة أكستر التي تضم هذا المركز قد حصلت على أدنى مستوى مؤخرا في التقييمات الدورية للبحوث الأكاديمية في جامعات بريطانيا. وكل هذه المعلومات، وبضمنها التساؤل عن مصدر اموال زوجة الرئيس، وكونها على الاقل تستخدمها للانفاق على مؤسسة عامة، ما كانت ستثير الاهتمام لولا ان مدير المركز المدعوم 'بسخاء' من قبل حكومة الاقليم، قد تم تعيينه كمستشار اقدم لتقديم النصح لمنظمة يونامي في شهري تشرين الاول (اكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2008، وبشكل خاص في مجال 'المقاطعات المتنازع عليها بين الحكومة العراقية وحكومة اقليم كردستان'. ولتوضيح سبب الاختيار وخطورته، لنبدأ من البداية. ففي 10 آب / أغسطس 2007، قررَ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدةَ تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي بقرار رقم 1770) وتوسيع دورَ الأُمم المتّحدةِ في العراق. وكان من اهم النقاط الرئيسية هي ان يقوم الممثل الخاص للأمين العام وبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، بتقديم المشورة والدعم والمساعدة إلى'حكومة العراق ومجلس النواب في مجال مراجعة الدستور وتنفيذ الأحكام الدستورية إضافة إلى تطوير عمليات تقبل بها حكومة العراق لتسوية الحدود الداخلية المتنازع عليها'. ولا اريد الدخول في تفاصيل عمل البعثة وصلاحياتها غير ان متابعة عمل ستيفان دي متسورا، الممثل الخاص للأمين العام للامم المتحدة، يثير الكثير من علامات الاستفهام حول حيادية وموضوعية عمله واعضاء البعثة. وما يهمنا هنا هو ادخال مفهوم 'المناطق المتنازع عليها' ومسؤولية يونامي عن تقديم 'المساعدة التقنية' للجنة البرلمانية العراقية المشكلة وفق المادة 23 من قانون المحافظات. وقد اعلن دي متسورا في بيان صحافي، يوم 16 من الشهر الحالي، بانه يواصل الاستشارات بشأن كركوك والتطورات الاخيرة بشأن محافظتي الموصل وديالى. وسيتضمن التقرير المزمع تقديمه الى مجلس الامن قريبا 'تحليلا موضوعيا ومهنيا' عن 'المناطق المتنازع عليها ورسم الحدود' وقد كذب البيان ما أشيع عن محاولة مستورا تقسيم كركوك. بينما تعالت الاصوات من كركوك مطالبة باستقالته. وكان دي متسورا قد تحدث، سابقا، عن اهمية دور الامم المتحدة المتزايد في كافة المجالات في العراق وتركيزه على نزع' فتيل القنبلة الموقوتة كركوك'. واذا ما جارينا يونامي في اغفالها ذكر دورها الرئيسي في العراق وهو انقاذ ماء الوجه للمحتل الانكلو امريكي، وسايرناها في ادعائها ' الحرفية والموضوعية'، يتوجب علينا التساؤل عمن جاء به دي متسورا للاستفادة من خبرته ومعرفته كـ'خبير' لنزع قنبلة كركوك ورسم حدود الموصل وديالى وبقية 'المناطق المتنازع عليها' واعداد التحليل الذي سيعرض على مجلس الامن قريبا؟ ان الخبير المختار هو ستانسفيلد، الحديث النعمة كمدير لمركز الدراسات الكردية، والمعروف بانه واحد من خبراء امريكا وبريطانيا الداعين الى تقسيم العراق باعتباره الحل الوحيد لانهاء العنف فيه. ويستند ستانسفيلد في نظريته الى ان العراق عانى دائما من العنف الطائفي والعرقي وكان الفشل حليف كل المحاولات الخارجية لانقاذه من صراعه الداخلي، لذلك يقترح ستانسفيلد على الادارة الامريكية وبريطانيا الا يضيعا جهودهما مقترحا تقسيم العراق ليعود الى وضعه الطبيعي بشكل اطلق عليه مصطلح Managed partition. وقد قدم تصوره عن تقسيم العراق في كتاب ' مستقبل العراق : دكتاتورية، ديمقراطية او تقسيم'. وهذه النظرية المجسدة للمنظور الاستعماري العنصري، فضلا عن ضحالة البحث الاكاديمي، ليست جديدة ولا تقتصر على ستانسفيلد وحده بل يشاركه في الترويج لها اكاديميون اخرون يعملون مع الادارة الامريكية والحكومة البريطانية الا ان ذكري لستانسفيلد كنموذج مرده هو اختياره كخبير من قبل يونامي وهو الحامل لايديولوجية التقسيم منذ سنوات والأبعد ما يكون عن الموضوعية التي تدعيها يونامي وما سيترتب على مساهمته، وغيره، من امثال نوح فيلدمان، وكلاهما في منتصف الثلاثين من العمر، من نتائج خطيرة آنيا ومستقبلا. ويرتكز 'خبراء' نظريات الوجبات الجاهزة الى مختلف الطرق لتضليل الرأي العام واثارة الحساسيات ودغدغة مشاعر الممولين. ففي الوقت الذي يروج لفكرة ' قبول الواقع في العراق' بمعنى الواقع الطائفي والعرقي الذي جلبه الاحتلال ومستخدموه، وفي الوقت الذي يكتب فيه عن انتفاء 'الروح الوطنية العراقية'، يدعو ستانسفيلد الى منح الكرد حقوقا اكبر فيما يتعلق بالفيدرالية. وفي ورقة مشتركة له مع زميلين آخرين، نشرت في كانون الاول 2007، يخلص المؤلفون الى ان الكرد، ولهذا علاقة باسدائه المشورة ليونامي عن كركوك، سيحصلون على كركوك، سواء بالطرق الدستورية او القوة، استنادا الى دعم امريكا لهم. وهذا زيف فاضح، لان التاريخ القريب والبعيد علمنا، وبوضوح عشرات الامثلة، ان الامبريالية الامريكية لن تقف مع احد ما لم يتماش مع مصالحها الاستراتيجية، وان من يخدمها في مرحلة آنية، سواء كان حزبا ام فردا، ستتخلص منه بعد زوال الحاجة الى خدماته. وهنا يكمن خطر توريط الشعب الكردي بالاستقواء الآني بامريكا على حساب العلاقة التاريخية والدينية والمجتمعية الوطيدة مع بقية ابناء الشعب العراقي. اما بالنسبة الى المستشارين والخبراء، الذين تواصل ادارة الاحتلال توظيفهم، فان العراقيين ليسوا بحاجة الى 'خبرة' الاستعماريين الجدد وان ارتدوا الثوب الجامعي ووقفوا تحت مظلة الامم المتحدة. وتشير الدلائل الى ان تقرير دي مستورا الذي سيقدم الى مجلس الأمن وبحكم توظيفه 'خبيرا' يقف حسب مصالحه الشخصية والوظيفية مع جهة دون غيرها، سيكون تقريرا يفتقد الى المصداقية والموضوعية المطلوبة وقد يؤدي الى صب الزيت على النار.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |