|
لماذا يقتل الحاكم شعبه.... !؟
د. محمد مسلم الحسيني بروكسل تأريخ الشعوب والأمم منذ نشوء البشرية وصيرورتها والى حد هذه الساعة مليىء بقصص غريبة حزينة قاسية ناتجة عن تسلّط بعض قوى الشر على أمور البشرية. هذه القوى الشيطانية تسلب حقوق الناس وتجردهم من مقومات العيش الكريم فتنكل بهم وتبطش فيهم وتحرمهم مما وهبهم الله وأعطاهم . الأمثلة كثيرة في التأريخ القديم والحديث والجميع قد سمع وعرف بها أو ببعض منها، بل ربما عانى وقاسى من تأثيرات هذه القوى الغاشمة بشكل مباشر أو غير مباشر. ان ما حصل في العراق إبان حكم صدام حسين هو أقرب مثال على الظلم والأذى والعذاب الذي عانى منه شعب بسبب حاكمه الطاغية. إضطهاد الحاكم لشعبه له صور كثيرة وأشكال متعددة تتباين في طبيعتها وشدتها وطريقتها، إبتداءا من حرمان المجتمع من مقومات وجوده في المأكل والمشرب والمسكن والعمل وممارسة شعائره الدينية وعاداته الإجتماعية، الى السجون وعذاباتها أو التهجير القسري ومصادرة الممتلكات والأموال بل حتى الأرواح أيضا. الحكام الأشرار أنواع ودرجات وكل له فنه وبراعته في القتل والتنكيل وسلب حقوق الناس، إلاّ أنه بين الحين والحين يظهر حاكم " فذ " بطرق التنكيل والتدمير فينال السبق على غيره ويتميز بمقالبه ووحشيته وبؤسه. كثير من المرات يسأل الإنسان نفسه بسؤال مكرر وهو : لماذا يبطش الحاكم بشعبه؟ ومهما يكن الجواب مفصلا فهو غير كاف ولا يقنع، لأن جميع المبررات والأسباب المطروحة لا تكفي أن توصل الإنسان السوي الى تفهم الموقف... قد يجيب البعض بان أسباب البطش قد تعود الى دواع سياسية أو مادية أو إجتماعية أو عنصرية أو طائفية أو من أجل الحفاظ على السلطة والعرش أو بسبب طبيعة عدائية لكل ما هو مختلف عن طبيعة الحاكم وتطلعاته أو لعدة أسباب مجتمعة. مهما تعددت الأسباب وتشابكت فهي غير كافية لتفسير عنف الطاغية وتصرفاته إذ لابد من وجود عناصر أخرى ذاتية تلعب الدور الكبير في ماهية تلك التصرفات ومصدرها. الحادث الإجرامي الذي تعرضت له إحدى المدن البلجيكية ( مدينة دينديرموند) مؤخرا أثار في نفسي حب دراسة سايكولوجية الأشخاص وتفهم تصرفاتهم. من خلال هذا الحادث الرهيب يستطيع المتابع أن يجد نقاط التشابه بما قد يقوم به أفراد عاديون مصابون بجرثومة حب القتل وبين ما يقوم به الجلادون والحكام الطغاة في شعوبهم. ملخص ما حدث في تلك المدينة الصغيرة التي تقع في قلب بلجيكا هو أن شابا له من العمر عشرون عاما دخل الى روضة من رياض الأطفال وشهر سكينه وبدأ يمزق بأجساد كل من تقع عليه يده من هؤلاء الأطفال البررة وهم كالبراعم والورود. قتل منهم من قتل وجرح من جرح وهو يتنقل من غرفة الى غرفة ومن صالة الى أخرى بحثا عن براعم جديدة يفتك فيها ويسفك دمها. لا يعرف أحد أسباب هذا البطش بهذه البراعم الفتية، فالقاتل الذي إمتطى دراجته الهوائية وهو يسير بكل هدوء وأريحية، قد عثرت عليه الشرطة البلجيكية وهو في طريقه الى روضة أطفال أخرى لإستكمال مهمة القتل والفتك وبدم بارد. كان القتل عند هذا المجرم متعة ولذة وإستئناس فرغم رفضه الإجابة عن دواعي القتل أمام الشرطة الجنائية فقد كشف الأخصائيون بأن القاتل ربما كان يبحث عن متعة ذاتية....! فرغم هدوء القاتل وطبيعته وسيرته الذاتية التي لا تنم عن وجود خلل واضح في تعامله مع طلاب مدرسته وجيرانه وزملائه في العمل، إلاّ أن الشخصية المستترة هي غير الشخصية المعلنة . ففي ذاته وفي مشاعره وأحاسيسه يسري حب القتل والعنف وسفك الدماء. هكذا ربما كانت دماء العراقيين تسيل على يد الجلاد الذي كان يطرب لسماع الآهات ويحسبها موسيقى ويتلذذ بمنظر الدماء ويتصورها أنهار وجداول ويستانس بصرخات الثكالى ويحسبها دعاءا وإبتهالا وينتعش بلطم الأمهات لوجوههن ويتخيلها تصفيقا وتشجيعا .... نعم قتل الأبرياء والبطش فيهم قد تكون بدواعي المتعة..... حيث يتمتع بها مرضى النفوس ومرضى العقول وما أكثرهم.... فقد وصف الأخصائيون مجموعة من الأمراض النفسية والعقلية والنزعات الذاتية المريضة التي قد تؤدي الى جعل أصحابها يحبون القتل والفتك والتدمير... وصف علماء النفس حب الإنسان بإيذاء غيره وتعذيبه وحتى قتله في بعض الأحيان من أجل المتعة بـ "السادية "... كما أن هناك أمراض أخرى كالكآبة وإضطراب السلوك والشخصية والعقد النفسية والشخصية السايكوباثية وغيرها التي تتميز بعدائية المريض وشراسته ضد الآخرين. وقد وصف أخصائيو الأمراض العقلية أيضا بعض الأمراض العقلية التي تبث جرثومة حب القتل بصاحبها وهي أنواع وفصائل منها مرض فصام الشخصية " الشيزوفرينيا". هذه الأمراض النفسية والعقلية لابد أن تلعب دورا هاما في نفسية الحاكم الظالم الذي يقتل شعبه، كما تلعب هذه الأمراض الدور نفسه في نفوس بعض الإرهابيين الذين يقتلون غيرهم ويقتلون أنفسهم ليشعروا بلذة القتل، وهنا قد جمع هؤلاء بين "السادية والماسوشية" في وقت واحد! الطفولة الصعبة المنبعثة من إرهاصات الفقر والجهل والإضطهاد والإهمال وفقدان حنان الأبوين والصدمات النفسية أثناء الطفولة، قد تتمخض عن تكوين عقد نفسية خطيرة عند البلوغ. تظهر علامات هذه العقد بأشكال وأعراض مختلفة، كجنون العظمة والأنانية وحب الأنا والقسوة والحقد على المجتمع وعلى أبنائه وفقدان القيم والأخلاق والتمرد على الواقع والخشونة والجسارة والعدائية وإرتكاب الجرائم المختلفة وغير ذلك من الأمراض الإجتماعية المنبثقة عن الإصابة بهذه العقد النفسية. الرئيس المصاب بهذه العقد سيتعامل دون شك مع شعبه بما تمليه عليه نفسه المريضة وستكون أفعاله نسخة لأحاسيسه غير الطبيعية ومرآة عاكسه لصراعه مع ذاته وتعويض مستتر عن عقدة الشعور بالنقص التي يعاني منها. الشخصية السايكوباثية، هي حالة من الأمراض النفسية التي تكون موجودة في المجتمعات بنسبة واحد في المائة. المريض عادة يستخدم الأساليب الملتوية لإيهام الآخرين من أجل تحقيق أهدافه الذاتية وتمرير نزواته وإراداته. يستخدم التمويه والخداع والإدعاء بالمبادىء اللفظية ويعتمد على التخويف والعنف من أجل السيطرة وإشباع الذات، فهو يمرر مصالحه حتى لو كان ذلك على جماجم الآخرين. لا يتحمل السايكوباثي أي شخص يقف أمامه أو يعارضه، بل يستخدم كافة الطرق لإزالته حتى ولو بالتصفية الجسدية. لا يرتبط المريض بأي عواطف مع مجتمعه فهو يقرب من يستفيد منه وينهي من يقف بوجهه. لا يشعر المريض بتأنيب الضمير أمام تصرفاته وأعماله الشائنة، ولا يأخذ عبرة من أخطائه، وينتهج نهجا عدائيا إزاء الآخرين يتسم بالقسوة والشدة وغياب الرحمة والشفقة. في فصام الشخصية يعيش الفصامي في أوهام وضلالات، فقد يكون وهمه "حسّي" أي يرى ويسمع و يلمس أو يشم ويتذوق ما ليس وجود له. أو قد يكون وهمه" إعتقادي" أي يعتقد بما لا حقيقة له وهنا يبرز وهم الإعتقاد بالعظمة الذي نسميه "جنون العظمة" أو وهم الإعتقاد بالإضطهاد أي يتصور المريض أن كلّ من حوله أعداء ينصبون له الشراك ويتآمرون عليه. وهنا تبرز العلّة ، فحينما يكون الفصامي رئيسا أو حاكما يخترقه جنون العظمة مصحوبا بوهم الإعتقاد الإضطهادي، فيتصور بأن شعبه يتآمر عليه ويريد الخلاص منه ويفسر أي تصرف غريب أو نقد ، حتى لو كان من أقرب المقربين اليه، بأن ذلك مؤامرة تحاك ضده. تثور ثائرته وتظهر ردود أفعاله القاسية المستبدة التي تنبعث من وهم وضلالة الإعتقاد. هذه أمثلة مبسطة وملخصة عن الأسباب التي قد تقود الحاكم المضطرب الى سلوكيات غير طبيعية والى ردود أفعال لا تتناسب مع الأفعال المقابلة والى زيغ في التفكير والإدراك والإعتقاد. فالشعوب المنكوبة التي يتسلط عليها حاكم مختل عقليا أو نفسيا أو إجتماعيا قد يذيقها الأمريين وقد يترك عندها آثارا نفسية وإجتماعية لا تزول بسهولة رغم حركة الوقت ومسيرة الزمن.... !
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |