حرّيّتنا .. مشوهة كتمثالنا!!

 

سهيل أحمد بهجت

sohel_writer72@yahoo.com

في الولايات المتحدة الأمريكية وفي مدينة نيويورك تحديدا، ينتصب تمثال الحرية المشهور والذي صممه (فريدريك بارتولدي) وأهدي من قبل الجمهورية الفرنسية إلى الولايات المتحدة في عام 1886 في الذكرى المئوية الأولى لاستقلال الولايات المتحدة الأمريكية والذي يبلغ ارتفاعه 46 مترا ووزنه يبلغ 125 طن، ولست هنا بصدد الدخول في تفاصيل تاريخ تصميم ووضع هذا التمثال الذي يرمز إلى الحرية، ولكني أود أن أقارنه بالأعمال الفنية العراقية، وعذرا إن أسميتها بالبائسة مقارنة بصروح عظيمة بنتها شعوب وأمم، فهي وإن كانت تحمل ذات القضية وتثير فينا فكرة الحرية على الدوام، لكنها تعكس تماما الحرية التي نعيشها.

لدينا في بغداد ـ وهي المدينة التي زرتها صغيرا جدا فلم أعد أذكر شيئا عنها ـ تمثالان للحرية، الأول وهوجدارية الفنان المرحوم جواد سليم والثاني تمثال الحرية في ساحة الفردوس الذي حل محل تمثال الطاغية المجرم صدام وحقيقة لا أعرف من هومصممه، وما أثار انتباهي هنا هوأن كلا العملين الفنيين، خصوصا التمثال القائم في ساحة الفردوس، لا يعكسان في نفس الناظر أي تأثير نفسي وعاطفي حقيقي، فالجدارية هي أشبه بالقصة وهي تحتاج إلى الشرح وكأنه كتاب مستغلق عصي على الفهم، أما تمثال (حريتنا) في ساحة الفردوس فهوانعكاس دقيق مشوه لمفهوم الحرية عندنا وقد وصفه أحد أصدقائي قائلا بتهكم: (إنه يبدولي أشبه بغريندايزر مصابا بعبوة ناسفة من صنع محلي).

الحرية عندنا لا تجرؤ على التعبير عن نفسها إلا والخوف معها، إنه أشبه بتمثال صنع محاطا بفتاوى تحريم "التصوير" ومن صور إنسانا فقد إدعى القدرة على الخلق!!

يبدولي تمثالا ممسوخا فلا تدري ما هو، إنه ليس كتمثال شهرزاد التي تحكي قصص ألف ليلة وليلة لشهريار، وتمثال الخادمة في قصة علي بابا والأربعين حرامي، فهذه التماثيل تبدولي أكثر جمالا وواقعية، لكن تماثيل وجداريات الحرية تعكس، فيما يبدولي، أفكارنا المشوشة والمشوهة عن الحرية التي نريدها ولا نملك فكرة واضحة عنها.

كلنا يتغنى بالحرية، وحتى البعث القاتل المجرم كان يتغنى بها ويضعها في قمة شعاراته، ولكن لأن الشعب لم يعِ ولا زال لا يعي الحرية كمفهوم والفارق بين حرية الشعب وحرية الفرد لم يتضح للعراقيين إلى الآن، الافتقار إلى المفهوم هوالذي يجعل الشعب يندفع نحوالحرية بكل عاطفة ولكن ما أن نحاول كمجتمع أرساء مفاهيم الحرية والديمقراطية حتى يبدأ التزويق والتصنيف إلى مقبول وغير المقبول تارة بحجج دينية وبحجة أن المجتمع العراقي "متدين محافظ" وأنه "عشائري قبلي" و"هويتنا الخاصة" و"الخوف على الأخلاق"!! وما إلى ذلك من أعذار تنتهي بنا إلى نشويه الحرية وإعادة المجتمع إلى الخلف.

تماثيلنا بسيطة وفقيرة وتفتقر إلى الضخامة التي تخلق ذلك التأثير العميق في النفس بأن هذا التمثال يعكس بعظمته وضخامته مدى تقدير العراقيين للحرية وإيمانهم بها، لكن حينما ننظر إلى تماثيلنا ومنحوتاتنا نجدها توحي للناظر بأن للحرية أهمية تساوي في نظر العراقي أهمية الخبز والباذنجان والكهرباء وغيرها من الأشياء التي نحتاجها في حياتنا البائسة، فهل حرية كهذه تستحق منا أن نضحي من أجلها؟ بمعنى آخر سيبدوعملنا هذا مضحكا، أن يضحي بنفسه في سبيل الباذنجان ورغيف الخبز.

إن الحرية هي التي صنعت الأمم المرفهة والناجحة والغنية والمتطورة والملتزمة بالقانون، لا يوجد في التاريخ شعب كان غنيا ومرفها أنتج الحرية، فالحرية كانت على الدوام هي الدافع الأساس في الثورة الفرنسية والأمريكية وحتى في الثورة الهندية السلمية بقيادة المهاتما غاندي، ونحن نشهد نهوض الهندكدولة عظمى، بينما ثورة العشرين التي نتغنى بها إلى اليوم أنتجت لنا نظاما برلمانيا ضعيفا وحرية مشوهة انتهت بسقوط الديمقراطية البرلمانية بفعل القوميين والبعثيين والماركسيين في انقلاب 1958 الدموي الذي جاء بجمهورية دكتاتورية، أجهزت على ما كان في الدولة العراقية من حسنات. وإذا كنا نريد أن نرسخ الحرية فعليا في حياتنا الاجتماعية، فعلينا قبل كل شيء أن نعود أنفسنا على أخلاق قد تبدوغريبة عنا لأول وهلة، فدول العالم المتحضر تعلمت أن يحترم كل فرد من أفرادها حرية الآخرين، في تركيا مثلا، وهوبلد مسلم، يمارس كل فرد حريته بدون أي تدخل من أي أحد، حرية شرطها الوحيد هوأن لا يؤذي صاحبها الآخرين بشكل مباشر، أما نحن، فمن أسهل الأمور لدينا أن نتدخل بشؤون الآخرين بحجة "الحفاظ على الأخلاق" و"الهوس الديني"، ونشجب رأيا من الآراء بحجة "أنه كفر وزندقة"، والعقبة الحقيقية أمام الحرية الآن هو"طبقة رجال الدين" و"النظام القبلي العشائري"، وحينما نتخلص كعراقيين من هاتين العقبتين ومن هيمنتهما الشاملة، ستكون الحرية متاحة لنا.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com