|
فلم ثقافي .. وقصص أخرى
حجي خلات المرشاوي فلم ثقافي دخل مراهقان إلى محلي الخاص بتأجير أقراص (السي دي). طلبا بعد تردد وارتباك فلماً أباحياً. قررتُ أن أمازحهما قليلاً فأخبرتهما بأن كل الأفلام التي عندي قد أجّرت. خرجا وتناقشا قليلاً ثم رجع الأصغر عمرا وسأل عن فلم رومانسي. واصلتُ مزاحي الثقيل واعتذرتُ لأن الأفلام الرومانسية نفذت أيضاً بسبب زحمة العمل. خرج ووقف إزاء صاحبه الذي أكفهر وجهه. رجع الصغير ثانية وأراد أي فلم فيه بعض اللقطات الجريئة، فتأسفتُ وبيّنتُ له أنّ ما تبقى لدي لا يحتوي على أية لقطة واحدة جريئة. ظلاّ يتجادلان ويدوران حول نفسيهما كعصفورين دائخين. أخيراً، دخل الأكبر عمراً وقال في نبرة منخفضة ومتوسلة: أليس لديك فلما تكشف فيه البطلة عن نصف ساقها..! *************** تعويض أخيراً غفت الزوجة المسنّة وغطّ الأطفال في نوم عميق. التقط جهاز التحكم عن بعد وأدار بضغطة زر واحدة وجهة الستلايت. صارت القنوات تترى أمام عينيه ناقلة إياه نحوعالم مبهم وساحر ومفعم بالغموض والأحلام. اختزل الطريق الطويل باستدعاء احد الأرقام المألوفة لديه. أشرقت الصورة وظهرت صبية ممشوقة القوام، بارعة التكوين تتمايل وتتغنج بأنوثة تجعل من جليد القطب بركاناً هائجاً. فتح عينيه على اتساعهما وتمتم (يا الله، أي عالم هذا!) ركز على الجسد الممزوج بخمرة الآلهة ونار الجحيم يتماوج، يتهزهز، يتوتر وينبسط كسحابة بيضاء.. يتكوّر، يتكتل، ينعصر ويذوب كنسمة ربيع. أطراف بيضاء تشوّش بتأرجحها على الإتزان المعتاد لهواء الغرفة وتُفقِده القدرة على التوزع بالتساوي فيها. ثديان ملساوان ممتلئان نافران كإوزتين برّيتين يجعلان الضوء يفقد صوابه ويفضّل الركون في زاوية مظلمة. بطن متناسقة العضلات تتوسطها صرّة تحدثك عن سرّ الحب والرغبة والشوق الحرون. خلفية مشدودة كوتر (الزير سالم) مكوّرة كوجه الصباح ومصقولة كجبين الحرية. (...) منعّمٌ منمنمٌ ململمٌ يستقر كأخدود خبيث الغايات بين شفيري جهنم. يا للأسف.. قالها همساً وهويرى سنيّ عمره تنزلق مثل كرات الزئبق من بين يديه وتتدحرج على الجسد البضّ الشهي لتصدمه بحقيقة مُرّة كاد ينساها. لقد عاش عمراً بأكمله خاويا كصحراء الربع الخالي واجرداً مثل صبار مستوحد. نظر في ما حوله ليتأكد من صدق اكتشافه الموجع والمتأخر. حياة انقضت هدراً في سرداب زوجة واحدة وبيت واحد ومحيط واحد ولون واحد أوحد.. تحسّر متلعثماً (يا للخسارة حيث لم يعد ثمة متسع لتعويض كل هذه الأشياء). حشرج كطفل مخنوق العَبرات وسقط جهاز التحكم من يده، وتشوّهت صورة الفتاة الخرافة تحت سيل الدموع المنهمرة. *************** تسلسل كان أول الداخلين إلى قاعة المسرح. تجوّل بين الكراسي متململاً ومشتّت الذهن. استقر به المقام في آخر الصفوف فجلس على الكرسي المنزوي بعيداً في احد أركان القاعة. حاول المسئولون إقناعه بتغيير مقعده لأنه سبق الجميع بقدومه غير انه تشبث باختياره وقرر في دخيلة نفسه انه لن يبرح مكانه أبداً. بيّن احدهم له أحقيته وجدارته في شغل احد الأماكن في الصف الأمامي لكنه أكد لهم انه لن يأخذ إلاّ ما يستحقه بالفعل. تقاطر الناس على القاعة وبدأ مهرجان توزيع الأدوار على الحضور. حددوا ـ دون أن يأخذ رأيه احد ـ أبطال المسرحية والممثلين المساعدين وبقية الكومبارس. قرروا ـ دون مشورته أيضا ـ من يجلس في الصف الأمامي والصفوف التالية. ازداد الزحام وعلا الهرج والمرج داخل أوصال المكان. لم يكترث بضجيجهم واعتبر ضوضائهم احد حقوقهم الطبيعية. كادت الأصوات تخفت والهدوء يعم حينما رضي الكل بما حصلوا عليه، لكن وصول إحدى المشاهدات في آخر لحظة قبل بدء المسرحية أشاع الضجة من جديد. بحث الجميع عن مكان للسيدة المحترمة ثم نظروا كلهم في وقت واحد إليه. تقدموا نحوه وطلبوا منه بصلافة أن يُخْلي المقعد للقادمة الجديدة. قال لهم بأسلوبه الهادئ إنهم يسلبونه حقه لكنهم ازدروا كلماته. نهض متحدياً تجاوزهم واخبرهم بأنه ليس هناك قوة في الأرض تجعله يتنازل عن حقه. انغرست في عينيه آلاف الأصابع وامتدت إليه مئات الأيادي ورفعته رفعا ثم رمته بلا شفقة خارج القاعة. *************** مناكفة ضاقت ذرعاً بحركاته المريبة. حاولت قدر المستطاع تحاشي احتكاكات فخذه المبالغ فيها بفخذها. انكفأت على نفسها في زاوية المقعد وحوّلت وجهها صوب نافذة السيارة في رجاء خائب بأن يمضي الوقت بسرعة وتنتهي تلك المهزلة. استمر بمناوراته وصار يضيّق الخناق عليها أكثر وبات الأمر غير محتمل. كظمت غيظها وهي تحسّ بالكتف التائهة تبحث عن اقل فرصة للالتصاق بكتفها. أحسّتْ بتهدج أنفاسه والشعاع الساخن المنبعث من مسامات جلده ليحكي في خجل عذراء مرتبكة عن حرمان أبدي وشوق حرّاق. في خطوة طائشة، شعرت باليد المتوترة المرتعشة تحط كحمامة بلهاء على تدويرة فخذها المكتنز وتعصر لحماً شهياً طرياً معجوناً بشهوة الآلهة القديمة. نكّست رأسها وهي تراقب ذلك الانتهاك الهمجي لمساحات أنوثتها دون أن يوخز تحفظها العقلاني وجدان ذلك الرجل الأهوج. تمادت اليد الشبقة في اندفاعها وصارت تقرص فخذها قرصات مؤلمة. إرتبكتْ، حرّكتْ رأسها يميناً وشمالاً، أطلقتْ زفرة انزعاج أخطأت هدفها ولم تنجح في ردعه. أبعدتْ اليد المتطفلة عن ممتلكاتها ورمقتْ صاحبها بنظرات تحمل تهديداً واضحاً دون طائل. استأنفَ مناكفها هجومه وأصبح أكثر جرأة ووقاحة. انفجرتْ كبركان هائج مرة واحدة وصبّتْ حممها على رأس الرجل الذي أُخِذَ على حين غِرة. أسمعتهُ أقذع الكلمات وأبشع النعوت وجعلت منه أضحوكة في فضاء السيارة المزدحم بالركاب والدخان وهدير المحرك. في منتصف الليل تماماً، تمددتْ على ظهرها وقررت إنها نجحت في التصرف وفق ما يشتهي المجتمع وما تفرضه التقاليد، لكن في داخلها.. في أعماقها.. في لبّ عالمها ألحميمي.. حيث لا رقيب ولا عين تحسب عليها الأنفاس صارت تستعيد كل حركاته وانفعالاته،وراحت تغوص بعيدا في تأملها وبدأت بصعوبة تتذكر لون عينيه وتسريحة شعره ورائحة حرمانه المتقدة. (اااااه) تنهدت ووضعت يدها على الفخذ الذي تلقّى أولى جرعات التعرّف إلى لمسات الرجل وأدركت إن تلك البقعة هي الأكثر حياةً وإبهاجاً في كل مفاصل جسدها البض. *************** شاعرة تقف على المنبر. تلقي قصيدتها المفعمة بالدفء والرقة والجمال. تفاجئها العيون الشرهة بالتحديق في جمالها الأسطوري. تنغـّم عباراتها وتموسق مفرداتها كي تخاطب الإذن والوجدان لكنها لا تفلح إلاّ في سحر العيون وإثارة الغرائز. تدرك إن في متن قصيدتها ما يضارع جمال وجها وأكثر، وتحاول أن تقهر حقيقة أن شهوات الجسد أقوى من قدرة الروح على استقبال الكلمات الدافئة والأفكار النبيلة. تتخلص في تلك اللحظة من أدران الجسد وتصبح روحاً هائمة في فضاءات الشِعر إلاّ إنها تخفق في تخليص الجمهور من ارث ثقيل يمتد عبر آلاف السنين، ويحسب الأنثى كائناً مخلوقاً للسرير فقط. تبحث عن أفكارها التي نثرتها في أوصال القاعة فلا تجد غير بقايا عطرها المتشبث بالأنوف والثغور. تبتسم رغم كل شيء ابتسامة حفيفية الوقع بانتصار غير خالص حين تكتشف إن الخلل لا يكمن في القصيدة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |