أوباما وسياسة الجراحة بدون ألم..!

 

أسامة عبد الرحيم/ صحفي مصري

sama.islamic@gmail.com

"دعوني أقول هذا في أوضح صورة ممكنة الولايات المتحدة ليست في حالة حرب مع الإسلام"، بهذه العبارة المهدئة دفع الرئيس اوباما محقنه في وريد العالم الإسلامي الحانق غضباً، مستهلاً سياسة جراحية ناعمة بدون ألم؛ يأمل لها أن تكون احد حلول الخروج من نفق الأزمة الأمريكية التي بلغت ذروتها خلال الحقبة "البوشية".

إعلان أوباما عن سياسته الجراحية أثار جدلاً ذو علامات استفهام كبيرة لا يقل عن الجدل الذي أثير حول اختياره منصة أنقرة لخطابه الموجه إلى العالم الإسلامي وإدارة ظهره للقاهرة، وليس من قبيل المصادفة أن يستهل أوباما جراحته هذه من ساحة السلطان أحمد في قلب العاصمة التركية أنقرة آخر معاقل خلافة المسلمين.

ملامح الجراحة السياسية الجديدة أثارت ارتباك البعض و ريبة آخرين، بحيث تجاهل الفريقين أن الرجل لا يمثل وجهه الإفريقي الودود فحسب، بل هو ابن المؤسسة الإمبريالية الأمريكية الحاكمة التي تأسست وفق معادلات المصالح وحدها.

ومن ثم فإن الانقلاب الذي يبدو للبعض في إستراتيجية خطاب أوباما للعالم الإسلامي على وجه الخصوص؛ لا يعدو كونه سراباً في خطاب يحسبه الظمآن ماء، في حال تجاهلنا طواعية تعقد صناعة السياسة الأمريكية ومخططاتها طويلة الأمد.

وهذا لا ينفي جزئياً صحة المقاربات التي تتسم بتفاؤل حذر بقدرة إدارة أوباما على تطوير صياغة جديدة تكون أكثر توازناً لأدوار واشنطن وفي نفس الوقت تحقق للولايات المتحدة مصالحها في العالم الإسلامي.

وهذا ما ينقلنا إلى الحديث عن حرص أوباما الشديد على تحسين صورة أمريكا المطبوعة في أذهان المسلمين منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 ، والتي قامت واشنطن على إثرها بالعدوان على كل من أفغانستان والعراق دفعة واحدة، وعاقبت دول إسلامية أخرى كثيرة مثل سوريا وإيران والسودان وغيرها، بدعوى دعم الإرهاب.

ويحق للمراقبين الارتياب في نتائج هذه الجراحة الهادئة، والتي شرع فيها أوباما بمعاونة باقي فريقه وجهز لها أدواتها ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً؛ وذلك بعد النزيف الحاد الذي تحاول واشنطن التستر عليه في العراق وأفغانستان، فضلاً عن قلق المحافظين الجدد من تملص قوى عالمية صاعدة وتمردها على عرش "البلطجة" العسكرية الأمريكية.

وبالرغم من أن الخطاب "الأوبامي" انتهج بلاغة الكلام وحسن الخطاب واختيار التعبير المناسب متعمداً دغدغة مشاعر العرب والمسلمين، إلا أن مناورات الرجل غيرت من خطابها ولم تغير شيئاً من إستراتيجيات القوة العسكرية الأكثر بطشاً على المدى البعيد.

وبمجرد النظر في مواقفها حيال العراق وأفغانستان وفلسطين نجد مزيداً من ضجيج تصحيح الأوضاع وأقل القليل من طحين العدالة، وهو ما يجعلنا في حالة حرج أمام رؤية المتشائمين من سياسة اوباما.

وبعيداً عن اتهامنا بالنظرة الاختزالية نود لفت الأنظار أن للولايات المتحدة – شأنها شأن باقي دول العالم- مصالح إستراتيجية دائمة في العالم العربي والإسلامي، لا تتغير بتغير الإدارات وطواقمها وقناعاتها.

يأتي على رأس هذه المصالح ضمان أمن كيان الاحتلال الصهيوني وتأمين بحيرة النفط في الخليج وضمان تدفقها على نحو يشبع شراهة واشنطن، ما يقتضيه ذلك من تواجد عسكري دائم وتهميش الفاعلين الإقليميين المناوئين للسيطرة الأمريكية.

وهذا لا يمنع حرص أوباما على إمساك العصي من المنتصف وتنفيذ جراحته الناعمة بفتح صفحة - تكتيكية - جديدة مع العالم الإسلامي، حيث قال منذ أول يوم لتنصيبه: "بالنسبة للعالم الإسلامي.. نسعى لنهج جديد للمضي قدمًا استنادًا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل" .

ومن الغبن أن نسوى بين سياسات حقبة اوباما ونظيرتها الـ"بوشية" على مستوى التكتيك، فالأخيرة امتازت بـ"الرفس" العسكري المبالغ فيه من قبل البنتاجون و"النهيق" الإعلامي السليط من قبل المحافظين الجدد، بينما تلفحت حقبة أوباما بدعاية كاذبة مفادها أنه داعية سلام ورجل تغيير.

إلا أن الواقع حتى الآن يبشر أنه لا فرق في الإستراتيجية الأمريكية في كلا الحقبتين؛ ما يميل بنا إلى القطع بأن حقبة أوباما الناعمة ستكون أخطر من الحقبة سلفه بوش من ناحية تحقيق الأهداف التي فشل فيها الأخير بأقل كلفة عسكرية وأخفض ضجيج ممكن.

مما يستدعى أن تتعامل الأنظمة العربية التي ارتضت أن تدور في الفلك الأمريكي مع إدارة أوباما وفق مكيال المصلحة، وهو ما تجيده حتى الآن عدد من الدول منها المحاصر مثل كوريا الشمالية ومنها المهدد بالحرب مثل إيران ومنها الطامح لمكان تحت قبة القيادة العالمية مثل تركيا، ولعل ملف أزمة اوكامبو الأمريكية في السودان فرصة العالم العربي للعودة إلى طاولة الفعل بدلاً من أن يظل مفعولاً به منذ عقود.

ولربما يتهمنا البعض بالنظرة الاختزالية متعقبين طرحنا بالقول: ألم نعاني نحن العرب خلال الأعوام القليلة الماضية من طغيان الأداة العسكرية وتهميش الدبلوماسية في مجمل السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وترحمنا، سراً أو علناً، على إدارات سابقة صاغت مقاربات أكثر توازناً ومارست التفاوض مع الأصدقاء والأعداء عوضاً عن مجرد الترهيب بالمارينز؟

وجواب ذلك أن آليات التصحيح الذاتي التي تتمتع بها الديمقراطية الأمريكية وتجلت بفاعلية في انتخاب أوباما رئيساً قد يكون لها بعض التداعيات على صناعة السياسة الخارجية، وربما أطلقت عملية إعادة نظر في سياسات ثبت أنها أضرت بالمصالح الأمريكية وعمقت من التهديدات الواردة عليها.

وتكفينا الإشارة إلى مناورات أوباما في أفغانستان بعد مضى سبع سنوات على احتلالها، حيث أدى نجاح طالبان في لعبة عض الأصابع مع الولايات المتحدة وحلفاؤها ، إلى صفع غطرسة واشنطن وعرقلة الطموح العسكري للناتو، ما جعل أوباما يصرح في نهاية المطاف بأن الوضع في المستنقع الأفغاني يزداد سوءًا، وإن الحل يتطلب ما هو أكثر من مجرد القوة العسكرية، وهو ما نستطيع أن نترجمه عملياً بخسارة أمريكية مرحلية في أفغانستان.

غير أننا وقبل أن نغرق في تفاؤلنا بقرب الانسحاب الأمريكي من كابول، علينا أن نعي جيداً أن أمريكا ليست إحدى جمهوريات الموز العائمة في المحيط، وإيضاح ذلك أن مدلول إشارات أوباما أخفت وراء الأَكَمَة ما وراءها، فبدلاً من ترجمة الغزل الذي أطلقه سراً طلباً للمفاوضة مع طالبان عبر وسيط عربي كبير، عزز عدوانه العسكري بـ17 ألف جندي إضافي، ما يعد انقلابا غير مبرر على شعاره الانتخابي المعنون بالتغيير.

وفي العراق لم يختلف الأمر سوءاً عن أختها أفغانستان، فمن الوعود بالانسحاب إلى الاكتفاء بسحب الجنود "المقاتلين" والإبقاء على قواعد عسكرية، وتوقيع اتفاقية أمنية مع دُمى غزلتها واشنطن بيديها ولقنتها أن تنحني برأسها مرددة عبارة واحدة "نعم سيدي"، تضمن هذه الاتفاقية للعنكبوت الأمريكي استكانة فريسته داخل شرنقته العسكرية، ولا ينتهي العمل الفعلي بموجبها إلا يوم القيامة .

وبمرور الأيام الأولى من العملية الجراحية السياسية لإدارة أوباما، تبخر أي حديث عن الانسحاب الكامل من العراق، واتضح أنه وهم غير حقيقي لم يكن يعنى وفق مفردات أوباما سوى محاولة إعادة توزيع قوات الاحتلال مع استمرار المهام حتى بلوغ الأهداف  .

ولو حولنا البوصلة تجاه فلسطين سنجد محددات مانعة على سياسة أوباما لا تسمح له بمراعاة الحقوق الفلسطينية والعربية في الصراع مع كيان الاحتلال الصهيوني، فضلاً عن أن سيطرة اليهود الأمريكيين أمثال رام إيمانويل و جوزيف بايدن على المواقع الحساسة في إدارة الرجل الودود، تلقى بظلال من الشك حول وعود التغيير في السياسات الراهنة المستجيبة في التحليل الأخير للمصالح والرغبات الصهيونية.

وهذا ما جعل العديد يخفقون في صياغة مقاربة مقنعة تترجم توقعاتهم المتفائلة إلى تحليل واضح المعالم لحدود وأولويات تغيرات أوباما المحتملة في السياسة الأمريكية، فشتان بين ما نريده نحن العرب وما يستطيعه أوباما الذي لا يكترث في الأخير لما نريده، وهو ما جعل سقف تفاؤلنا بسياسة أوباما لا يتعدي القول بأنه من العسير على أي إدارة الرجل أن تفوق حقبة بوش الأولى والثانية سوءاً.

ومن الخطأ أن نتوجه نحن العرب إلى إدارة أوباما بما يشبه العرائض المطلبية ما لم يكن يدعم ذلك تحرك سياسي ناضج يضغط بالمصلحة، فالمصلحة وحدها التي تقتضي دعم المقاومة في العراق وفلسطين وأفغانستان، هي التي ستحرك ملف الانسحابات العسكرية الأمريكية وإيقاف الحرب على الإرهاب – والمقصود به الإسلام - مع بوادر حل القضية الفلسطينية ولو جزئياً ؛ بدلاً من الدوران في حلبة لعبة الوعود الأمريكية التي تنتهي بالرفض الصهيوني المُعد له سلفاً.

فالمؤكد أن أوباما، وأمامه لائحة طويلة من الأزمات الداخلية وكذلك العالمية غير القاصرة علينا، سيركز جراحته السياسية الناعمة على التعاطي مع الملفات الملحة قبل أن يفكر في إعادة صياغة المرتكزات الأخرى للسياسة الأمريكية نحو باقي الملفات التي يتقاسمها العرب مع إدارته .

ولن تفوتنا الإشارة بان طموح إيران وممانعة سورية وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان والنفط المتدفق من الخليج، تحول حتى الآن بين أوباما وبين قبول تخفيض معدلات الوجود العسكري في العراق والخليج عموماً أو الانفتاح الجدي على دول المنطقة.

أخيراً وباستثناءات قليلة العدد، فان المعضلات الحقيقية التي تواجهها جراحة اوباما السياسية في العالم العربي والإسلامي، تحول دون فاعلية سياسته في دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان ووقف دعم نخب الحكم التي أيدت بالصمت والتواطؤ السياسة الصهيو- أمريكية في هذا العالم.

ما يجعلنا في الأخير نحث حركات المقاومة والمعارضة الإسلامية والقومية على حد سواء أن تعيد قراءة ملف الرجل السياسي، وتتفهم دور المصالح الأمريكية التي على أساسها تم انتخابه وترجيحه على كفة رجل أبيض كالثلج أمريكي قح غارق في الصهيونية مثل جون ماكين.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com