|
في كوردستان تتعانق الأعراق والأديان
كفاح محمود كريم هنا في العراق أو في كوردستان من أقصى ممالك ميديا إلى أقصى ممالك آشور، نزولا إلى أور وطيات الهجرات الأولى لشعوب وأقوام شمال مابين النهرين إلى جنوبه حيث الحضارة الأولى والحرف السومري الأول في مقامات الكلام وصفحات الحضارة الأولى، صعودا إلى تلك الهضاب بين أكد وبابل الحضارة والإنسان وأختام القوانين وبدايات عصر الدستور وأنسنة الإنسان. هنا في كوردستان تعايشت كل الأعراق والأديان، وكما هي تضاريس هذه البلاد واختلاف أشكالها وألوانها، جبالها ووديانها، توزعت مشارب البشر وانتماءاته في العرق والعقيدة، بين الكورد والكلدان والآشور والسريان، عربا وتركمان، جمعتهم ارض تمازجت فوقها كل الألوان حتى غدت في يومها الأول نوروز أجمل اللوحات وارق الألحان. في كل أرجاء الدنيا وعند كل شعوب الأرض يسكن البشر في أوطانه إلا في كوردستان فهي التي تسكن بين القلوب والعيون، وتستقر حيثما تنبض القلوب حبا وعشقا، تسامحا وتعايشا، فمنذ البدء كنا وكانوا هنا وهناك، في كل قرية ومدينة، في قمم الجبال وأطراف الوديان، أينما تواجدنا وتواجدوا، كنا الأقرب إلى بعضنا عبر كل ما جمعنا في التاريخ والجغرافية، وفي الحروب والعلوم والآداب، حتى تشابكت أحداثنا ومن ثم مشاعرنا وأحاسيسنا، واختلطت دماؤنا وهي تنزف في حروب خضناها معا من اجل الحياة أو من أجل بعضنا، اختلطنا وتناسبنا فامتزجت أنسابنا وألواننا وسحناتنا حتى لم تعد تفرق بين العربي والكوردي، أو بين الكلداني والآشوري. لم يكن هناك أي صراع بين كل هذه المكونات والأعراق وبالذات بين العرب والكورد، بل ليس للكورد إخوة وأصحاب غير هذه المكونات من العرب وغيرهم من الأعراق والديانات، لقد كان الصراع مع الأنظمة السياسية التي حكمت الجميع واستهانت بحقوق الآخرين أقواما كانوا أم أديان، وكان الجميع ضحايا لتلك الأنظمة الدكتاتورية وأساليبها القمعية والظالمة. لقد قال الزعيم مصطفى البارزاني رائد النهضة القومية الكوردية، منذ الأيام الأولى للثورة إننا لا نحارب العرب بل نقاوم تلك السلطات والنظم السياسية الدكتاتورية الظالمة والقاسية، وكان يوصي أركان ثورته ورجال حربه بان لا يخلطوا بين الشعب وما تقوم به تلك الأنظمة الدكتاتورية البائسة، بل كان يطلب التعامل مع أسرى تلك الحروب بأنهم متورطون لا حول لهم ولا قوة، واعتبارهم مواطنين وإكرامهم وإطلاق سراحهم فور استسلامهم أو أسرهم. إن العرب لا يتحملون وزر تلك الأنظمة وجرائمها، لأنهم هم أيضا من ضحاياها، ولقد أثبتت مجريات الأحداث عبر التاريخ بأن الشعبين العربي والكوردي هم اقرب الشعوب إلى بعضهما، في التاريخ والجغرافية والمجتمع والعلاقات الإنسانية الأخرى، وقد اختلطت دماؤهم في كل مراحل التاريخ والحياة حتى لا تكاد تفرق بينهما. وفي أول عملية اختيار بين خيارين لا ثالث لهما في مشكلة ولاية الموصل ( إقليم كوردستان الحالي ) بين الاتحاد مع العرب في مملكة العراق أو الانتماء إلى تركيا بعد إقصاء فكرة الاستقلال قسرا، اختار الكورد الاتحاد مع العرب في مملكة العراق تحت مبدأ المشاركة في مطلع القرن الماضي، ورفضوا أن يكونوا جزءً من الكيان التركي آنذاك، لسبب واحد هو أنهم اختاروا الأقرب إلى قلوبهم وعقولهم وتاريخهم. إن ما تعرض له الكورد والكلدان والاشوريون عبر تاريخهم من حروب شنتها الأنظمة الدكتاتورية والشوفينية، زادتهم قوة وإيمانا بقضيتهم وبعلاقتهم التاريخية النقية مع الشعب العربي. ولم تترك رغم مأساتها ( أي تلك الحروب القاسية ) أي أثرٍ للحقد أو الانتقام أو ما يبعد الأخ عن أخيه. ولعل ما حدث إبان انتفاضة آذار1991م وما بعدها، حينما تحررت كوردستان من دكتاتورية النظام السابق وكيفية التعامل مع عشرات الآلاف من الجنود وحتى مع الكثير من الموظفين العرب العاملين في محافظات الإقليم، دليل على عظمة ونقاء الشعب الكوردستاني بكافة مكوناته وأطيافه وعلاقته التاريخية مع الشعب العربي. أن أصدقاء ومناصري الكورد والكلدان والاشوريين والسريان في الشرق الأوسط معظمهم من العرب، وهذه فلسطين ومنظماتها المناضلة تشهد روعة ومتانة العلاقة بين الشعبين والثورتين الكوردية والفلسطينية منذ انبثاقهما وتعاون معظم المنظمات الفلسطينية مع الثورة الكوردية في كثير من المجالات، وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها. ولم يبقَ متسع من ثرى الشام والعراق وفلسطين والكنانة حتى طوى آلافا مؤلفة من خيرة مقاتلي كوردستان من المسلمين والمسيحيين والايزيديين في حروب العرب والمسلمين عبر قرون وقرون، فاختلطت الدماء والرفات، وامتلأت مقابر الشهداء رجالا جاءوا من كوردستان دفاعا عن العروبة والإسلام. وكما يذكر التاريخ رجالات كوردستان في حياة العرب، فان التاريخ عامة وتاريخنا بشكل خاص سيذكر باعتزاز أولئك الرجال والنساء من العرب الذين تبنوا قضيتنا وناصروها، بل وتعرضوا من اجلها إلى أشد المخاطر والويلات من قبل الأنظمة السياسية الدكتاتورية والشوفينية. وحتى في العراق أبان الحرب القذرة التي شنها النظام السابق، فلقد سجل التاريخ والأحداث وذاكرة الشعبين عشرات وربما المئات من المواقف الخلاقة والنبيلة لكثير من الجنود والضباط الذين كانوا يرفضون همجية النظام ومؤسساته الخاصة في تعاملهم مع شعب كوردستان، وإزاء ذلك فقد الكثير من هؤلاء مواقعهم أو فروا هاربين لكي لا يتحملوا وزر تلك الجرائم البشعة. ولعل الكثير يتذكر المئات من البيشمه ركه العرب والكلدان والآشوريين في مختلف المنظمات والأحزاب الوطنية العراقية ممن كانت كوردستان وأحضان الكورد ملاذا آمنا وكريما لهم ولعوائلهم، وساحة لانطلاقهم في مقاومة الظلم والدكتاتورية مع وجود الاختلاف الفكري والسياسي بينهم وبين الثورة الكوردية، إضافة إلى المئات منهم ممن آمنوا بقضية الكورد وحقوقهم وناضلوا بالسلاح مع إخوتهم لتحقيق أهداف الشعب في الحرية والانعتاق. ومن لم تسنح له الحياة وضروفها لحمل البندقية دفاعا عن القضية الإنسانية للكورد، فقد حمل قلمه سلاحا نافذا في عواصم العرب من بيروت إلى القاهرة، ولعل ذاكرة العرب والكورد تتذكر العشرات من تلك الأقلام الحرة والمناضلة من اجل القضية الكوردية وحرية الشعب الكوردي ومعاناته، ولست هنا بصدد تعداد تلك القوافل من الإخوة العرب في بيروت وعمان والقاهرة ودمشق ودبي والرياض وطرابلس الغرب وبقية عواصم الدول العربية، إذ لن تكفيها صفحات مقالنا هذا لتدوينها كأشخاص وأفراد، بالإضافة إلى كل القوى الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي التي ناضلت منذ تأسيسها في بداية القرن الماضي وحتى هذا اليوم من اجل القضية الكوردية وشرعيتها وحلها سلميا وإدانة كل الحروب التي وقعت ضدها. ولعلنا نتذكر المئات من الديمقراطيين العرب الذين اعتقلوا وسجنوا وتعذبوا واعدموا من اجل مواقفهم من القضية والثورة الكوردية. وبصرف النظر عن مواقف الكثير من القوى المضادة والشوفينية التي لا تخلو منها كل شعوب الأرض، فان ما بين العرب والكورد وما بين كل مكونات الإقليم والعراق أقوى وأمتن من أن تناله مواقفهم وحتى حروبهم الأكثر قساوة وعنصرية في الأنفال السوداء، فقد كانا أي العرب والكورد بمستو إنساني راقي ونبيل في الساعات الأولى لانتفاضة الربيع في آذار 1991 حينما تحولت بيوت ومساجد كوردستان إلى أحضان دافئة لآلاف مؤلفة من الجنود والضباط والموظفين الذين تخلى عنهم صدام حسين يواجهون مصيرهم! وكذلك ما حصل بعد انهيار وهزيمة دولة البعث وهروب قيادتها العسكرية وقائدها العام في نيسان 2003 وسقوط فيلقين من فيالق الجيش العراقي السابق أسيرا في كوردستان، لقد ارتقت مشاعر الأخوة والإنسانية فتجاوزت أحقاد وجروح الحرب وآلامها، وظهر معدن هذا الشعب الأصيل في تسامحه ونقائه، وأصبح هؤلاء الأسرى ضيوف أهليهم في كوردستان معززين ومكرمين، على خلفية ما زرعه الزعيم مصطفى البارزاني من أن الصراع ليس بين مكونات العراق العرقية والدينية عربا كانوا أم كوردا، مسيحيون أو ايزيديون أو مسلمون، بل بين أولئك الطغاة العنصريون والأحرار في كوردستان، وليس بين أفراد الجيش المغلوبين على أمرهم والمغرر بهم، والمضللين في معارفهم ووعيهم عن الكورد ودورهم في تاريخ العرب والعراق. إن التعايش الأبدي في كوردستان والعراق عموما عبر التاريخ القديم والحديث يؤشر حضارة راقية لدى كل سكان هذه المنطقة من العالم، ليس هنا في كوردستان العراق فحسب وإنما هناك أيضا إلى الشمال والشرق والغرب، حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون والايزيديون من الكورد والعرب والكلدان والاشوريون والارمن في تسامح وتعاطي خلاق منذ أجيال وأجيال. لقد دخلت المسيحية في قرونها الأولى إلى كوردستان العاجة بديانات أخرى كالزرادشتية والايزيدية واليهودية، وسرعان ما استقرت تلك التعاليم السامية واستوطنت في بلاد تحتضن كل الأفكار والعقائد الخلاقة، ولعل معابد جبل سنجار في حوالي 375 م والتي تجاوزت العشرات من المعابد المسيحية التي لم ترتقي حينذاك إلى كنيسة تؤكد ذلك التسامح النبيل لدى سكان كوردستان، وما وجود أربع كنائس عامرة في جبل ومدينة سنجار بعد أقل من مائة عام من دخول المسيحية إليها إلا دليل على التعايش الإنساني الراقي لمجتمعات هذه المناطق. لقد كانت كوردستان برمتها وما تزال تنتهج مبدأ التعايش والتسامح الراقي والنبيل بين الأديان والمذاهب والأعراق برغم محاولات المتطرفين من العنصريين عرقيا أو دينيا تمزيق هذا النسيج إلا إن طبيعة تركيبة السكان الاجتماعية والسيكولوجية والأخلاقية لا تسمح بنشوء هكذا توجهات أو أفكار والدليل هو تحول هذا الإقليم إلى ملاذ آمن لعشرات الألوف من المضطهدين مذهبيا ودينيا وحتى عرقيا من كل أجزاء العراق الأخرى، وما يشهده الإقليم حاليا من نهوض ثقافي وحضاري لجميع مكوناته يدلل على هذا النهج السامي والأفكار النبيلة التي يتميز بها هذا الشعب الذي تسكن في قلوبه وعيونه كوردستان وطنا للحب والأمان.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |