|
مِقصلة أُخرى
ايمن عويضة فُتح باب زنزانته بعنف، واقتيد مقيد اليدين، معصوب العينين، إلى ممر معتم طويل، كانت قدماه الحافيتان المصفدتان، بالكاد تجاري خطى السجانَين السريعة، حتى وصلوا إلى نهاية الممر، وفي وقت متزامن، حُررت عَصبة عيناه وفتحت البوابة الضخمة، فأخذ يرمش مراراً جراء الضوء المتوهج، الآتي من الخارج، وعبروا به إلى فناء غير مسقوف، مستطيل الشكل، بأرضية بيضاء، تكسوها خطوطٌ زرقاءٌ متوازية، وتابعوا سيرهم في ممر ضيق، يشطر الفناء إلى قسمين من المقاعد، يجلس فيها حشد من الجموع الغاضب، وتعالت صيحاتهم برؤيته "إلى الجحيم.." "اقتلوا هذا المجرم.." حتى وُضع في قفص حديدي صغير، في نهاية الفناء على الجانب الأيمن . بدأت صيحاتهم تهدأ، موجهين أنظارهم بتركيز إليه، يتأملون فوضى شعره، وتقاسيم وجهه الكسلى، وبيجامته الزيتية الفضفاضة، كان يبادلهم نظرات حيادية حائرة، خُيل له أن وجوههم مألوفة لديه، لكنه لم يستطع تحديد هوية أي منهم، توقفت هواجسه تلك، لحظة أن أقبل ثلاثة رجال من الجهة المقابلة له، يرتدون ملاءات بيضاء ناصعة، تغطي معظم جسدهم، وبوجوه شاحبة، تميل بشرتها إلى الزرقة، اعتلوا المنصة التي تتوسط نهاية الفناء، وتوسطهم رجل ضخم طويل القامة، بملامح صارمة أقرب إلى شموخ التماثيل . حل الصمت في المكان، ووقف أحد الرجلين الآخرين برهبة، وتوجه بأنظاره إلى القفص: -لقد أتيت أخيراً.. كلنا سعداء بوجودك، لأننا سنشهد اللحظة التي ستنال فيها جزاؤك العادل . ثم توجه إلى الجموع وقال: -والآن.. سأتلو عليكم لائحة الاتهام.. "أولاً.. المدعو أيهم عبد الرحمن.. ثلاثون عاماً، أحد أعيان المدينة، ارتكب جريمة قتل، بحق ثلاثة من شرفاءها الثائرين، مع سبق الإصرار والترصد.." "ثانياً.. بذات الإصرار والترصد، زرع في قلوب شعب مدينتنا الخوف واليأس، بعد أن هيأهم للثورة.." وتابع..: -كما تعلمون.. لا حاجةً لأقوال الشهود، لأنهم أنتم جميعاً، أما الضحايا، فليسوا بحاجة لادعاءٍ يعيد لهم حقهم، فأنا.. وصديقاي في المنصة، الضحايا والادعاء والقضاة في ذات الوقت، إذن.. ما تبقى هو أقوال المتهم التي يجب أن يصرح بها ويستيعن، للدفاع عن نفسه، تحقيقاً لمبدأ عدالة المحاكمة . ثم عاود الجلوس، وتوجه للمتهم: -قف باتزان.. واسرد علينا أقوالك.. وقف ببطىء، وبجسد منهك لا تزال أطرافه الأربعة مكبلة، قال بصوت منخفض..: -أنا.. أنا لا أفهم شيئاً مما يدور، كيف أتيتم بي إلى هنا..؟ قبل لحظات فقط كنت أهيأ نفسي للنوم، من أنتم..؟ ولماذا تطلبون مني أقوالاً عن قضيةٍ لا تعنيني..؟ قاطعه الرجل الآخر، على شِمال الرجل الضخم، بصوت متحفز: -حسناً.. إذن بدأت منذ الآن تراوغ، وتتظاهر.. إنه أمر ليس بغريب على رجل مثلك، يحترف تقمص المشاعر، وارتداء الأقنعة، لكنني أحذرك، إن لم تعترف أمامنا بجريمتك، ستلقى حتفك بأبشع طريقة، اعترف.. علنا نتعاطف معك بالنهاية، ونخفف حكم إعدامك، بسجنك المؤبد بانضمامك إلى عامة الناس . أصبح الآن مندهشاً أكثر، ولا يستطيع استعياب ما يجري مطلقاً، فأخذ صوته يأخذ نبرة أكثر حدة: -أخبروني بحق السماء.. من أنتم..؟ أنا لا أفهم شيئاً.. تتحدثون عن جريمة، وحكم إعدام، وحكم مخفف.. من أعطى لكم سلطة تقرير مصيري..؟ بالطبع ليس لدي ما أقوله.. أتفهمون..؟ وقف الرجل الضخم، واتجه إلى القفص بخطىً واثقة، وأخذ يحدق به بملامح مسالمة، ثم خرج عن صمته أخيراً..: -انظر إليَّ جيداً، أمعن نظرك أكثر.. ألا تُذكرك ملامحي بشيء ما..؟ تفحص شحوب وجهي، وزرقة بشرتي، أرجوك.. أتَّفهم هول الموقف، لكني متأكد من أنك ستتذكرني وصديقاي في المنصة، وهؤلاء الناس.. انظر إليهم، لا بد أنهم يُذكرونك بهواجسَ ما.. -نعم.. الناس.. لا أنكر أنني رأيتهم من قبل، وسمعت صيحات مشابهة لصيحاتهم، لكن.. كيف.. ومتى.. لا أستطيع التذكر.. -حسناً.. هذا جيد، وسيساعدنا.. أنظر إلي مجدداً، نعم.. تمعن فيَّ أكثر، سأساعدك أنا أيضاً.. ألا تعني لك عبارة "حرية تخبو" شيئاً..؟ تجمد في مكانه واقفاً، وحدق بعيون لا ترمش في الرجل أمامه، كعدسة كاميرا، تتحفز لالتقاط صورة هامة، ورمش أخيراً.. وطُبعت الصورة في شريط ذاكرته المعتم، وأخذت تسافر في دهاليز أفكاره، وتتشظى إلى صور أخرى أصغر، تتوالد بدورها إلى صور لا متناهية، لتنسج معاً، قصصاً صغيرةً مترابطة.. وجموعاً هائجة.. ومشانقَ منتصبة.. وجلادين شرسين، وظل واقفاً على هيأته، بذات العيون الغائبة، لا يقوى على الكلام.. -حسناً.. عيناك تقول أنك تذكرت كل شيء، لماذا قتلتني وصديقاي..؟ لماذا..؟ أغمض جفنيه، ونكس رأسه للأرض للحظات، ثم عاود النظر إلى الرجل، بملامح هادئة، وتنهد من أعماقه..: -لقد كانت تلك نهايتكم الحتمية، فمنطق المدينة، وفلسفة حكامها المستبدين، لم يمنحاني حلاً آخر غير قتلكم.. -إذا كان ما تقوله صحيحاً، لماذا زرعت فيَّ منذ البدء، سنابل الحرية، كيف تخلق مني ثاراً يأبى الرضوخ، وتقنعني بالتمرد، وتدفعني بعدها لأُنَظِرَ فلسفتي تجاه صديقاي، واقنعهم لنمارس ثلاثتنا فتنة في المدينة، نحرض أهلها بمنشوراتٍ، نلقيها فجراً في الشوارع، ليمقتوا بأصواتِ مرتفعةِ القتل العبثي فيها، وامتهان آدميتهم، ما جدوى كل ذلك، إن كنت في النهاية ستصلبنا على أعواد المشانق، في حضرة أهل المدينة الطيبين، لتقتل في قلب كل منهم في نفس الوقت كل حلم بحرية مسلوبة..؟ -في الواقع.. لا أجد مبرراً لحزنكم، لقد صعنت منكم أبطالاً في غفلة منكم، كنتم مجرد ثلاثة أرقام، في مجتمع نكرة، يمارس الخوف بامتياز، ويحترف النفاق والتسلق، وينام باكراً على سرير غفلته كالدجاج، لقد أصبحتم رجالاً حقيقيين، يشار إليهم بالبنانِ بفضلي، أنهكتم سلطات المدينة الظالمة، ودببتم في أنفسهم الرعب، نتيجة لتوجيهاتي، وهؤلاء الطيبيين الذين تتباكى عليهم، خرج من بينهم من وشى بكم، ولم يجروء أحدهم على صده، فقادكم بالنهاية للمقصلة، ومع ذلك فقد كانت نهايتكم مشرفة، وخُلدت ذكراكم للأبد، ذكرى تظل تنبض بالحياة، لا تتورع عن الصراخ دوماً، بأن ثمن الحرية، لا بد أن يُخضب دائماً بدماء الشجعان أمثالكم، بأي نهاية أروع من تلك كنتم تحلمون..؟ وعن أي خلودٍ مدوٍ آخر كنتم تبحثون..؟ -لم نعشق يوماً الموت، متطلعين للخلود من خلاله، فخلود الحياة فقط ما كان يعنينا، لكنك كنت خائفاً، من قمع آخر تعرفه وأعرفه جيداً، ففضلت أن تقتلنا في النهاية، لتعيش على أنقاض جماجمنا، وتنجو بنفسك، وتُخلد اسمك للأبد، يا لك من محتال..!! -قيس.. اسمعني أرجوك، لا يوجد في هذا الكون من عشقك مثلي، لقد كنت مرآة لأحلامي، تجري في عروقك دمائي الثائرة، وتحطم بساعديك كل الأوثان التي احتقرتها، كيف لك إذن أن تضعني في قفص الاتهام..؟ -وأنا أيضاً أعشقك، فأنت إلهي الأوحد، لقد خلقتني من العدم، ووضعتني في مصاف الأبطال، لكنك لم تستطع الوفاء إليَّ حتى النهاية، إن رجلاً يحمل لواء الحرية على عري صدره، ويمتطي جواد العنفوان، ويسحق أصنام الجاهلية في طريقه، ويمزق صكوك الغفران في صوامع الكهنة، هو رجل يستحق الخلود في الحياة لا الموت، ما كان يضيرك لو أشعلت في نفوس الجموع يومها، شرارة الغضب، فتنهال على الجلادين والرهبان، وتسحقهم في ضربة واحدة، ويكون الموت نهايتهم لا نهايتنا.. عندما تقرر يوماً سبغَ فكرةِ على كائناتك الحبرية، تحلى بشجاعة أكبر، لتجعلهم أهلاً لحملها، بين دفتي رواية .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |