|
العراق: بوتقة وطنية!
مدخلات : التلاقح / الانصهار / الامتزاج اكتب مقالتي إلى كل عراقي مهموم بوطنه، ويعيش مشكلاته ومعضلاته التي من الصعب حسمها بسهولة وقد تمتد لثلاثين سنة قادمة، وربما ينتقدني البعض كوني لا انشر روح الأمل في النفوس، ولا أوزع الأكاذيب كما توّزع الحلوى على الأطفال المتباكين لإسكاتهم ! لكنني لا استطيع مخالفة ضميري لأكذب على الناس، ولكنني ازرع الأمل دوما من خلال ما يمكن فهمه من قبل أي عراقي يؤمن بوجود العراق وقيمه وتاريخه وعناصره .. إن العراقيين يعيشون محنة تاريخية، وقد دخلوا مأزقا صعبا بعد سلاسل من التحديات والصعاب التي عاشوها في النصف الثاني من القرن العشرين . ولا يمكن تشبيه العراقيين بأي شعب من شعوب المنطقة أبدا، ويكفي قراءة تاريخهم الحافل عبر عصور شتى، لترى ما الذي أنتجه كل من التاريخ والطبيعة في واد عجيب كله زرع وضرع، وقد اترع بأنواع من البشر الذين تتباين أعراقهم وجذورهم .. أشكالهم وثقافاتهم، بدوهم وريفهم وحضرهم .. ولا يمكن أن يتفلسف كائن من كان بشؤون العراقيين إن لم يكن قد توّغل فعلا في معرفة ما العراق ؟ وما العراقيين ؟ وما تراكيبهم السوسيولوجية والانثربولوجية عبر التاريخ .. إنهم تراكيب كتلة بشرية متنوعة تنوعا عجيبا بحيث اثر هذا التنوع على طبيعة العلاقات والروابط التي تحكمهم ناهيكم عن التباينات العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والطائفية التي تتغلغل في جغرافياتهم البشرية وجهوياتهم المتعددة .. أما الأعراق، فلقد كان العراقيون دوما ضحية هذا المكان العجيب الذي انجذب نحوه في الأزمان العصيبة من غريب البشر، فغدا بؤرة سكانية صعبة جدا، إذ لا يمكن أن نجد في أي من دول الإقليم مثل هذه التنوعات التي لا يمكن أن يشعر بها إلا أهل العراق أنفسهم بمختلف ترسباتهم ومواريثهم وأخلاقياتهم وعاداتهم وتقاليدهم . السؤال: ما الذي افتقده العراقيون ؟ وربما لا تحس الأجيال الجديدة بذلك، ولكن جينات كل عراقي تفعل فعلها، فيحس وكأن تفكيره وسحنته وهيئته تختلف كلها عن العراقي الآخر ! ولكن ثمة مقومات مشتركة تجمع الكل في بودتقة واحدة بعد مرور جيلين أو ثلاث أجيال : ( = 60 – 90 سنة ) ليغدو كل العراقيين لهم ما يميزّهم عن الآخرين . العراقي إنسان حّساس جدا، وقد تعلم أن يكون سريعا مثل سرعة دجلة (= سرعة النمر ) في انجاز مهامه ! ومتقّلب في أهوائه ومزاجه كما هو مناخ العراق القاري .. وبقي يرث التنافر لا الانضواء .. كان لا يقبل الظلم ولا الخنوع، ولكنه اليوم فاقد للقناعة والثقة بالآخر، ولم يتقّبل الأمور على عواهنها، ولن يعرف السماحة، بعد أن كان يحمل عصارة ترسبات هذا التلاقح التاريخي، والامتزاج الاجتماعي، والانصهار الثقافي الذي حصل في السلوكيات على أرضه منذ ألوف السنين . ولا اعتقد، أن العراقيين الكلاسيكيين الأوائل بكل تشكيلاتهم الحضارية القديمة هم أنفسهم اليوم الذين نراهم يكوّنون شعب العراق على ارض الواقع .. صحيح إن كلا من الاثنين هو نسيج واحد قد تأثر بالبيئة العراقية المعقدّة، ولكن شتان بين أقوام مؤسسة للوجود الإنساني اكتشفت أسرار الحياة، وتجاوزت بأساطيرها العجيبة، وجعلت من ملحمة كلكامش ـ مثلا ـ منارة أولى للبحث عن سر الخلود، وبين أناس انغلقت أمامهم فرص الحياة المعاصرة، فانغلقوا وراء عشرات الجدران، وقد غابت عنهم مقومات الوعي بمدارك الحياة الجديدة ! ولكن لابد ان تنطلق أجيال جديدة في القرن الواحد والعشرين لتأخذ لها مسارا آخر في التفكير بعيدا عن كل ما حصل حتى الآن منذ خمسين سنة . إن العراق الجديد لا تصنعه إلا الأجيال الجديدة إن نجحت في الخروج من الأطواق القديمة .
العراقيون بين الأمس واليوم والمستقبل سكان العراق خليط عجيب، بأكثريتهم وأقلياتهم من قبائل عربية قحة، ومن سكان قدماء يشكلهم بقايا عرب مسيحيين مناذرة قدماء، ومن بقايا سومريين ويهود وصابئة وآشوريين وجرامقة وآراميين وكلدان واكراد وفويليه وتركمان ومعدان وفرس وقوقازيين وغيرهم طغت عليهم على امتداد ألف سنة موجات زاحفة من أعماق آسيا فامتزجت بهم وأنتجت هذا الشعب الذي يتوزع في كل جزئيات العراق، وهو يتوارث طباعه وسلوكياته المتنوعة، ولكن ثمة شراكة في " أخلاقيات وقيم " لا يختلف عليها اثنان أبدا، منها فوران الطبع وحدّته وسرعة هدوئه ذكائه وحب ذاته وأصوله .. ثاراته وثوراته .. الخ هناك في العراق، كثرة الانتماءات العائلية والعشائرية والقبلية والطائفية والدينية والجهوية والمحلية والمهنية واختلاف أهالي المدن عن أبناء الريف، وتباين الاثنين معا عن أهل البادية والنجود .. وتباعد سكان الجبال عن سكان السهوب والسهول، وعن سكان الشواطئ النهرية، وعن سكان الاهوار، وعن سكان الصحراء .. وثمة طبائع طيبة جدا، ولكنها غير مؤتلفة بين تراكيب الطبقات الاجتماعية العليا القديمة والاجتماعية المتوسطة والمهنية والاجتماعية الدنيا والمسحوقة التي جرت عليها جميعا تحولات سريعة وغير متجانسة في نصف قرن مضى بحيث اختلطت مع بعضها البعض، وخصوصا في المدن الكبيرة فكان مزيجا غير متناسق ابدا ( = لملوم بالمفهوم الدارج ) .. ولعل اهم مؤسسة يتضح فيها ذلك " المزيج " كان يتمثّل بالمؤسسة العسكرية العراقية التي عانى منها شباب العراق الكثير، ليس بسبب صرامتها وانظمتها القوية، بل بسبب التنافر الاجتماعي بين عناصرها ! لقد غدت العاصمة بغداد مركز استقطاب وانجذاب لسكان متنوعين من كل الأطراف الشمالية والوسط والجنوب .. مع اختلاط عناصر متنوعة في العديد من المدن الكبيرة وخصوصا الموصل والبصرة وكركوك وكربلاء والنجف .. إن العراقيين أنفسهم يتغير وجودهم واستقرارهم من مكان إلى آخر حسب ظروف كل عهد من العهود . إن مرور قرابة ثمانين سنة على تشكيل الدولة الحديثة في العراق، قد أنتج خارطة سكانية ليست كالتي كانت قبل ثمانين سنة بالذات، إذ شهدت الجغرافية البشرية للعراق حركة انتقالات وهجرات ونزوحات داخلية للسكان، واستقروا في مدن عراقية متنوعة أو على أطرافها .. إن الأكراد المتواجدين ببغداد مثلا ولهم مصالحهم فيها منذ القرن التاسع عشر، ( وخصوصا بعد أصبحت ولاية شهرزور تابعة لولاية لبغداد على العهد العثماني ) هم نتاج الانتقال من مواطنهم الجبلية الأصلية إلى المدن الكبيرة التي استقروا فيها .. إن مسألة الانتقال والهجرة والنزوح هي بمثابة وثيقة لمن هو بدواخل المدن تقول بوطنية عراقية لهؤلاء .. إذ إنهم آثروا المدينة الكبيرة للتعامل فيها، واستقروا فيها وأصبحوا من أبنائها .. وثمة نموذجا آخرا على انتشار العراقيين هنا او هناك من العراق، ذلك انه بالقدر الذي هاجر الآلاف من الأكراد النازحين من الجبال، ليقطنوا الساحل الأيسر بالموصل مثلا، فلقد هاجر الآلاف المؤلفة من أبناء الساحل الايمن في الموصل وخصوصا من مسيحيين سريان وكلدان وآثوريين إلى بغداد اثر أحداث عام 1959 القاسية ..
معادلة متكافئة وغير متكافئة هذه المعادلة غير المتكافئة قد جعلتني أرى العراقيين على عكس ما يراه البعض وما يبررونه، ذلك أن ما حصل تاريخيا، هو ترجمة لحالتين اثنتين، أولاهما رسوخ الوطنية العراقية، أي الإيمان بأن العراق وطن حقيقي للجميع جعلهم ينتشرون فيه من دون اية حدود .. وثانيهما أن ما حدث من مشكلات سياسية وصراعات عشائرية او قبلية محلية قد جعلت بعض العراقيين يختارون الهجرة والرحيل نحو العاصمة، أو المدن الكبيرة واعتبارها ملاذات آمنة لهم . الأمر الآخر، أن كل النازحين والمهاجرين والفارين والمستقرين في أي مكان من العراق كانوا يستقبلون ويرحب بهم، ويعملون وينتجون، أو يدرسون ويوظفون بلا أي اضطهاد، ومن دون أن يشعر أي عراقي انه مرفوض من أي عراقي آخر بالرغم من حالة التنافر التي يحملها أي عراقي إزاء الآخر، بل يصبح ابنا لتلك المنطقة أو المدينة، وربما تكون حالة الانسياح والاستقرار منحصرة في المدن العراقية فقط من دون القصبات والقرى . ماذا نسمّي هكذا حالة ؟ إن فروعا عدة من قبائل كبيرة عربية، أو تركمانية، أو كردية قد تعرّضت لمختلف الظروف والتحديات والصراعات ( في ما بينها وليس بينها وبين الدولة ) في أزمان مختلفة في القرنين التاسع عشر والعشرين، فنجدها قد استقرت في العاصمة، أو المدن العراقية الأخرى . إن من يقرأ تاريخ انتشار سكان العراق، سيجد أن المجتمع العراقي هو من المجتمعات القليلة التي تحتضن الآخرين .. وهذا ما نلحظه من استقرار إيرانيين وهنود وقوقازيين واذريين وأتراكا وزنوجا ونجديين وحجازيين وشوام وفلسطينيين في مناطق معينة من العراق منذ مئات السنين من دون أي تمييز اجتماعي، أو سياسي، أو حتى سلطوي .. لقد ذاب الجميع على ارض العراق، وغدوا يحملون هوية عراقية. اليوم، نجد ثمة تخلخلات سكانية تحدث بتدفق غير عراقيين على العراق لأسباب خطيرة كرستها السياسات الجديدة بغية الانقسام، أو الاستئصال، إذ يكمن الخوف في ما تحدثه هذه التخلخلات الغريبة على المستوى الاجتماعي والسياسي في المستقبل .
وأخيرا : ما الذي اريد قوله ؟ أنني أزعم أن هذه رؤية معمّقة لما هو كامن من تفاصيل موثّقة في كتابي الذي اعمل على تأليفه منذ سنوات ( بنية المجتمع العراقي )، وفيه تفاصيل في دراسة العلل والمعلولات لما حدث في دواخل العراق إبان القرن العشرين، وأتمنى أن يدرك كل العراقيين، زعماء كانوا أم مواطنين إن العراق قد استوطنه كل العراقيين، وبالرغم من الإخفاقات السياسية التي رافقت العراق منذ خمسين سنة، إلا أن المجتمع استوعب غيره، وان الدولة استوعبت المجتمع . لقد آن الأوان على العراقيين اليوم، أن يستعيدوا لحمة العراق وسداه، وان يعملوا من اجل تكوينه ويزهروه على أسس ومبادئ جديدة . إن أقصى ما يتمناه كل عراقي مخلص لقضيته ووطنه، أن يستقر العراق، ويتحرر، ويبدأ حياته الطبيعية ويأخذ له دوره اللامع في هذا العالم بعد كل ما لحقه من دمار .. أتمنى بإخلاص أن يحدث ذلك .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |