|
الثورات الملوّنة .. أخفقت!
قلت في مقال لي هنا بجريدة البيان (20 أغسطس 2008)، ابان الحرب الروسية الجورجية: (لا يمكن أن تبقى جورجيا تدور في الفلك الأمريكي من دون أن تعمل روسيا على تأمين اوستيا الجنوبية وابخازيا في جيبها .. وسنرى إلى أي افتراق يقود هذا الصراع الدولي .. وبالاتفاق مع الأمريكيين. إنني اعتقد أن روسيا ... غدت تجيد اللعب مع القطب الأمريكي، كي تستفيد من بناء مواقفها .. وبدأت تستعيد فكرتها القديمة بفرض هيمنتها على القوقاز.. وهذا ما سيخلق متاعب جديدة تلوح في الأفق .. وربما سيشهد العام 2009، مأزقا خطيرا ستكون له تداعيات ومضاعفات على كل الشرق الأوسط .. وآخر ما يمكنني أن اذكّر به أن روسيا لم تضع ماضيها وراءها، وهي تحاول اليوم استعادة مجدها الأحادي قبل أن تركض لاهثة وراء الاتحاد الأوربي أو غيره) . اليوم، كما تصلنا الأخبار، بدأت لغة جديدة على الساحة العالمية، إذ حّذر الرئيس الروسي ميدفيديف، ( أن مناورات الأطلسي يمكن أن تتسبب في حدوث " تعقيدات"، وأنها تهدد أي تحسن في العلاقات بين روسيا والناتو ). لقد كانت الحرب الروسية على جورجيا، أغسطس العام الماضي من أجل السيطرة على إقليم اوستيا الجنوبية، فكان أن توترت العلاقة مع الناتو، وجمدت الاتصالات عالية المستوى مع روسيا احتجاجا على ذلك ! وقال ميدفيديف: (إن مناورات عسكرية لمنظمة حلف شمال الأطلسي وشيكة الحدوث في جورجيا قد يلحق الضرر بعملية المصالحة. وبعد تأجيل لها بطلب من روسيا في بروكسل، فان حلف شمال الأطلسي، قد أعلن في وقت سابق هذا الأسبوع أن المناورات في جورجيا ستمضي من 6 مايو، وتحسين التعاون بين التحالف الغربي والدول الشريكة) . تلك " المناورات " التي تم التخطيط لها منذ ربيع 2008، وتضم 1300 فردا من 19 منظمة حلف شمال الأطلسي والبلدان الشريكة، وبقدر ما طالبت جورجيا الانضمام إلى الحلف، ولكن ذلك قوبل بردود فعل متفاوتة من بقية الأعضاء .يقول الرئيس الجورجي ساكاشفيلي: (أميركا التي أعرفها أفسدها وصول أوباما للحكم ولا أستبعد أن تتوصل موسكو وواشنطن إلى اتفاق تآمري لعزلي من الحكم). هكذا يتوقّع الرئيس الجورجي نهايته، وقد أحبطته السياسات الأمريكية، ويبدو أن طبخة دسمة وساخنة قد أعدت مؤخرا بعد صفقة سرية تترجمها الاضطرابات والتظاهرات المستديمة المطالبة بعزل ساكاشفيلي الذي أزف وقت رحيله، وبعد أن قدم واجبه المؤقت الذي تعارض، كما يبدو، مع مصالح جورجيا الوطنية، ومن دون أن يدري تنامي قوة الدب الروسي الذي له وحده النفوذ في التحدث باسم المنطقة كلها اليوم . إن ما توقعت حدوثه قد بدأ، وان ما اسمي بالثورات الملونة التي هبّت ضمن مخططات أميركية لا يمكنها الاستمرار بدعم أمريكي يأتيها من بعيد، وان روسيا التاريخية يتعاظم أمرها، يوما بعد آخر، وهي تستعيد نشاطها وتكبر هيمنتها .. وأنها تقبل المساومة اليوم من اجل استعادة مجدها الذي افتقدته .. ذلك المجد القيصري الروسي الذي كانت مؤسسة له منذ القرن التاسع عشر، قبل أن يكون مجدا سوفييتيا صنعته الشيوعية في القرن العشرين .. إن الثورة الوردية قد انكفأت في جورجيا، وستلحق بها البرتقالية في أوكرانيا وغيرها من الجمهوريات .. وكما قلت أن جمهوريات آسيا الوسطى كانت أكثر حنكة وذكاء من جمهوريات القوقاز .. إن اللهب الذي بدأ في جورجيا اليوم بعد أن تخّلى أصدقاء ساكاشفيلي عنه في الإدارة، جعلوه وحيدا اليوم في الميدان بعد انضمامهم للمتظاهرين، ومنهم نينا بورجاندزه رئيسة البرلمان السابقة وايراكل ألانسيا، ممثله في الأمم المتحدة .. مع تناقض مواقفهما إزاء أميركا ! إن ظروف الأزمة المالية اليوم لا تتيح تسويق شعارات الديمقراطية، والمجتمعات تطحنها تلك الأزمة، ولم تزل فقيرة مثل جورجيا وأوكرانيا ومولدافيا .. إن الديمقراطية الحقيقية لا يمكنها أن تستورد، بل أنها حصيلة تاريخية لتربية أجيال كاملة، تترجم أهدافها أفعالا .. إن الديمقراطية الحقيقية لا تصنعها ثورات ملونة وردية، وبرتقالية، وبنفسجية .. بل تخلقها نضالات شعوب ترّبت على الحريات والعدالة والمساواة . إن اوكرانيا مرشحة أيضا للتغيير، وان رئيسها فكتور يوشينكو في حالة من القلق والترقب الشديدين . إن الشعوب تلك، لم تنتظر إلى النهاية، فهي تصنع إرادتها اليوم لأنظمة ولدت من اجل الديمقراطية وخابت مساعيها كونها وعدت أمريكيا بما يمكن أن يكون، ولكنها فشلت كونها ربطت نفسها بمصالح الكبار البعيدة من دون أن ترى مصالحها هي نفسها في المحيط الذي تعيش فيه ! كما أنها لم تستوعب لا دروس التاريخ ولا علاقات الجغرافية .. إن الولايات المتحدة الأمريكية قد فشلت فشلا ذريعا في تصدير مبادئها الحرة إلى العالم، وراحت عليها المليارات على أنظمة صبغتها بمختلف الألوان الفاقعة، وكانت غبية جدا، بارتكابها أخطاء شنيعة إزاء شعوب لم تعتن بها وبواقعها ومصالحها على قدر عنايتها بمصالحها هي نفسها! وإذا كانت لا تعير أي أهمية لمن تعاون معها سنين طويلة، فان المتعاونين معها لا يمكنهم الرقص على غير حلبتها، فهم مرفوضون، ولن يجدوا أنفسهم الا خارج التاريخ آجلا أم عاجلا . إن العام 2009 سيكشف المزيد من الإخفاقات المريرة في العالم كله .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |