|
سنوات التكفير..بعد سنوات التخوين .. لأسباب سياسية فاضحة!
إن من يؤمن بالديمقراطية الحقيقية والحريات الأساسية كاملة، ينبغي أن يكون مستنيرا، يؤمن بالتغيير الدائم من اجل التقدم، وله الحق أن يعترض على كل ما يعيق الدرب نحو المستقبل، وما ينافي الوطنية والإنسانية والأخلاق..، ومن الاستنارة، احترام فكر الآخر والدفاع عنه حتى وان اختلفنا معه . إن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه علينا دوما: هل يمكننا أن نتشدق بالديمقراطية، والشفافية، واحترام الرأي الآخر .. ولم يزل الصراع يتفاقم ضد المستنيرين؟ بل ويريدون نفيهم وإقصائهم باتهامهم بشتى التهم، أو بتجريح سيرهم الذاتية؟؟ لقد كانت ثمة أساليب متوارثة في مجتمعاتنا، تراعي حرمة الآخر ولا تقبل بالاهانة وتكبيل الإرادة، بل كانت التعايشات واضحة ليس بين الناس العاديين حسب، بل حتى بين المثقفين والسياسيين إبان مراحل التكوين الوطني في النصف الأول من القرن العشرين .. ولكن شهدت ثقافتنا العربية على امتداد خمسين سنة مضت أسوأ ما يحدث من طغيان ثقافة الاهانة للمستنيرين، فمن لم يقو عليهم يحاول اهانتهم بشتى الطرق، أو أن يسيء إليهم بشتى الطرق .. ربما لا يستطيع أي شخص مقابلة الحجة بالحجة، ولكنه لم يتعود أبدا على قبول الآخر مهما كان أفكاره . لقد نجح الإعلام العربي، المسموع والمرئي في تهميش المستنيرين الحقيقيين، ونشر ثقافة الإلغاء والكراهية . واسأل: كيف ينبش البعض في الماضي لإشعال نار التناحر والتباغض من جديد؟ وإذا كانت الثقافة العربية لم تزل أحادية الطابع، وأنها لا تريد تأسيس أي تجسير بين الآباء والأبناء، أو أي انفتاح حقيقي على الآخرين .. فماذا نسّمي أولئك الذين انتشروا اليوم في اغلب مجتمعاتنا، وهم يريدون استئصال حياة من يختلف معهم؟ بل ووصلت الأحوال في بلدين عربيين كانا يعجان بالمستنيرين : الجزائر، أو العراق إلى أن يكون الدين مرجعية لقطع الرؤوس، من دون أن يغدو الدين عندهم أداة أخلاقية عليا ودعوة تعايش وتسامح بين أبناء البلد الواحد؟ إن المدهش في الكثير من مجتمعاتنا، أنها كبلت نفسها باعتقالها الوعي وارتدادها عن كل قيم الانسجام، وأنها غدت لا تدرك من الدين إلا جعله طريقا للعنف، وأسلوبا للقتل، وعدم الاعتراف بالآخرين من المستنيرين ! إن ثقافة التكفير منذ ثلاثين سنة بالضبط، والمنتشرة في عموم مجتمعاتنا، قد أعقبت ثقافة التخوين التي عاشت قرابة ثلاثين سنة أيضا في مجتمعاتنا، وخصوصا إبان مرحلة الانقلابات العسكرية والمد القومي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية .. وان كلا من هاتين الثقافتين تلغي وجودك لأسباب سياسية فاضحة . إن المستنيرين فقط هم الذين يدفعون الإثمان الباهضة، وان المستنير دوما ما يتهم بـ " التغريب " . إن النغمة الشائعة التي آذت واقعنا، وأضرّت بمصيرنا، هي التي تتهّم كل من يريد الإصلاح والتغيير نحو الأفضل بتهمة الإعجاب بالغرب والانبهار بتقاليده .. وهي تهمة ساذجة وكافية لسحب البساط من تحت أرجل كل المستنيرين الذين يؤمنون بأن الحياة المدنية هي التي ستنقذ مجتمعاتنا من ورطاتها التي وقعت فيها منذ نصف قرن من الزمن الثوري، أو الزمن الصحوي ! إن المستنيرين قد جعلوا مجردين من أصالتهم في أعين الناس، أو أنهم غير ملتصقين بواقعهم، وأشيع عنهم أن همومهم ليست مع هموم الناس، وللأسف الشديد، لم يستطع أي مستنير، أن يرد على ما يناله من كراهية بفعل هروب عدد كبير من هؤلاء وترك الميادين إلى الأميين والمتكلسين الظلاميين الذين انتشروا بشكل مفجع تحت شعارات وواجهات (المقدس ) دوما، بل وحملوا هم أنفسهم صفة القداسة .. فغدت لهم سلطات قوية في مجتمعاتنا، ربما بعضها أصبح قويا بحيث تخشى منهم حتى السلطات السياسية في الدولة! وساد التفكير المغلق، والرؤية الضيقة للحياة والآخر .. رفقة حزمة هائلة من التقاليد السلبية البالية التي لا يمكنها أن تستقم أبدا مع ركائز الحياة المدنية الحديثة .. وهذا اخطر ما ستواجهه أجيال المستقبل . إن أشرس حملة يتعّرض لها التفكير المدني في مجتمعاتنا من قبل السدنة الذين تكاثروا بشكل يثير الشبهات، إنهم لا يأتون بأية اجتهادات أو خطط ومشروعات معاصرة، كونهم لا يؤمنون أصلا بالحياة المدنية ولا بالإصلاح ولا بالتحديث، ولا بالتغيير، فالاستنارة عندهم خطر على المجتمع، بل استطيع القول أن مجتمعاتنا ـ ويا للأسف الشديد ـ عاشت منذ خمسين سنة علي مقولة خطيرة مشاعة، تختزل بـ " جاهلية القرن العشرين "، في حين كان القرن الماضي حصيلة مثمرة لكل تقدّم الإنسان، واستكشافاته، واختراعاته، وإبداعاته، ونظمه، وقوانينه وأساليب حياته المعقدة الجديدة بعيدا عن شرور كل الحروب ومآسيها تلك التي صنعتها السياسات والمصالح التي وقفت بالضد منها كل تطلعات الشعوب وطموحاتها في الحرية والسلام والتعايش . إن إقصاء المستنيرين قد زاد كثيرا اليوم من قبل خصومهم الذين ازدادوا بشكل مفجع، وتجد خصومهم لا يؤمنون حتى بالاعتدال والوسطية ! تجدهم على شاشات التلفزيون، يحللون ويحرمون، يهاجمون ويكفّرون باسم الدين، يخاصمون ويختصمون .. يقاتلون ويقتلون، يحلمون ويفسرون من دون أن يكونوا متمرسين بعلوم الدين أبدا.. فما الذنب المرتكب إذا وصف هؤلاء بأوصاف عادية وما شأنهم بمجتمعاتنا التي هي بأمس الحاجة إلى الوعي بالواقع وتشكيل الرؤية نحو المستقبل؟ ما الذي يمكنهم أن يقدمونه إلى الحياة العامة حتى نجعلهم أوصياء عليه؟ إن انقسامات مجتمعاتنا اليوم هي سياسية بالدرجة الأولى، وان من لم يجد أية أدوات ووسائل متمدنة تتوافق مع طبيعة هذا العصر، فهو سيهرب حتما إلى أدوات أخرى تجد سبيلها إلى عقول الناس الذين لا يدركون حتى اليوم منطق الأشياء بفعل تراجع العقل وجمود الوعي .. بل وقد دخلت إلى مجتمعاتنا على امتداد خمسين سنة مضت عناصر جديدة لم تكن موجودة سابقا . يرتهن التقّدم دوما بالحداثة، بدءا بحداثة الشكل ومرورا بحداثة المضمون ووصولا إلى الحداثة في العلاقات والتصرفات والتفكير والإنتاج .. علما بأن ذلك " التقدّم " لا ينفي البتة كل رائع وجميل ومخّلد من الأعراف الإنسانية الخيرة في مجتمعاتنا، وحسن علاقاتنا مع بعضنا البعض، وقوة أساليب تعايشاتنا وكل ايجابيات موروثاتنا الرائعة .. لقد افتقدت مجتمعاتنا اغلب الموروثات الجميلة، ونجحت في نفيها مع ازدياد التطرف واستقطاب الانقسامات بسبب نفي الآخر .. تخوينه أو تكفيره على أتفه الأشياء ! لقد انحسرت العديد من العادات والتقاليد المتمدنة اليوم في مجتمعاتنا باختلاط الأمور، واضمحلال الحياة، وانخفاض مستويات المعيشة، وانتشار الفقر والبطالة، وقبح السكن، وسوء سياسات الحكومات، وبلادة الأنظمة السياسية بعدم الاهتمام بالإنسان والمجتمع .. إنني مؤمن إيمانا حقيقيا بأن مجتمعاتنا من الصعب تغييرها اليوم، أو إحداث أي ثورة مدنية في تقاليدها الصعبة نحو الأفضل .. فهي تعتقد اعتقادا راسخا، أن مجرد أخذها بالتغيير، فسيفقدها التغيير أخلاقياتها ويلحقها بالغرب وهي شديدة الكره للغرب ! وربما كانت الأجيال السابقة تتقبل هذا "المفهوم" كونها مؤمنة بالتغيير وبناء المستقبل .. ولكن الجيل الجديد لم يعد يتقّبل أبدا مثل هذا المفهوم، كونه يترّبي اليوم علي تقاليد بالية، وتقترن الحداثة عنده بالتغريب، ومثل هذا " التفكير " جناية بحد ذاته بحق مصيرنا . دعونا نعالج في حلقات قادمة على ورق الورد، جملة من الأفكار التي ازعم أنها جديدة، كي تساعدنا في الخروج من اختناقات هذا الواقع الصعب الذي خلقته إخفاقات سياسية عمرها نصف قرن من الزمن الصعب .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |