|
أفياء البدلة الزرقاء
يوسف أبو الفوز يوما قال الفقيد هادي العلوي ان تحت كل نخلة عراقية يجلس شاعر عراقي. وربما لست مبالغا، اذا قلت نادرا ان تقابل عراقيا لم يحاول في حياته كتابة الشعر، حتى ولو لنفسه . هذه الرغبة، أجدها تتسلل الى روح العراقيين مع غبار طلع النخيل . وكنت واحدا من هؤلاء الذين استنشقوا الطلع، وحاولت الاستظلال بسعفات نخلات الشعر . كنت في الثالثة عشر من العمر، حين اعلن استاذي، في اللغة العربية، أبن الموصل الحدباء، المربي الفاضل، عبد الامير عبد الوهاب، عن كون ما كتبته في دفتر الانشاء كان"قصة قصيرة"، ودفعه حماسه الى ان يدور بي يومها في كل صفوف المدرسة ليعلن عن ولادة كاتب عراقي ـ مرة واحدة ! ـ . هذا الاعلان جعلني اودع طفولتي باكرا، والنظر بجدية الى ما يعنيه لقب الكاتب، فكان ان غرقت بالقراءة ورحت أسعى لأكون هذا المعلن عنه . ولعدة سنوات كنت مشتتا وكدت اضيع بين العديد من الانواع الادبية . كتبت للمسرح، نصوصا متواضعة قدم بعضها في البيوت من قبل فرق اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي، وكتبت نصوصا حماسية للمسابقات المدرسية في الخطابة، وواصلت كتابة القصص القصيرة الساذجة وبعضها بـتأثير الاحداث وما اقرأ، وبالطبع، ومثل كل عراقي تعلم فك الحرف، حاولت كتابة الشعر أيضا!! في سنوات دراستي الجامعية، في البصرة، عملت مراسلا لطريق الشعب . العمل الصحفي وبشيء من الاحتراف رسخ عندي القناعة بأن النثر والقصة تحديدا هي مجالي الارحب، وهي بيتي المناسب، فالصحافة علمتني الاحاطة بالتفاصيل وملاحقتها لتعزيز قدراتي في الكتابة. لكني لم اتوقف عن خربشت نصوصا اسميها شعرا، فثمة افكار تداهمك وتظن انها بذاتها تختار شكل كتابتها . الامر هنا ربما مرهون بكيمياء الروح! ويوما، في البصرة، وكنت دون العشرين من العمر، مترعا بالاحلام والامنيات والحيوية، مثل كل صحبي ورفاقي نحلق عند حواف الحلم مع كل فجر يوم جديد، وفي حفل طلابي، كنت اجلس قريبا الى الباب حين التفت لارى في أطار الباب فاتنة توشك على الدخول . النور يغطيها فتبدو كملاك . فاتنة بثوب ازرق . وثمة من ناداها فالتفت، تطاير شعرها، فأهتز قلبي . عند تلك اللحظات الحميمة ولدت سطور عفوية، فيها شيء من روح وشعر نزار قباني، راح الاصدقاء المقربين مني يتخاطفوها . صار لها عنوان مباشر جدا:"ذات الفستان الازرق"! . في النص، المتواضع، الذي ولد في لحظة الاعجاب الخالص، كتبت عن فاتنة يسبقها الضوء على مدخل الباب فتبدو كأنها ملاك، عن الازرق الذي ملأ المكان بهاءا، عن شعرها الذي يتناثر فيجعل القلب يرتجف. ونشر النص في عدد من دورية"المرفأ"، التي كانت تصدر كل اسبوعين في البصرة، وأذكر أن رئيس تحرير المرفأ أشاد بالنص عند نشره . لدواع مختلفة، كتمت عن أصحابي شخصية الفتاة المعنية في النص، والذين راحوا يتبارون في التخمين ومحاولة معرفتها . راح اصدقائي، وكثير منهم احياء ويتذكرون تلك الوقائع، يقودهم الشهيد الغالي"وافي كريم مشتت"*، يدفعون بي مرات عديدة في التجمعات الطلابية الى قراءة ذلك النص بالذات . كان ذلك يحدث بدوافع عديدة، ربما منها الاعجاب بالنص، ومنها المشاكسة ومحاولة احراجي ولمراقبة ردود فعلي لمعرفة هوية ذات الفستان الازرق ! ولكن، هل يفهم البعثيون العفالقة وجلازوة منظمة الاتحاد الوطني كل هذا الذي تقدم ؟! في يوم من أيار عام 1976، وبعد ايام من قراءة النص في سفرة طلابية، جرجروني من نادي الكلية الصغير، الى غرفة منظمة البعث الطلابية، المسماة الاتحاد الوطني . خلف الطاولة كان هناك وجوه لم تكن من طلبة الكلية، وكان أحد كوادر الاتحاد الوطني، الذي صار فيما بعد رئيسا له في كلية الادارة والاقتصاد (الاخبار تقول انه قتل في الحرب مع ايران) يقرأ بعصبية في ورقة أمامه مجموعة من الاسئلة . كانوا يريدون ان يفهموا، ماذا اعني بقولي: "ذات الفستان الازرق"؟ هل هذا يعني الطبقة العاملة وبدلتها الزرقاء ؟! وماذا يعني"لأنتفاضة شعرها يرتجف القلب"؟! وتساءل بغضب احد الغرباء عن الكلية عن معنى:"نظراتها تحمل النور"؟! كان يهتز وهو يتكلم ويريد أن يعرف أي نور أقصد؟! ولاكثر من ساعة، والنقاش والتهديدات تدور في ذات المربع الاول. ولم ينقذني من كل هذا سوى قدوم احد جلاوزة الاتحاد الوطني مضطربا ليعلن بأن عدد الطلبة من اصدقائي ورفاقي صار يتكاثر عند باب الغرفة بأنتظار خروجي، فتركوني وثمة من يهز يده تهديدا ! لكم كان الطغاة يخافون الوان الحياة، وكم كانت البدلة الزرقاء بهية الافياء ! --------------------------- * الشهيد وافي كريم مشتت: مواليد مدينة الثورة 1956. طالب في كلية الإدارة والاقتصاد جامعة البصرة من عام 1975 . ترك الدراسة عام 1978 واختفى في بغداد . اعتقل أوائل ثمانينات القرن الماضي . قال سجناء سابقون في سجن"أبو غريب"انه اعدم ولم تسلم جثته إلى أهله.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |