نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح نائب رئيس الوزراء العراقي

الحلقة الثانية

هل من نموذج للتنمية في العراق؟

أ. د. كاظم حبيب

akhbaarorg@googlemail.com

السؤال المشروع الذي يستوجب الإجابة الصريحة عنه هو : هل تمتلك الحكومة العراقية الراهنة إستراتيجية تنموية, أم لا تزال الأمور تراوح في مكانها رغم مرور ست سنوات على سقوط الفاشية السياسية, ورغم وجود وزارة للتخطيط ومسئولين عن الملف الاقتصادي؟ وهل هذا ناشئ عن تضارب في الآراء والمواقف والمصالح للقوى والأحزاب المختلفة المشاركة في الحكم في تشخيص وجهة وحاجات وآليات التنمية المنشودة أم أن شيئاً آخر وراء الأكمة؟

كل الدلائل تؤكد عدم وجود إستراتيجية للتنمية على  صعيد العراق كله, ومعه طبعاً إقليم كردستان, وهذا ما أكده السيد وزير التخطيط علي بابان أكثر من مرة. ولكن هناك بعض الأفكار والمواقف التي يلتزم بها المشاركون في الحكم وخارجه ويلتزمون بهذا النموذج أو ذالك في التنمية وفي تحديد الإستراتيجية, كما في حالة الأخ الدكتور برهم صالح أو حكومة إقليم كردستان أو بعض الأطراف الأخرى المشاركة في الحكومة المركزية ببغداد. وقبل الإجابة عن رؤيتي لاستراتيجية ووجهة التنمية وآلياتها يفترض الحديث عن النموذج الاقتصادي الذي يراد الأخذ به للتنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي في العراق. أي, ما هي العوامل التي تفرض على الحكومة العراقية تحديد النموذج الاقتصادي الذي يراد الأخذ به خلال الفترة القادمة؟

حين نمعن النظر في أوضاع الاقتصاد والمجتمع في العراق سنجد أمامنا الواقع الكارثي الموروث والمستحدث التالي :

1.      يعتبر العراق من البلدان النامية التي تعاني من تخلف اقتصادي شديد ومن انكشاف كبير على العالم الخارجي. وقد أدت السياسات التي مارسها النظام السابق والحروب العدوانية التي فجرها وخاضها والتفريط الوحشي بموارد البلاد المالية وثرواته الوطنية من جهة, والسياسات غير الرشيدة التي مارستها الإدارة الأمريكية والحاكم بأمره بريمر وتفاقم الطائفية السياسية والتمييز الديني والطائفي, وتفاقم الإرهاب الدموي وتكريس سياسية التوزيع الحصصي للسلطة وانتشار الفساد والنهب المالي من جهة أخرى, قد عطلا العملية التنموية طيلة السنوات المنصرمة في أعقاب سقوط النظام الدكتاتوري. والعامل الأخير حاول دفع البلاد في طريق مسدود حقاً لا يتناغم مع حاجات ومتطلبات وقدرات العراق.

2.      وبدت سوءات وجسامة وخطورة حالة الانكشاف على الخارج في فترة الأزمات والحروب والحصار الاقتصادي التي مر بها العراق في عهد النظام الاستبدادي , ولكنه يلاحظ اليوم أيضاً بالارتباط مع الأزمة الاقتصادية العميقة التي لا تزال لم تستكمل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي تجلت بالنسبة للعراق في انخفاض إيرادات النفط الخام بسبب تراجع الطلب عل النفط وانخاض سعر البرميل الواحد بنسبة عالية جداً من 146 دوراً إلى أقل من 40 دولاراً للبرميل الواحد, وبقاء اسعار الاستيراد السلعي عالية جداً بالقياس مع سعر الخامات الأولية.

3.      والاقتصاد العراقي ليس مشوهاً من حيث بنيته الداخلية فحسب, بل ومخرباً تماماً بسبب تلك السياسات والحروب وما أعقبها من سياسات, إضافة إلى سيادة الفساد المالي والإداري الذي ضيع بطرق مختلفة ما وصلت للعراق من أموال من مانحين دوليين لأغراض إعادة الإعمار, حيث تعرقلت هذه العملية حتى الوقت الحاضر. والدكتور برهم الح المسئول عن العهد الدولي والذي إدار الكثير من اجتماعات المانحين يدرك أكثر من غيره التبذير والتفريط والضياع والفساد الذي ألم بتلك الأموال والنزر اليسير منه هو الذي بقي في العراق واستخدم لصالح الناس. 

4.      واقتصاد العراق, كما هو معروف, نفطي استخراجي ريعي وحيد الجانب, وتعتمد ميزانية الدولة الاعتيادية والتنموية فيه على إيرادات النفط الخام بشكل خاص من جهة, كما أنه اقتصاد استهلاكي يعتمد على الاستيراد السلعي في تغطية الحاجة المحلية بنسبة عالية جداً ويعتمد على موارد النفط الخام في دفع مبالغ الاستيراد الا ستهلاكي السنوية.  أي أن إيرادات العراق المالية يذهب معظمها لأغراض الاستيراد السلعي الاستهلاكي.

5.      وهذا يعني أن الاقتصاد العراقي محروم تماماً من عملية تراكم رأس المال ومن تنمية وتعظيم للثروة الوطنية من خلال تنشيط القطاعات الإنتاجية السلعية (الصناعة والزراعة) المحلية. ويتجلى ذلك بوضوح كبير في أسلوب علاقات الإنتاج المهيمنة والمضيعة لفرص الاستثمار وتحقيق التراكم من جهة, وضعف نمو العلاقات الإنتاجية الرأسمالية المنشطة للتراكم الرأسمالي وتخلف الأطر الضرورية لتعجيل التنمية الوطنية, وتنشيط القطاعين الخاص, المحلي والأجنبي, والقطاع الحكومي. ويمكن للتظاهرة الا حتجاجية التي نظمها اتحاد الصناعات العراقي مع بعض النقابات العراقية حول الموقف السلبي للحكومة من القطاع الصناعي تأكيد لما نقول في هذا الصدد.

6.      ورغم الحديث عن الجهود المبذولة في إقامة البنية التحتية والخدمات الأساسية, فأن العراق لا زال يعاني من تخلف شديد وشكوى مرة في هذا المجال أيضاً, وبشكل خاص في مجال الطاقة والماء والمجاري والهاتف والنقل...الخ , رغم توفر الإمكانيات لتنشيط العمل في هذا القطاع والذي يمكن أن يستوعب الكثير من الأيدي العاملة العاطلة حالياً.  

7.      كما أن هذا الواقع قد تجلى في وجود بطالة واسعة أكثر بكثير مما يصرح به المسئولون, إضافة إلى سعة قاعدة البطالة المقنعة المتراكمة في أجهزة الدولة المتضخمة والمستنزفة للكثير من موارد العراق المالية. وهي التي ستبقى تثير المزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتهيئ أرضية تحرث دوماً لصتلح قوى الإرهاب والحصول على من ينفذ عملياتهم الإرهابية.

8.      ولا شك في أن العراق لا زال يعاني من نقص قاعدة المعلومات والبيانات ومراكز البحث العلمي النظري  والتطبيقي, إضافة إلى الضعف الشديد الذي تعاني منه الجامعات العراقية ومناهجها ونقص الجهاز التعليمي وضعفه ومعاناته من قوى الإرهاب وتدخل قوى الإسلام السياسي في الشأن الجامعي والتعليمي وفي وضع مناهج متخلفة ولا علمية واضطرار عدد كبير من الكادر العلمي إلى مغادرة العراق, إضافة إلى العدد الكبير الذي استشهد في حروب النظام المريرة وخلال الأعوام المنصرمة.

9.      ولا بد من الإشارة الواضحة إلى التدهور الشديد في بنية القوى العاملة في العراق من حيث مستوى التعليم العام والمهني والفني وتراجع مستوى المهنية والحرفية لدى الأيدي العاملة. وهذه الحالة تستوجب التغيير في وجهة التعليم العام والمهني والمناهج وإعادة التأهيل. وهي حالة مرتبطة بتراجع في حجم الطبقة العاملة وجمهرة الفلاحين لصالح الفئات المهمشة اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وتعليمياً وثقافياً وانضباطاً.  

10. ولا شك في أن الشرط الأساس لاختيار ووضع وتنفيذ إستراتيجية تنموية هو الأمن والاستقرار والتفاهم والتعاون وحل المعضلات بالطرق السلمية والآليات الديمقراطية بين الأحزاب والقوى السياسية المشاركة في تكوين الحكومة, إضافة إلى موقف المجتمع من سياسات الحكومة. وأن ما يعيشه العراق حالياً هو غياب الثقة المتبادلة والتنافس بالمناكب المتبادل لانتزاع "اقصى الحقوق" في العراق الجريح والمخرب والإنسان العليل والمهمو حقاً.

11. وبسبب الفوضى التي سادت العراق خلال عدة أعوام منصرمة وتحول مظاهر الفساد المالي والإداري الكبيرة في العهد الصدامي إلى مستوى النظام الفاعل في الدولة والمجتمع, وانسياب المليارات الكثيرة من الدولارات إلى جيوب الفاسدين والمفسدين, نشأت فجوة متسعة وأكثر من أي وقت مضى بين قلة قليلة مالكة للأموال ومرفهة, وبين أكثرية تعاني من الفقر والعوز وشظف العيش , رغم الحديث عن متوسط حصة الفرد الواحد من الدخل القومي الذي لا يعني شيئاً كما سنتحدث عنه في الحلقات اللاحقة.

12. وقد أوجدت هذه الحالة تراجعاً شديداً وسريعاً في مصداقية الناس وثقتها بقوى المعارضة السابقة والحاكمة حالياً على مستوى العراق كله. فالثقة بالدولة وحكومة الإقليم ومجالس المحافظات ضعيفة جداً والثقة في ما بين القوى السياسية متردية, مما يزيد من حالة التأزم الجارية في البلاد.

13. والشيء الوحيد المنتعش في العراق هو الاستيراد وإغراق الأسواق الملحية بالسلع المصنعة السيئة النوعية من دول الجوار والدول الأخرى ذات الإنتاج الردئ, وهي ظاهرة سلبية بسبب استنزافها لموارد العراق المالية, وإعاقة البناء الصناعي والزراعي في البلاد, إضافة إلى إعاقة تشغيل العاطلين عن العمل. 

هذا هو الواقع الذي يواجه العراق حالياً, رغم التحسن الأمني الهش الذي حصل في المحافظات مع تراجعه في كل من بغداد والموصل وديالي وربما كركوك. وهذا الواقع المزري اقتصادياً والموروث والمضاف إليه سلبيات جديدة, يفرض على الحكومة العراقية وحكومة الإقليم ومجالس المحافظات الأخذ بنموذج اقتصادي معين للتنمية في العراق. وتتلخص الأسباب الكامنة وراء الدعوة للأخذ بالنموذج الذي نطرحه لاحقاً بما يلي:

  1. العراق ليس بالدولة الفقيرة, بل مالكة للخيرات الأولية التي يمكن تحويلها إلى موارد مالية كبيرة توضع لتحقيق التنمية المعجلة. والنفط يشكل أبرز تلك الموارد المادية, إضافة إلى وجود خامات أخرى قابلة للتنمية الصناعية, كما أن أرض العراق متنوعةو قابلة للتنمية الزراعية الحديثة.

  2. والعراق مالك لطاقات بشرية متخصصة رغم فقدان نسبة كبيرة منها عبر الحروب والاستبداد والإرهاب, إضافة إلى اضطرار الكثير منهم للعيش في الشتات, ولكن يمكن الاستفادة منهم عند توفير الأطر المناسبة لعودتهم وعملهم في الوطن.

  3. والعراق مطلوب على الصعيد الاقتصادي العالمي لا من حيث ثرواته النفطية فحسب, بل ومن حيث قدرته على استيعاب الكثير من التوظيفات لأغراض التنمية التي تحقق أرباحاً طائلة لأصحاب رؤوس الأموال المحليين والأجانب, وكذلك من حيث كونه ثروة صناعية سياحية هائلة. إذ كل بقعة من العراق تعتبر موقعاً لجذب السياح والزائرين, سواء أكانت سياحة دينية لكل الديانات والمذاهب الدينية المعروفة, أم سياحة للآثار القديمة في بابل ونينوى وغيرهما, أم سياحة جبلية ومصايف كردستانية أم صحراوية.

  4. ويمكن للعراق أن يمارس عملية التعاون والتنسيق الاقتصادي على الصعيدين العربي والإقليمي وعلى الصعيد الدولي في مجال إعادة الإعمار والتنمية المستدامة والاستفادة من الخبرات والكفاءات والتقنيات الحديثة في عملية التنمية في كوكبنا المعولم.         

إن كل ذلك يفرض علينا أن نختار النموذج المناسب للتنمية بحيث يحقق للعراق الربط العضوي بين النشاط المعجل والمتسع والمكثف للقطاع الخاص المحلي والإقليمي والدولي, وبين النشاط الموجه والحركي لقطاع الدولة. ويمكن للقطاع الأخير أن يتوجه صوب القطاع الصناعي الإستخراجي للنفط والغاز الطبيعي ومنتجاتهما وصوب البنية التحتية وجملة من مشاريع الصناعة التحويلية التي يفترض أن ينهض بها القطاع الحكومي لصعوبة مساهمة القطاع الخاص بها. وبهذا يكون لدينا نموذج اقتصادي لا يعتمد على القطاع الخاص وحده, ولا على  القطاع الحكومي وحده, بل يجمع بين القطاعين ليحدد مسار التنمية الوطنية للعشرين سنة القادمة على أقل تقدير.

وفي هذه النقطة بالذات أختلف مع السيد الدكتور برهم صالح الذي يدعو إلى النموذج اللبرالي الجديد الأكثر تشدداً في مقاومة دور الدولة وقطاعها اقتصادي, والذي اثبت فشله وضرره للعالم كله, ولكن بشكل خاص للدول النامية. وفي قناعتي الشخصية أرى بأن الاقتصاد العراقي لا يمكنه أن يستغني بأي حال وعلى مدى العقود الثلاثة القادمة عن قطاع الدولة أو أن يستغني عن القطاع الخاص المحلي والأجنبي, وبالتالي لا بد من إيجاد صيغة تعاون وتنسيق عملية تنهض بالاقتصاد العراقي من كبوته الشديدة, وهي المهمة الأولى المركزية حالياً في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية التي في مقدورها أن تعالج أزمة البطالة المستفحلة وأزمة الفقر المدقع لفئات واسعة في المجتمع.. الخ. ومنذ مجيء بريمر إلى العراق حتى الآن اشتدت الدعوات إلى:

** توقف الدولة كلية عن النشاط الاقتصادي وجعله بيد القطاع الخاص بشكل كامل, في وقت يعجز القطاع الخاص على النهوض بهذه المهمة, وفي وقت يحتاج الاقتصاد العراقي إلى جهود الدولة.

** تصفية مشاريع القطاع العام من خلال بيعها للقطاع الخاص المحلي أو الأجنبي (الخصخصة) دون النظر إلى أهمية بقاء البعض منها في يد قطاع الدولة لأسباب كثيرة ودون النظر إلى عدم رغبة القطاع الخاص فيها, مع توفر إمكانية تشغيلها حكومياً.  

* ابتعاد الدولة عن التصنيع التحويلي كلية والاكتفاء باستيراد السلع المصنعة من الخارج, أي استمرار جعل الاقتصاد العراقي اقتصاداً إستخراجياً ريعياً واستهلاكياً لا غير , وهذا يعني عجز الحكومة عن تغيير عدة مسائل سلبية على الأقل:

أ. إبقاء الاقتصاد العراقي اقتصاداً ريعياً من حيث النفط والزراعة, واستهلاكياً في اعتماده على استيراد نسبة عالية جداً من احتياجات السوق المحلية.

ب‌. استنزاف شديد للموارد المالية المتأتية من النفط الخام دون المشاركة في إغناء الثروة الوطنية.
ت‌. عدم تحقيق تراكم رأسمالي ضروري جداً للعملية التنموية ولإغناء الثروة الوطنية والا حتفاظ بالثروة داخل البلاد وإحداث تغيير في بنية الاقتصاد الوحيد الجانب وتخليصه من تبعيته الشديدة الراهنة.

ث‌. العجز عن تأمين العمل لمزيد من الأيدي العاملة في دولة لا تزال نسبة الأطفال والصبية والشباب كبيرة جداً وتضخ سنوياً الكثير من الأيدي العاملة الجديدة إلى سوق العمل.

ج‌. العجز عن ضمان الأمن الغذائي من المنتجات الزراعية والصناعية في البلاد والانكشاف الشديد على الخارج, وخاصة في فترات الأزمات والتعقيدات مع دول الجوار.

وستكون لمثل هذه السياسة عواقب سلبية على المدى البعيد والأجيال العراقية القادمة, رغم أن الجيل الراهن سيعاني من البطالة والفقر بشكل خاص, إضافة إلى استمرار فعل بقية المشكلات الاقتصادية.
نحن أمام صراع ملتبس في غالب الأحيان بشأن العلاقة بين القطاعين العام والخاص من جهة, وبشأن العلاقة بين الصناعة والزراعة والتجارة من جهة أخرى, لسببين هما:

• الخلفية الفكرية والسياسية والمصلحية التي يحملها كل طرف من أطراف الصراع والمبنية على أحكام مسبقة وجاهزة.

• والتباين أو الضعف في وضوح الرؤية لبعض جوانب الواقع الراهن ومهمات المرحلة التي يعيش فيها شعب العراق ومن ثم مهماته الراهنة ومهمات أجياله القادمة.

وهذا النقد يتوجه صوب المغالين المتخندقين في اتجاهين متناقضين وليس باتجاه واحد, سواء من يرفض القطاع الخاص أو يرفض القطاع العام, في حين نحن ولسنوات طويلة قادمة بحاجة إلى الاثنين.

القطاع العام والقطاع الخاص لا يعنيان شيئاً في خضم الصراع من أجل السلطة السياسية. فالدولة الاشتراكية السوفييتية التي كانت تمتلك كل شيء, فرطت بكل شيء لأسباب كثيرة, ولكن بشكل خاص بسبب البيروقراطية وغياب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والفساد الحزبي والحكومي والمالي والإداري .. وبسبب التعسف في هيمنة الدولة على كل شيء الذي أدى إلى فقدان السيطرة على كل شيء, إضافة إلى أسباب كثيرة جوهرية أخرى.

إن جوهر القضية في العراق يكمن اليوم في موقفنا من مبادئ وممارسة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات ومدى الوعي بمهمات المرحلة ومستوى العدالة الاجتماعية الذي ننشده, وليس بالشعارات التي تطرح وفيها الكثير من المزايدات التي لا تتطابق مع الواقع القائم ولمدى ربع قرن قادم على اقل تقدير.

المرحلة الراهنة تستوجب الصراحة في طرح الأفكار والمواقف. نحن أمام مهمة بناء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في العراق ولسنا أمام أي مهمة أخرى. ولكن الرأسمالية التي يفترض أن تبنى في العراق يستوجب اعتمادها على قطاعين, على القطاع الخاص, أي على دور البرجوازية الوطنية وعلى نشاطها الاقتصادي التصنيعي والزراعي والتجاري ...الخ ومعه القطاع الخاص الأجنبي, وعلى قطاع الدولة الذي يمتلك الموارد المادية والمالية, إذ لا بد من مشاركتهما في عملية التنميةالمستدامة بالارتباط مع واقع المجتمع وحاجاته.  نحن أمام مهمة إزالة بقايا العلاقات القديمة المتخلفة والبالية المعرقلة لنمو الرأسمالية والتصنيع الحديث وتحديث الزراعة والتغيير الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. ولكن, ونحن نبني العلاقات الرأسمالية , نحتاج إلى عتلات مهمة أو إلى آليات يفترض فيها أن تساند وتساعد تعجيل عملية التنمية والنمو وتحقيق التراكم الرأسمالي وتنظيم هذه العملية في اقتصاد السوق من جهة , ولكن بحن بحاجة أيضاً إلى كوابح يفترض فيها أن تحد في الوقت نفسه من شراسة الاستغلال المحتملة وأن تساهم في تنظيم العملية الاجتماعية بقوانين ملزمة بحيث يتجنب المجتمع احتدام الصراعات الطبقية بسبب نشوء فجوة متسعة في مستويات المعيشة والغني والثروة من جهة أخرى. ومثل هذه الإمكانية متوفرة وضرورية, أي أننا بحاجة إلى اقتصاد السوق ولكن بوجهة اجتماعية منظمة للعلاقات والضمانات في المجتمع. لقد كان بريمر يدفع بالعراق صوب الرأسمالية الأكثر عتواً واستغلالاً, وهذا ما يدعو إليه الكتور رهم صالح بوضوح كبير لا يقبل الا لتباس, وتصريحاته وخطبه كفيلة بتأكيد ما توصلت إليه.    

كلنا يعرف بأن القوانين الاقتصادية الموضوعية في الرأسمالية هي واحدة, ولكن فعل تلك القوانين متفاوت بالارتباط مع مستوى التطور والمراحل التي قطعها التطور الاقتصادي الرأسمالي في كل بلد من هذه البلدان والسياسات التي تمارسها الدولة. وهذا يعني أن التجارب متباينة من حيث الزمان والمكان ومستوى التطور ومن حيث التعامل مع تلك القوانين الاقتصادية الموضوعية ومع القواعد والآليات التي تنظم العملية الاقتصادية. ومن هنا علينا أن ننتبه وننبه بأن ما نفذ في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو ألمانيا أو أسبانيا أو البرتغال أو غيرها من سياسات وإجراءات لا يمكن أن تكون ذاتها في العراق , رغم كون القوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة للرأسمالية واحدة. إن وعي هذه القضية ضروري لكي نبتعد عن الجمود والنصية والتجريبية والخضوع لهذا النموذج أو ذاك, إذ لا يمكن أن يكون ذاته مناسباً لكل الدول. إن عملية التحول من الاقتصاد الشمولي الذي ساد في العراق صوب اقتصاد السوق ليس سهلاً, ولكن لا يجوز أن يتم على حساب مالح البشر والفقراء والمعوزين منهم على نحو خاص. ومن هنا يأتي مفهوم اقتصاد السوق الا جتماعي.

نحن بحاجة إلى تطور رأسمالي بالقطع ودون أي لف أو دوران , ولكن نحن بحاجة إلى ضوابط تسمح بنشوء سلم اجتماعي يساعد على مشاركة الجميع في البناء وفي الاستفادة من التقدم الاقتصادي , ونحن بحاجة إلى تسريع العملية الاقتصادية والبناء الرأسمالي والتغيير الاقتصادي والاجتماعي وينقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى. نحن في العراق لا نزال في قعر التخلف والفوضى والبؤس والفاقة رغم غنى الأرض وقدرة الإنسان العراقي على البناء. نحن بحاجة إلى  اقتصاد السوق الاجتماعي وليس إلى اقتصاد رأسمالي متوحش. الحوار حول هذه المسألة جار على قدم وساق في سائر ارجاء العالم والأزمة الاقتصادية الشاملة الجارية عمقت هذا النقاش وساعدت على مشاركة الكثير من الناس به, وعلينا خوضه لصالح شعب العراق بكل مكوناته القومية والاجتماعية بهدف الوصول إلى ما يخدم الشعب. 

 

انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة الخاصة باستراتيجية التنمية في العراق.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com