الحرية والكرامة اولاً أم ماديات الحياة ؟

فارس حامد عبد الكريم

farisalajrish@yahoo.com

بعد مرور ست سنوات على العهد الجديد في العراق، شهدت خلالها ارض الرافدين صراعاً  حاداً بين فريقين، فريق يسعى الى احتواء الأزمة وتحويل مخلفات سقوط النظام السابق الى نصر وطني وتاريخي عبر بناء دولة المؤسسات والقانون والديمقراطية، وفريق يسعى بكل جهد وبكل الوسائل الى افشال التجربة مشككاً بكل الانجازات الوطنية المعنوية التي تحققت للشعب العراقي، متذرعاً بفشل الحكومة في تقديم ما يقتضي من ماديات الحياة الى المواطنين سواء على صعيد الخدمات او توفير الطاقة الكهربائية وحل أزمة السكن وتطوير الزراعة والإنتاج الوطني وغير ذلك من ضروريات الحياة المعاصرة ومستلزماتها ، ولأن الفريق الثاني مدعوم بقوى اقليمية مجربة في مجال الأعلام الموجه وغسيل الأدمغة فقد تمكن بصورة ملحوظة في خلق روح التذمر والشكوى في نفوس بعض المواطنين فضلاً عن التقليل من أهمية الانجازات التاريخية التي تحققت للشعب العراقي على الأصعدة القانونية والسياسية والدستورية.

  السؤال المثار بمناسبة مرور ست سنوات من عمر التجربة العراقية هو ما هي أهمية الانجازات المعنوية التي تشكل البنية التحتية للدولة وتعبر عن توجهات النظام الدستوري والسياسي في العراق الجديد مقارنة بالانجازات المادية؟ وهل عند الضرورة تقدم الحرية والكرامة على الماديات ام ان العكس هو الصحيح؟ وهل حقاً ما يردده البعض من انه بعد مرور ست سنوات على سقوط النظام السابق لم يتحقق أي شيء؟

وهل قدم شهداء العراق ومقارعي الظلم والدكتاتورية أنفسهم نذراً لحرية وكرامة العراقيين ام كان لهم هدف أخر؟

أولا: الحرية والكرامة للبشر

 الحرية مطلب انساني قديم، قدمت البشرية من اجلها تضحيات كبيرة، وهي أساس الثورات الكبرى في التاريخ التي أنجبت وثائق ودساتير رسخت مفاهيم الحرية وطرق ممارستها وفرضت على الحكام احترام كرامة البشر، ففي سنة 1215 صدرت وثيقة الحقوق (الماكنا كارتا ) في انكلترا . وفي 12 حزيران 1776 صدر إعلان فرجينيا للحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية بعد بدء حرب الاستقلال ومن ثم تبعه إصدار الدستور الأمريكي سنة 1787.

وفي فرنسا صدر إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789.

وتصف المادة (12) من إعلان فرجينيا حرية الصحافة بأحد أهم معاقل الحرية الأساسية التي لا يمكن أن تقيد إلا من المستبدين مؤكدة ان حرية الدين والعبادة تكون عبر الاقتناع لا بالإكراه أو العنف.

وتنص المادة (15) منه على انه ( لا يمكن لشعب أن يحتفظ بحكومة حرة وفوائد الحرية، إلا بانتساب صارم ودائم لقواعد العدالة، الاعتدال والاتزان والاقتصاد والقيم، وبالعودة باستمرار لهذه المبادئ الأساسية).

وعرفت المادة (4) من إعلان حقوق المواطن الفرنسي الوارد في مقدمة دستور سنة 1789 الذي تضمن مبادئ الثورة الفرنسية ، والحقوق والحريات العامة على انها ( القدرة على إتيان كل عمل لا يضر بالآخرين) .

وفي العصور الحديثة، وخاصة بعد صدور الاعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/12/1948 ، أضحت مسألة ترسيخ حقوق الإنسان وحرياته الفردية والجماعية ذات طبيعة دولية بعد ان كانت ذات طبيعة وطنية ومسألة أخلاقية ينحصر إدراك مداها بقلة من الفلاسفة والمفكرين والإصلاحيين، فقد جاء في ديباجة الاعلان العالمي لحقوق الانسان ما نصه:

(لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم.

ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة.

ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم.

ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.

ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها.

ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد.

فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطردة، قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها.

 )

ونصت المادة (1) منه ( يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.)

بينما نصت المادة (2 ) منه ( لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود.)

ونصت (المادة 7 ) منه ( كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تميز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا.)

وجاء في (المادة 8 ) على انه ( لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه عن أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون.)

فالحرية أثمن شيء في الوجود وكل إنسان على وجه البسيطة يدرك أهمية الحرية بالنسبة لحياته وحياة الآخرين، إلا انه لا يدرك أهميتها القصوى إلا من ذاق ذل الحكم التعسفي وأشكال العبودية والقهر بمظاهرها المختلفة.

وتقوم الفلسفة المعاصرة للحرية على أساسين رئيسين أولهما إقرار الحريات العامة بمختلف أنواعها وتطوراتها وثانيهما توفير الوسائل والمناخات اللازمة لممارستها فعلياً.

 اذ لا يكفي مجرد الاعتراف بالحريات العامة في صلب الوثيقة الدستورية اذا لم تكن ممارستها من الناحية الواقعية ممكنة، واهم وسائل ممارستها هي تنظيمها بقانون، وهكذا تتحول حرية التعبير إلى قوانين متنوعة كقانون الانتخابات وقانون الصحافة وقانون تأسيس الأحزاب والجمعيات والقوانين المنظمة لعمل المنظمات الإنسانية وغيرها.

بينما تعد المعرفة والتعليم الكافي من أهم المناخات الملائمة لممارسة الحرية وخلق فرص استثمارها استثماراً مبدعاً وخلاقاً، فلممارسة الحرية ممارسة حقة ينبغي ان نكون ازاء شعب متنور بنور المعرفة مما ينبغي توفير التعليم الكافي وتنمية المعارف المجتمعية فيما يتعلق بممارسة تلك الحريات وفهم الغايات والمقاصد المرجوة منها، لان الجهل بالحرية وبطرق ممارستها قد يؤدي إلى نتائج عكسية لما هو متوقع من اطلاق الحريات العامة وقد يقود إلى الخضوع الأعمى وترسيخ ثقافة انكار الحرية.

كما ان مناخات الفقر والحاجة وسوء الحال قد تشكل من الناحية الواقعية عائقاً إمام ممارسة العديد من الحريات العامة.

 

 

ثانياً: الحرية والكرامة للعراقيين

إذا سألت أي عراقي أو عراقية عن الخيار بين الكرامة أو الخبز أو ماديات الحياة الأخرى فانه سيجيبك انه يختار الكرامة وانه يفضل الموت على الحصول على الخبز إذا جاء بمذلة ومهانة، ففي عهد الطغاة كان الطعام والخبز متوفراً بل كان كل شيء متوفراً تقريباً وخاصة في فترة الثمانينات من القرن الماضي إلا كرامة الإنسان وحريته.

ومع ذلك فان مقولة ان ذاكرة الشعوب ضعيفة قد تبدو صحيحة نسبياً، ومن هنا كان دور الأدب والشعر والفن والإعلام في إحياء ذاكرة الشعوب ولفت انتباهها إلى قيمة الانجازات الوطنية وأثرها على حياتها الراهنة ومستقبلها، لاني أجد البعض من اخوتنا العراقيين غير منسجمين مع أنفسهم حين يسألهم سائل عما تحقق من انجازات في العراق الجديد فتكون إجابتهم انه لم يتحقق لنا شيء !!! ومن ثم يتحدثون عن نواقص عديدة مثل الحاجة إلى التعيين ونقص الخدمات والكهرباء وغير من ذلك من امور هي حقاً من ضروريات الحياة....

والحال إني اختلف مع إخوتي واتفق، اختلف معهم في قولهم (انه لم يتحقق لنا أي شئ ) واتفق معهم في مطالبتهم بحقوقهم فيما يعد من ضروريات الحياة ومستلزماتها..

لقد تحققت خلال السنوات الستة الماضية انجازات كبرى وتاريخية على صعيد كرامة الإنسان العراقي وحريته، انجازات كانت لنا بمثابة حلم سعيد يبدو بعيد المنال وسط جملة من كوابيس الدكتاتوريات المتعاقبة.

وجاء دستور جمهورية العراق لسنة 2005 النافذ ليضمن لنا ممارسة كل الحريات بعد ان كتبناه عبر ممثلينا المنتخبين ومارسنا حق الانتخابات ونعبر عن حريتنا الأدبية والعلمية ضمن المعايير الدستورية دون حواجز بوليسية او قمع أو اعتقالات ، وصحف العراق ومحطاته الإعلامية فاقت من حيث العدد ما هو موجود في العديد من الدول وكذلك الأمر من حيث التنوع الفكري والاعتقادي ... ونشأت لدينا ولأول مرة في تاريخ العراق معارضة حقيقية تعبر عن رأيها حتى عبر أجهزة الاعلام الرسمية...

ولم نعد نخشى ان يساق أولادنا إلى حروب عدوانية ومغامرات تكون ضحاياها بالآلاف، ولم تعد هناك اعتقالات بدون مذكرات قبض قضائية،وانتهت بلا رجعة أحواض التيزاب والمثارم البشرية وقطع الأعضاء البشرية والقاء الشباب من البنايات العالية، ومثلما انتهت محاكم الأمن والمخابرات الخاصة والاعدامات بالجملة على مجرد الشبهة والظن انتهت ايام التهجير والتسفير العشوائي ايضا، ولم يعد الأمن العام امن الحاكم بل امن الشعب، اليوم للجميع حق تأسيس الأحزاب او الانتماء اليها ولنا حق الانتخاب بكل حرية وسيتبدل قادتنا كل اربع سنوات ما لم نقرر نحن بملء ارادتنا إعادة انتخابهم.......

الواقع اننا كسبنا حريتنا وكرامتنا وهذا هو الأهم وبعده يأتي المهم من ضروريات الحياة، ولولا الحرب التي أعلنها علينا أعداء العراق التي كلفتنا الكثير من الوقت والجهد والمال لكانت أشياء كثيرة اليوم في مكانها المناسب.

طبعا اني لا ادعي اننا اليوم دولة مثالية، هناك ولا شك أخطاء سواء ارتكب بعضها بحسن نية او بدونها ، المهم اننا كشعب نملك اليوم كل الأدوات اللازمة لمعاقبة من يخون الأمانة الملقاة على عاتقه من خلال القضاء او عدم انتخابه مرة ثانية.

مناسبة هذا الحديث، مناسبات عديدة كان أخرها ندوة في احد الفضائيات عن الانجازات التي تحققت في العراق الجديد، ولفت نظري فيها ان احد المتحدثين وهو من المحسوبين على العراق الجديد، كان يتحدث عن ما اسماه مناضلي الخارج ومناضلي الداخل وبعد ان حاول ان يصنع سياجاً جديداً للتفرقة بينهما كان يصفق بيديه وهو يقول ماذا حققوا لنا ومن ثم يجيب لا شيء لا شيء...

فهل يعلم أولئك الاخوة مدى أهمية كتابة دستور دائم يحمي الحقوق والحريات العامة، وكم قدمت شعوباً عديدة تضحيات كبرى من اجل الحصول على مثل هكذا دستور، وهكذا كانت الدساتير التي تحمي الحريات العامة وترسخ الأنظمة الديمقراطية من اولويات رجال الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية فضلاً عن شعوب أخرى تبنت دساتير ديمقراطية فشهدت نهضات كبرى كما هو الحال في دول أوربا والدول الاسكندنافية واليابان وكوريا الجنوبية والهند.... ، وكانت تلك الدساتير بمثابة البناء التحتي للدولة وأنظمتها القانونية وكانت من أول مستلزمات نهضتها وتطورها ...

لقد كانت ولاشك من اهم أولويات مقارعي الظلم والدكتاتورية ومثقفي العراق هو ضمان الحرية والكرامة للعراقيين، وإذا قلنا ان الكرامة والحرية بالنسبة لنا كعراقيين تأتي في المرتبة الاولى وتليها في المرتبة ضروريات أخرى من ضروريات الحياة، فان الجواب عن السؤال المثار ينبغي ان يكون منسجما مع ما نعتقد وما نقول، حتى نحافظ على انجازاتنا ولا نكون دون ان ندري مخلباً بيد أعداء العراق الجديد ...

*****

1ـ يعد دستور الولايات المتحدة الأمريكية القانون الأساسي للبلاد، ويحدد شكل نظام الحكم الفيدرالي كما يحدد حقوق الشعب الأميركي وحرياته. ويعدد الدستور أيضا الأهداف التي يجب ان تسعى كل حكومة إلى تحقيقها، وقد وضع الدستور بهدف تنظيم حكومة قومية قوية للولايات المتحدة الأميركية بعد خروجها من حرب أهلية طاحنة، فكان الاختيار للنظام الرئاسي للحكم.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com