|
المجتمع العربي نهاية تاريخ ونضوب حضارة .. ح5-6
اثير الخاقاني/ باحث ومحلل لماذا الشرق مهد الحضارات (إذا كان لي كفيلسوف أن أتمنى معرفة ما حدث على سطح الأرض فيجب علىّ أولاً توجيه بصري تجاه الشرق مهد الفنون جميعها والذي يدين له الغرب بكل شي ) فولتير لماذا الشرق مهد الحضارات ؟ لقد كان عسيرا قبل هذه القرون الأخيرة قبول هذه الفكرة،فكرة ان مهد المدنية الغربية والتحضر ومنظومة التوجيه التي دفعت بكل شي الى الإمام، إنما جاءت من بين الأهرامات وبابل وأور وأكد، بيد أن هذه الحقيقة أصبحت شاخصة اليوم جدا، ونحن قد نجزم بلا تردد فنعلن أن العقل الغربي انطلق من بلاد الشرق .! الشرق وبالرغم مما اقرّ به "جورج سارتون " المحاضر في مؤسسة جورج ك . كايزر، من انه الأساس لحضارات الغرب كما صرح غيره في هذا الصدد وخصوصا أجيال التنوير المتجردة عن البعد القومي والعنصري، على أن هذه الحقيقة قد لا تنفع بشي يواكب متطلبات الحاضر، فالأفضلية لها جانب تاريخي فقط قصر تأثير بفعل عوامل عن ملامسة الجوانب النفسية والفكرية ليتخذ منها محركاً ومحولا الى نتائج، بدلا من بقاءها مقدمات لفظية او اجترار معرفي توقف عن الحركة الحية وغدا افتراساً بشعاً ! وما يتجلى من هذه الأفضلية جانبا صالحا للبحث والتنقيب هو في الاستفهام عن الواقع المغيب الذي افرز هذه الأفضلية والمكانة والسبق الحضاري ثم اختفى لماذا ظهر الشرق أولاً ؟ ماهي الأدوات والعلل والبواعث التي ساهمت في صدارته ؟ كل هذه الأِثارات بطبيعتها حاكمة على أرادة الجواب وإذا أردنا تحليلا لتركيبة السؤال الى مستوى الإجابة، علينا أن ندرس جذور المدنية او الحضارة الغربية والتي تنتهي جميعا عند نهر النيل في مصر والرافدين في العراق كما أن أقدم الفلاسفة وعلماء الطبيعة بين اليونان لم تتألق نجوميتهم في أوربا بل على شواطئ آسيا الغربي والجزر المجاورة له . كانوا – أي الفلاسفة وعلماء الطبيعة - ينتمون الى جاليات يونانية ولكنهم خضعوا للتأثيرات الشرقية،اذ اليونان أنفسهم يرمون بنظرات الحاجة والاستفادة الى الجنوب والشرق يلتمسون الحكمة وكثير منهم رحل الى مصر وبابل بغية البحث والتزود بالمعرفة . ما هذا السحر الجاذب الى بلاد الشرق لكل هذه الحضارات والأمم ؟ علما ان بلاد الشرق اذا اقتصرنا على النواة المؤثرة في الإشعاع الحضاري فليس أمامنا إلاّ رقعة صغيرة جدا محصورة بين بلدين تقريبا "العراق ومصر" بالذات، ولكي نفك سرَّ هذا السحر الشرقي المبهم نتوسع في دائرة الحل الى ثلاث تصورات معمقة هي : التصور الأول : العالم العربي القديم (شبه الجزيرة العربية ) أيام الجاهلية كان مشتهرا بالفصاحة والبلاغة وهي أدوات ووسائل نقل الحضارة وبعثها في بعض الأحيان لكنها ليست الحضارة قطعا، هذه الأدوات الحضارية عملت كشريط ناقل للحضارة ومفاهيمها وآثارها وقوانينها من والى وقد تعمل على مداولة سطحية تأخذ شيئا من الحضارة في مقابل أدواتها، ومثالي على ذلك ما كان في بلاد الرافدين ومصر والأردن وفلسطين، هذه البلدان يصح لنا إطلاق صفة واقع الحضارة عليها فعلا، لأنها مثلت الدور واقعيا وتصاعدت في مراحله واتسمت بخصائصه في حين كانت شبه الجزيرة تلعب الدور الخطابي للحضارة، وتعبيرنا بواقع الحضارة ليس ترفا لفظيا بل هو مقصد اصطلاحي، لان الواقع يحصر في ظرفي الزمان والمكان بخلاف الحضارة فانها تتحرك باتجاه نشاطها وبواعثها الحية، ودوامتها الحركية، ومن ابرز هذه البواعث الحية هي "القوة والنفوذ والهيمنة " وهذه البواعث تأتي بالحضارة من أي بقعة الى أي بقعة، فالعراق نموذجا فيما مرَّ عليه من السلالات كالسومريين والاكديين والآشوريين وغيرها، كلها بواعث حية جلبت معها الواقع الحاضن لتفاعلات الحضارة، كذلك فان هذه البواعث والمحركات (القوة، والنفوذ والهيمنة ) جعلت من الحضارة أمرا واقعا وليس أمرا حقيقيا بصورة أوضح فإنها تعني عندما تستوفي الشروط تثبت وتستقر وبخلافه تبقى رمال متحركة لا تلوي على شي، فعملية التواصل مع الشعوب والبلدان تسير بديناميكية محسوبة ضمن معادلة الظروف والبواعث في حين كان المحيط الآسيوي يعمل كحاجز كسول بين الشرق الأوسط بالاصطلاح الحديث والعالم الغربي القديم، فولد حالة غير متكافئة معرفيا بين الشرق الناهض بحضارته (العلوم –التراث الجاهز من الماضي ) والثقافة (الفنون والإبداع ووسائل التعبير وغيرها ) وبين الغرب القديم والقدير يوما ما بالمجد اليوناني والإغريقي الآفل، أضحت خسائر السدِّ بين الشرق والغرب هي تخمة من الثقافة والحضارة في الشرق وضحالة وانحدار في القيم والمثل والفكر والمعرفة في الغرب، ولكن السدّ كما وصفناه كسولا لم يستطع إبقاء أصابعه مشبكه جيدا وطويلا، فتزايدت الحاجة للحضارة في الغرب وهبطت قيمتها في الشرق لكثرتها وتضاءلت مقاومة السد ! وفي النهاية انتشرت وانسحق السد، وكان من أهم وسائل نشر الحضارة من الشرق الى الغرب هي تلك الأدوات والوسائل (اللغة بفصاحتها وبلاغتها ) التي ساهمت الى حد بعيد في تأطير المعرفة المصدرة بكيفية وصيغة ثابتة ومقنعة للعالم الخارجي . لا اقصد أن اللغة العربية دفعت الحضارة بنفسها الى الغرب فمن البديهي نسخها بالترجمة الى اللغات المناسبة للمستكشف والباحث، وذهابها بهذا الأمر ولكن ما أعنيه دقة عملية النقل فهي حركت المفاهيم الى الآخرين بأمانة وسهولة فائقة، ولو كانت اللغة غيرها لأماتت الكثير من المكتسبات كما هو واضح في اللغات المعقدة التي استنزف حلها كثيرا من الجهد لمعرفة ما تحمل من قيمة ! التصور الثاني : لم يكن الشرق حضاريا الى حد كبير إلاّ انه كقياس نسبي كان يمتلك المبادئ الحضارية مقارنة بالغرب الذي كان يعاني من ثلاث نكبات هي : أ. نكبة الانقسام الداخلي مابين الطبقات والفئات والحكومات وتأثير كل منها في تقطيع أوصال المجتمع الى العمل الفردي والذي يعتبر إحدى منفّرات الحضارة وعامل مهم في إجهاض ولادتها . ب. نكبة الأثر الديني المناوئ لظهور طبقة المفكرين والفلاسفة وحركة الإبداع بشكل عام، والتي يعتبر غاليلو أوضح نموذجا لها مع وجود العديد من الأمثلة على ذلك بنطاق زمني متباين، هذه الطبقات التي حاربها الدين الأرضي الرائج تمثل القاعدة النخبوية لأي حضارة متينة . ت . الصراعات الداخلية والمعارك على النفوذ والحروب بين دول العالم الغربي كلها، حجمت من الرغبة في مد جسور ثقة والتعارف بين الشرق المتحضر، ولذلك تؤرخ أولى محاولات علماء الغرب الجادة والمنهجية بحدود القرنين الثامن والتاسع عشر لرؤية منطقة الحضارة (الافرو اورو سيان ) وان كانت قبل ذلك تسجل محاولات استكشافية كثيرة، ولكنها غير منهجية، ومتباعدة وبفعل الرغبة الشخصية ولأجل الاستجمام أحيانا، كذلك يستثنى من التحديد الزمني الاجتياح والاحتلال لأنها ظروف قسرية ليس من المنطقي اعتبارها محاولة علمية، وان ضمت في حناياها تلك الرغبة لكنها محكومة بالتأكيد في خدمة ومصلحة أهداف الغزو وليس المنهج العلمي الحضاري . استثمار الحضارة : الحضارة في الشرق متنوعة على بقاع محصورة ولكنها كما سبق أن اشرنا مرهونة بأسبابها ومع اشراقة الثورة الصناعية وتصاعد وتيرة الافتراق عن سلطة الكنيسة،وتكسر القيود والأقفال واحدا تلو الآخر مع صناعة كل حاجة جديدة، فانسل الفرد الغربي في النهاية من تحت الكنسية ليستثمر العقل الشرقي الذي كان رائد الحضارة في يوم ما، وانزوى الفرد الشرقي في الفراغ الذي تخلف عن سابقه الغربي حينما كان يرزح تحت هيمنة الكنيسة، ولكنها الآن ليست الكنيسة لأنها محرمة في دينه الذي يدعو الى الفكر والتفكر ونبذ التحجر ولو كان في أعظم التعاليم قداسة ! هذا الدين الجديد هو مجموع عرف الفوضى والمزوق بالدين المزيف، وفق أخلاقية الهزيمة، وموت الموقف والإرادة والخوف من الآخر، والتستر بمواريث الآباء الفاخرة خجلا من الجهل الفادح للأبناء، لقد تلبس إنسان الشرق بظلامية إنسان الغرب القديم وكأنما تبادلوا الأدوار وتصارفوا صرف الدينار بالدرهم، فإنسان الشرق تولدت قدراته على تقبل الحضارة – كليا او جزئيا – بفعل الأسفار والرحلات التجارية والدعوية باتجاه الغرب (ايطاليا وفرنسا وقبرص واسبانيا ) الأسفار الى البلدان المختلفة معه في اللغة والمعتقد والعادات، كانت تعني استعداده لتقبل الآخر، ومحاولة استكشاف ما عنده وبالتالي الاستفادة منه،كما أن الانفتاح على الآخر يجر الى محاكمة الذات، فالكثير من الرحالة العرب عندما سافروا وترحلوا على خطوط الطول والعرض، عالجوا مواضع الخلل عندهم على مستوى التفكير او السلوك فالذي كان يؤمن ان الخالق لم يخلق غير شبه الجزيرة رأى وهو في رحلته الآلاف من الجزر، والذي كان يعتقد الأرض مبلغ وسعها هي الصحراء ذابت نظريته كلما تلاشى النظر عند الآفاق والبحر مستمر في البقاء ! واخص بالفضل للدين الإسلامي الذي جهز الإنسان الشرقي – على اعتبار أن المؤمنين به في هذا الجانب " الشرق " أكثر من منهم في الغرب - بعناصر الإبداع وفن معالجة الأزمات، فهو يحبب له السفر والسياحة في الأرض بحثا عن الحقيقة والاستكشاف وفهم الظواهر الطبيعية ودراستها لما يجلب ذلك من نفع عام على المجتمعات، وأكثر من هذا النفع على مستوى الجماعة اعتبر الانفتاح على الآخر جزءاً من العقيدة واثبات الخالق كما جاء في القران الكريم ذكر لهذا الأمر (أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ..) يوسف109. الآية ربطت بين التطلع والبحث في جغرافية الفكر والواقع للماضين واخذ العبرة منهم للإيمان بالغيب وهو من أروع مشاهد التقديس للبعد الحضاري على مستوى الأديان،اذ جعله القران عنصرا في فهم العقيدة، اما الآية الأخرى فهي نظرية تحفيزية للواقع ومجرياته كما في قوله تعالى ( افَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }الحج46. فهذا السير عبادة اذا قُرن بغاياته ومن هنا يجب أن يكون البحث مستقصي ومستوفي لكل شروطه والتي منها وأهمها الممارسة للحقائق والدقة والتفكر واستنطاق الذات عن مواضع الخلل فيها . في حين تأتي الآية الثالثة تذكيرا تاريخيا لدورة الحضارات الماضية واليك الآية ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }الروم9. وهناك آيات أخرى قد يخرجنا التعرض لها عن مدار البحث . كان ما مضى حديثا عن عصر الشرق في بناء الحضارة، ولكن طبائع الظروف وتدابير الأقدار وسنن التاريخ لها حساباتها ومقاديرها التي تأبى التفاوض على الانحراف او قبول الأخطاء والتغاضي عن الزلل، ماهي إلاّ معادلة بسيطة وصعبة التغيير معا، فواحد زائدا على واحد يساوي في مختلف الظروف اثنان هكذا هي أسس الحضارة ببساطة، شعب لا يرضى بالظلم وحاكم يحكم بالعدل تنتج حياة ًسعيدة،الجزء الأول الظلم ورفضه او قبوله، والجزء الثاني العدل والعمل به او تركه، كلها عناصر حضارية تقف خلف كل تطور وتقدم وسعادة وغد أفضل . وهذا ينطبق على الشرق حينما ساءت أمورهم ونحصرها في ست مساوئ أساسية هي : 1. الحروب والمعارك والانقسامات تماما كما كان في الغرب . 2. عمليات التهجير والقتل على الهوية والإبادة الجماعية والتطهير العرقي كما حدث في العصور التي تلت عصر الرسالة وبالذات الأموي والعباسي مشابهةً أيام الجاهلية كما كان يجري في الغزوات والاجتياحات وغيرها . 3. زراعة الطبقية والحزبوية والفئوية كما كان في العالم الغربي القديم واستغلال الفرد اجتماعيا بسحب موقعه لها واقتصاديا بتسخيره وقواه لمصالحها وسياسيا في تصريفه كورقة للعب به في أروقة السياسة لنزوات الحاكم والسلطة المجسِّد الاعلى للطبقية والفئوية والحزبوية. 4. اغتيال العقل المفكر المبدع "المواهب " وتحكيم العقل الجمعي وسيادة التقليد والتقاليد . 5. الغزو الصليبي احدث النتيجة لتلك المقدمات - الطبقية والفئوية والانقسامات الداخلية وعمليات التهجير والتصفية الجسدية على أسباب واهية تتعلق بنزوات الحاكم وغيرها مما سبق - التي ظهرت في الشرق نفسه، فكان الاحتلال أداة مسخ ومسح لهوية الإنسان الشرقي وإبداعاته، السابقة وهناك مبدأ يسمى "الكرامة " وربما يقابله في الاصطلاح العلمي "العقل الشعوري " تسمية تأتي من الجزء الوظيفي المشترك فالإنسان الذي يشعر بالذلة فيفكر بالعزة بدلا عنها، أو يشعر بأنه عاجز فيفكر بمصادر القوى ليتقوى بها، فيكون قويا او يشعر بالجهل الفظيع فيتعلم، او يشعر بان بلده محتلا فيفكر بالتحرر بأزكى الوسائل، أليس هذا عقلا شاعرا بالحاجة ؟ ألا يقترب من معنى الكرامة هذا المبدأ الذي يفرض للإنسان الحر خطا احمر لا يحق لأحد أن يتجاوزه حتى ولو كان من ذاته ؟ فليس للإنسان أن يقتل نفسه شرعا وعقلا، وحينئذ يسمى مجردا عن أي نعت إلاّ من لفظة منتحر ! على غرار النحر للحيوان، الذي لا يهتدي الى معرفة قيمة الحياة فيما وراء علفه ونزوته !! فكذلك ليس له ان يمد يده يسال الناس من دون وضع حرج جدا قد يبرر له وقد لا يبرر او أن يتملق او يتذلل لمخلوق مثله وفي هذا ضياع لماء الوجه أنفس ما في العمر ! وما احكم القران حين يؤسس لحضارته بإتقان إذ يصف الطبقة الفقيرة الكادحة الموصوفة بالإيمان التي تستحق المساعدة والصدقة دون إخلال بمروءتها او تفضل عليها لأنها مشيئة الله التي قضت بمساعدتهم من أموال الآخرين بقوله تعالى (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }البقرة273. ونعود الى الموضوع فالكرامة للفرد الشرقي كانت تأبى عليه التسول او يبقى جاهلا او يعتاش باسم الدين او السمعة او يظلم الضعيف او يتعالى على من هو مثله، لأنها أخلاق حضارة هائلة في التفاصيل والتناسق، لم تهبط في مضمونها عن ملائمة حق الإنسان وحقه في المجتمع والارتقاء بالاثنين الى مستوى الكمال او على الأقل الى ما يطمحون اذا لم يتصادم ومثلها وقيمها ... تلك هي حضارة الإسلام . على أي حال جاء الاحتلال الغربي – صليبيا كان ام غيره، وسواء صيغ ألينا تجاريا أم فكريا - الى الشرق كمفهوم سلب حق الكرامة وكمصداق للتوسع ونهب الثروات على الطريقة التقليدية، ولكن ما يميز أي احتلال خارجي انه يؤسس للاحتلال الداخلي وهو كما سبق ان وضحنا خطره بأنه يعني سلب الكرامة سلب العقل الشعوري، وهذا ما نجده لدى بعض الشعوب التي تتوسل بالمحتل للبقاء ربما أغراها بمكتسبات مادية او معنوية وهذا مما لا ينكر، إلاّ ان دائرة الخطر ليست هنا فالتقدم يباح له تجاوز الحدود الجغرافية والفكرية فمن يملك القدرة على منع الكتاب او التلفاز او المذياع او الهاتف عن المرور ! واذا مُنع فان غريزة الحب تقوى حتى تطيح بالمانع مهما كان دكتاتورا، فالخطر يبدأ من حيث تذوب الكرامة ذلك العقل الشاعر بما حوله الذي له قابلية الرفض لأنه موجود لا يقبل بوجود آخر على حسابه، فالفرد العربي مثلا تعرض الى احتلالات كثيرة لم يتأثر بها إلاّ حين سُلبت منه القابلية على رفضها فكريا وبالأساس، فالمغرب العربي قاوم الاحتلال الفرنسي ببسالة ولكنه لم يرفضه من الداخل فنجحت عملية الفرنسة، وهي صورة عن مسخ الذات المغربية، ولا يعني نقدا يوجه الى هذا الجزء من خارطة المجتمع العربي أن الآخرين من بلدان العرب كانوا أقوى شكيمة على صدّ الهجمة بل على العكس تماما فالمغاربة لثقافتهم قيمّوا ثقافة الآخر، ولكنهم – ولا اقصد الكل قطعا – سقطوا في فخ المعادلة فالثقافة الفرنسية تفوقت حين أضيف إليها المنظور المدني المتطور بوسائل الحداثة والتكنولوجيا،وكان الأجدر عزل الثقافة عن حركة الصناعة ومعادلة الثقافة بالثقافة فقط دون اللواحق بها، وهذا التهجين الثقافي أدى بدوره الى مضاعفة اهراق كرامة الفرد العربي والشرقي عموما ووسّع من فاصلة الزمان والمكان بين المجتمع الواحد،فالعربي الخليجي يحتاج الى مترجم لمنطق العربي المغربي، وكلاهما قد لا يقعان على فهم مشترك لقضاياهم العربية او حتى الإسلامية . لقد دارت دورة الحضارة من جديد باتجاه البواعث مرة أخرى كما هو القانون الطبيعي للحضارة من الشرق الى الغرب بعد ان تعاكست عقاربها على خلاف هذه الدورة الجديدة، ضمن مخطط قد يوصف تقريبيا بهذا الترتيب وهو بحد ذاته إجابة مختصرة ووافية في أن واحد، واليك الترتيب : الغرب : 1. ديناميكي . 2. مخترع، مبدع،فاعل، عقلاني . 3. علمي، منضبط، منظم . 4. ذو توجه عقلي، مهني، مستقل . 5. حر، ديمقراطي، متسامح . 6. متحضر، متقدم معنويا واقتصاديا . الشرق العربي : 1. ساكن دائما او يميل إليه . 2. مقلد، جاهل، سلبي . 3. كسول، مشوش، غريب الأطوار . 4. فطري، يتحامق او هو كذلك، عاطفي . 5. مستعبد، مستبعد، مستبد، غير متسامح . 6. فاسد متستر، متوحش،غير متمدن في الطلب . 7. متأخر معنويا وراكد اقتصاديا . نقاش في نبوءة : واعتقد بصوابية نبوءة احد الكتاب وهو على فراش الموت حينما قال : المستقبل للحضارة الإسلامية، لان بعض الصفات في المشرق العربي بدئت تتحول الى الغرب بفعل ونمو حضارة الإسلام التي أخذت تتكئ على ظهور إمبراطوري مرتقب على الصعيد الإسلامي، فيما بدا ان الغرب وبفعل الانخراط في الماديات جدا، والإفراط في محاولات السيطرة على العالم، وظهور منافسين جدد بنفس الكيفية، مع مشاكل مالية ونفسية وبيئية وكوارث جاءت لتضع الجميع هناك في الغرب أمام مسؤولياته، وبالرغم من عدم قناعتي الكاملة بنظريات توينبي حول الحضارة، إلاّ ان القدر الواصل من الفكرة واقعي فهو يرى أنَّ العَالم الإسلاميّ بما فيه العَالَم العربيّ يُواجه اليوم التحدّي الغربيّ بطريقتَين: الأُولى سَلَفيَّة منغلِقة (استاتيكيَّة) تُمثِّـلُها الحركاتُ الوهَّابيَّة والسنوسيَّة والمهديَّة وما جرى مجراها من حركاتٍ سَلَفيَّة حديثة؛ أمَّا الطريقةُ الأُخرى فهي تقدُّميَّة منفتحة ظهرت في نهضة محمَّد عليّ في مصر. ويَرى أنَّ الموقف السَلَفيّ يُمثِّلُ انحلالاً حَضاريًّا، بينما يُمثِّلُ الموقفُ التقدُّميّ حركةً ديناميكيَّة جديرة بالتقدير، ولكنَّها لا تعدو أن تكون، مع ذلك، خطوةً تقليديَّة أو استجابة محدودة النجاح يتعذَّرُ عليها الوصول إلى الإبداع والمُشاركة الحضاريَّة الفعليَّة. ويرى تُوينبي أنَّ تحوُّلَ المُجتمعات البدائيَّة إلى مُجتمعات حضاريَّة يعتمد على مَدى الانتقال من حالة الجمود إلى حالة الحركة الدينامكية وأنَّ هذه القاعدة تَصحُّ كذلك في عمليَّة نشوء الحضارات الأُخرى وتعاقبها. ويعتقد أنَّ الطريقة المُثلى لمُحاربة الغَرب أو التَصدِّي لعمليَّاتِ اغتصابه واستغلاله الشعوب والأراضي والثروات هي تبنِّي نفس أيديولوجيَّـته التـقـنيَّة وأسلحته؛ ويُقدِّم أمثلة على ذلك، منها أنَّ روسيا أمعَنَت في تبنِّي التكنيك الغربيِّ على يَد بطرس الأكبر، إذ “استطاع العَالَمُ بفضله، منذ أكثر من قرنَين ونصف، أن ينجوَ من سيطرة الغرب التامَّة، لأنَّه شجَّعَ العَالم ودفعه إلى الصِراع والنضال ضدَّ الهجمات الغربيَّة باستخدامه الأسلحة نفسها التي طلع بها الغرب. . (كتاب “التاريخ الحضاريّ عند تُوينبي” منَح خوري (بيروت: دار العلم للملايين، 1960). نقلا عن أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي /الاعرجي ص 14 ) ويؤخذ على تحليله في مسالتين هما : 1. انه يدعو صراحة في هذا المقطع من كلامه على المعنى (..أنَّ الطريقة المُثلى لمُحاربة الغَرب أو التَصدِّي لعمليَّاتِ اغتصابه واستغلاله الشعوب والأراضي والثروات هي تبنِّي نفس أيديولوجيَّـته التـقـنيَّة وأسلحته..) الى تبني نظرية صراع الحضارات بل والإرادات وهو تعبير عسكري أكثر منه إنساني وحضاري، ولازالت الدلالات السائبة في الفراغ لنظرية صموئيل همنيكتون تبحث عن تطبيق لتحل الكارثة، فتصور حضارتين ناشئة وقديمة باقية كالولايات المتحدة الأمريكية والصين لو تم تطبيق النظرية بحقهما هل تعني إلاّ الحرب العالمية الثالثة .! 2. النظرة الحدية في تقسيم العالم العربي والإسلامي الى سلفي متحجر وعلماني متقدم، هي من نفس النظرة الى المجتمعات على أساس ابيض واسود غني وفقير،والحقيقة أوسع من هذه القيود، وتوينبي يعلم جيدا ان السلفية غرض سياسي جاء من الغرب لإحياء واقع العلمانية او تنشيطها، لاشك ان هناك جذور للسلفية في الثقافة والحضارة العربية والإسلامية ولكنه من النوع السياسي ولا يمثل معلما دينيا كما هي الرهبنة لها جذور في الجانب الصوفي عند المسلمين الاّ انها من المفاهيم الدخيلة كما صرح القران نفسه معتبرا اياها سلوكية غير مطلوبة جاءت من القساوسة، والسلفية على غرار الأوراق السياسية التي يتلاعب بها الساسة في اجتماعاتهم المغلقة كما في أوربا قديما حينما جيشوا الكنيسة لإيقاع مآرب بعيدة عن الذوق وليس الدين فقط، فتقسيم العالم بهذا الأسلوب حتما سوف يعزز مقبولية ما يترتب على المعطيات من نتائج . نكمل في الحلقة السادسة - بإذن الله تعالى - الحديث عن المجتمع العربي (تعريفه ودوره وعناصره وتوزيعه وطبيعته )
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |