|
الفصل الرابع من كتاب ميادة ابنة العراق .. (صدام حسين)
ميادة العسكري كان رأس ميادة لا يزال ينبض من صرخات أحمد، وهي تراقب نساء الظل وهن يتركن جانب علياء.. الواحدة تلو الأخرى. ركنت علياء إلى الأرض على الرغم من توسلات سمارة بأن تقوم بترتيب سرير لها.. ووضع أغراضها جانبا. اشياؤها التي جاءت بها عند دخولها الى الزنزانة قبل فترة وجيزة جعلت من الزنزانة الصغيرة مكانا مكتظا بالنساء والأغراض معا.. راحت علياء تنظر إلى ذراعيها بصورة غريبة ومركزة.. جعلت ميادة تعتقد يقينا بأنها تفكر بطفلتها سوزان.. والتي ربما لن تراها إلا بعد أن تصبح الطفلة عروسا شابة، وربما تكون قد أنجبت عددا من الأطفال أيضا. وللحظة قصيرة.. غبطت ميادة المرأة التي اسمها صينية ومشاعرها الباردة وغير المرتبطة بكل ما حولها.. وتمنت لو أنها كانت قادرة على عدم التفاعل والتأثر بقصص النساء الحزينة.. في هذه الزنزانة الضيقة. ولكن حتى مع اعتمال هذه الأفكار في ذهنها.. كانت ميادة تعلم يقينا بأنها ستبقى مرتبطة بمجريات حياة نساء الظل اللواتي تشاركهن هذه الزنزانة، وبأن ثقل أحزانهن ستبقى ممزوجة بحزنها ومشاعرها.. وكانت عاطفة كبيرة قد تولدت في نفسها إزاء كل واحدة من نساء الظل.. وفجأة، جلست سمارة إلى جوارها وبيدها وعاء صغير فيه ماء وراحت تغسل وجه ميادة.. شعرت معها بأن المزاج الأسود الجاثم على صدرها بدأ ينجلي قليلا.. وعلى الرغم من أنه كان ممنوعا على السجينات امتلاك أي أداة حادة داخل الزنزانة حتى مشابك الشعر، إلا أن سمارة فاجأت ميادة بمرآة مدورة صغيرة مكسورة الجانب.. خبأتها بين طيات بعض أغراضها البسيطة التي سمح لها بالاحتفاظ بها.. قالت سمارة بصوت هامس: "إلى ما قبل أسبوع.. كان عندنا هنا صبية في غاية الجمال، وقد أعجب بها أحد الحراس وأعطاها هذه المرآة وقال لها أن تستخدمها خفية من غير أن يراها أحد.. وقد نقل الحارس إلى البصرة، لذا، قام باستصدار أوامر نقلت هي أيضا على إثرها إلى سجن الأمن العام في البصرة.. وعندما غادرتنا.. أعطتني هذه المرآة.. أطرقت ميادة وصارت تفكر بالثمن الباهظ الذي صار لزاما على هذه المرأة ان تدفعه بسبب اهتمام وإعجاب ذلك الحارس بها.. وحاولت أن تبعد تلك الفكرة عن رأسها.. فقد سمعت فيما مضى بأن الاغتصاب شكل من أشكال التعذيب الذي يمارس ضد الرجال والنساء معا في أجهزة المخابرات العراقية وسجونها.. أخذت ميادة المرآة من يد سمارة وراحت تنظر فيها.. وتفاجأت.. غير مصدقة.. وقلبت المرآة في يدها ونظرت مرة أخرى.. إلا أن الصورة التي كانت تنظر إليها في المرآة لم تتغير.. نعم.. إن هذا الوجه الغريب هو وجهها... لمست وجهها بأطراف أصابعها.. وتعجبت.. لقد مضى على سجنها 24 ساعة فقط، إلا أن جلد وجهها بدا رماديا شاحبا.. وفي خضم ذلك، سمعت إحدى نساء الظل تقول بأن حتى الكلاب في العراق تعامل أفضل من الموقوفين في أجهزة المخابرات العراقية.. ولكنها سمعت نفسها تقول: "لا شك في أن بعض الكلاب تعامل أفضل من هنا، ولكن ليس كلب الدوبرمان الذي كان يملكه صدام، واسمه مختار". عم السكون أرجاء الزنزانة.. والتفتت النسوة باتجاه ميادة.. قالت سمارة: "ما هذا الذي تقولينه يا ميادة؟". قالت رولا.. وهي أكثر السجينات ورعا في الزنزانة رقم 52 "كلب اسمه مختار؟". وكان عدم تصديق رولا لما سمعته مبررا تماما.. فإطلاق هذا الاسم على كلب بدا غريبا ومستهجنا للغاية. وبدون التفكير بعواقب التحدث في هذا الموضوع الذي يخص رئيسهم صدام حسين، قالت ميادة: "نعم.. هذا صحيح.. ففي تلك الأيام التي كان لا يزال صدام يحمل مشاعر طيبة نحو أم أولاده، أهدى ساجدة كلبا من نوع دوبرمان للحراسة.. وأسماه مختار.. وكان الاسم من اختيار صدام نفسه.. وقد رأيت الكلب بنفسي بعد أن قرر صدام أن يعدم الكلب.. صدقوني سنفضل أن نمضي وقتا إضافيا هنا على أن نعاني ما عاناه ذلك الكلب المسكين..". قالت سمارة: "حذار من هذا الكلام.. فلو سمعونا.. سيقطعون لسانك ويتركونك تنزفين لحد الموت، ولن نتمكن من فعل أي شيء..". كان معظم العراقيين يعرفون بأن توجيه انتقاد للرئيس يؤدي إلى قطع لسان المنتقد قبل الإعدام.. ابتعدت ميادة عن الباب، وجلست في الاتجاه المعاكس على الأرض وخفضت صوتها.. وتجمعت النسوة حولها مستمعات، وقالت: "حدث ذلك عام 1979، خلال الفترة الأولى التي أصبح فيها صدام رئيسا للجمهورية.. في تلك الأيام لم يكن صدام يكره زوجته ساجدة بعد، وكان قلقا على سلامتها وسلامة أولادها.. وأتى لهم بكلب صغير وأسماه مختار لسبب لا يعلمه إلا الله.. وكان هذا الكلب مدربا على الهجوم عند سماعه لكلمة (مختار.. اذهب). وفي يوم كانت ساجدة تسبح في البركة الكائنة في منزلهم.. وعند خروجها من البركة، كان الكلب واقفا على حافة البركة ينظر إليها.. وكلنا يعرف أن ساجدة امرأة قاسية، لا تحسن معاملة خدم منزلها.. لذا فلن يهمها مشاعر حيوان.. نفضت المنشفة باتجاه الكلب وبدون تفكير قالت: "مختار اذهب".. وقد اعترفت ساجدة فيما بعد للطبيب الخاص بعائلتهم، والذي كان صديقا حميما لأهلي.. بأن أمر الهجوم أربك الكلب.. وبأن الكلب راح ينظر حوله، وعندما لم ير أحدا ليهاجمه.. قام بمهاجمتها هي.. وكانت ساجدة سريعة في حشر منشفتها في فم الكلب.. وسرعان ما جاء الحراس على أثر صراخها.. واقتادوا الكلب بعيدا.. ولم يصبها أي مكروه في الواقع..". "وعندما أخبر صدام بما حدث، استشاط غضبا على الكلب.. وحكم عليه أن يربط إلى إحدى الأشجار في الحديقة ويترك هناك بدون طعام أو ماء ليموت.. قيّد الكلب بصورة وثيقة، حتى أن قيد عنقه شد إلى حد أنه لم يتمكن من التحرك أو الجلوس أو الاستلقاء.. وكانت قلوب أصحاب المنزل من حجر إلا أن منظر ذلك الكلب وعذابه أزعج الكل.. بما فيهم ساجدة، ولكن لم يتمكن أحد منهم معارضة قرار اتخذه صدام بشأن مصير هذا الكلب". وأمضت ميادة حديثها: "وعندما عاد الطبيب لفحص ساجدة في مسألة أخرى، رأى الكلب وهو يموت.. فسأل أحد الحرس عما كان يجري.. وعندما قيل له بأن صدام قد أمر أن يترك الكلب للموت، استجمع الطبيب شجاعته واستأذن للتحدث إلى صدام.. وقال له بأنه بحاجة ماسة إلى كلب حراسة، وطلب أن يسمح له بأن يأخذه.. ولسبب ما، ربما لا مبالاة من طرف صدام.. وافق الرئيس على طلب الطبيب.. ذهب الطبيب مع أحد الحرس لإزالة القيد عن عنق الكلب، وقد قال هذا الطبيب لوالدتي فيما بعد أنه بالكاد أمسك دموعه من وضع الكلب الذي كان مشرفا على الموت.. فنتيجة لمحاولات الكلب على الإفلات من القيد الكائن حول رقبته.. حز القيد رقبة الكلب.. واعتقد الطبيب بأن الكلب كان ميتا، لولا ومضة رآها في عينيه.. بعد أن حمل في يديه شيء من ماء المسبح ومسح به وجه الكلب". حمل الكلب بين ذراعيه ووضعه في الكرسي الخلفي من السيارة وأخذه إلى منزله.. وراح يمرّض الكلب إلى أن شفي وتعافى.. ومضت سنة على تلك الحادثة.. كنا في زيارة لمنزل هذا الطبيب في مدينة الموصل.. وكان الكلب الذي غُير اسمه إلى اسم يناسب الكلاب والحيوانات.. قد شفي تماما. جلست النساء بصمت. قالت إحدى نساء الظل.. واسمها إيمان: "ما اسم الطبيب هذا" ابتسمت ميادة وقالت: " انه الدكتور خليل الشابندر..صديق المرحوم والدي وزميله في كلية الطب" وفجأة.. جاء صوت رجل.. يصرخ ويولول كالنساء.. كان يتوسل أن يرحم.. إلا أنه كان يسحل خارج الزنزانة في الرواق.. وعندما وصل باب زنزانتهم.. أفلت من حراسه.. وراح يدق الباب بعنف ويصرخ: "افتحوا الباب.." وكأن ذلك بالأمر الممكن.. أو أن هذا الباب سيوفر له دربا للنجاة والهروب إلى الخارج. إلا أن الحراس هجموا عليه، وكان واضحا أنهم صاروا يلكمونه ويضربونه.. وبعد حفلة الضرب تلك.. اقتيد الرجل الباكي بعيدا. نظرت ميادة في عيني سمارة وسألتها عن إمكانية حدوث تعذيب في النهار.. إحمر وجه سمارة وحركت يديها الرقيقتين في الهواء وقالت: "هناك بعض الاستثناءات طبعا". وشعرت ميادة بفيض من الحنان، فالآن علمت بأن سمارة كذبت عليها لكي تهدىء من روعها وخوفها عندما قالت لها ان التعذيب لا يتم في النهار ابداً.. قالت سمارة: "ولكن في الواقع.. وبكل صراحة، إن معظم التعذيب يقع ليلا..". تمتمت رولا بأن ما تقوله سمارة صحيح.. وجلست نساء الظل بهدوء وهن يستمعن إلى صوت صراخ الرجل وهو يبتعد.. قالت إحدى النسوة الأكبر سنا: "لم أكن أعتقد بأن ساجدة قاسية وشعرت بحزن لها عندما تزوج صدام من سميرة الشابندر.. وعندها صرت أشعر بالمودة تجاه ساجدة..". أطلقت سمارة حسرة وقالت: "يا إيمان، إنك تعلمين الآن بواقع الأمور.. وبأن مشاعرك ضاعت سدى.. وسألت فتاة أخرى اسمها منى: "هل سبق وأن التقيت بصدام؟". ضحكت سمارة ووضعت يدها فوق فمها وقالت: "طبعا.. أنا متأكدة من أنها التقت به..". وحتى عالية صارت تستمع إلى الحديث الجاري.. وقالت: "هل تخبرينا عنه يا ميادة؟". أومأت ميادة رأسها بالموافقة.. نعم.. فقد تغير كل شيء في حياتها في الـ24 ساعة الماضية.. وتخطت تحفظها السابق في عدم التحدث عن صدام وما تعرفه حول هذا الرجل وعائلته ودائرته الداخلية.. لقد تغيرت وانقلب وضعها رأس على عقب.. وكان أسفها الوحيد يتركز في قلة عدد المستمعين.. وكانت تتمنى أن يسمع العالم بأسره.. قالت سمارة: "نتحدث ولكن بصوت منخفض رجاء". قالت ميادة: "سأخبركم عن كل شيء أعرفه" ثم التفتت إلى سمارة وابتسمت قائلة: "وسوف أتحدث همسا..". كانت سمارة قلقة، وكان قلقها مبررا تماما.. قالت: "إن فتح الباب.. سأتحدث عن الطعام الذي أفضله..". ثم أشارت إلى امرأة شقراء وقالت: "وأنت يا أنوار تقاطعين وتقولين لي بأني لا أعرف شيئا عن الطعام الجيد، وجميعكن تبدأن بالحديث سوية..". ثم نظرت إلى ميادة وابتسمت: "هؤلاء الرجال يعتقدون بأننا قبضة من النساء الغبيات". وافق الجميع على تعليمات سمارة، وصارت ميادة تحدثهن عن والدتها سلوى.. وكيف أنها التقت بصدام لأول مرة عام 1969، بعد مضي عام واحد فقط على الانقلاب العسكري الذي قاده صدام مع أحمد حسن البكر والذي أصبح البكر على إثره رئيسا للجمهورية. وذكرتهم بأن معظم الطبقة المثقفة العراقية لم تكن تتقبل حزب البعث. وأن أيا من أهلها لم ينظموا إلى الحزب.. فحتى عندما طلب ميشيل عفلق من جدها ساطع أن تنضم ابنته سلوى إلى الحزب.. كانت نصيحة ساطع لابنته أن لا تنضم أبدا لمثل هذه الأحزاب.. فالقيم والمبادىء التي كانوا ينادون بها كانت رائعة.. إلا أن لا علاقة لها في الواقع أو في حيز التطبيق. "كان والدي ووالدتي مدعوين إلى حفلة في إحدى السفارات الأجنبية ولأن الموسم كان صيفا، قدم طعام العشاء كبوفيه في الحديقة.. وكان والدي يتحدث مع أحد الدبلوماسيين الأجانب، وكانت أمي تملأ طبقها بالطعام وهي تتحدث إلى زوجة السفير اللبناني التي كانت صديقتها، وكانت الحفلة اعتيادية وفيها النسوة يتحدثن عن النشاطات الاجتماعية لهذا الموسم والرجال يتحدثون في السياسة رغم أن الجميع كان أكثر حذرا من المعتاد في إبداء الآراء الصريحة فقد تسربت أخبار مفادها أن الحزب الحاكم لا يروق له الانتقادات والآراء المناهضة.. وكان والدي أخبرني بأن البعثيين لا يتحملون الكلام الودي في السياسة.. والذي هو كما تعلمون أسلوب لتمضية الوقت في عالمنا العربي.. فكلنا يعلم أن الرجال يجلسون في "القهاوي" ويتحدثون لساعات في السياسة.. وحول الحكومة والحزب الحاكم وما إلى ذلك. وتناثرت في أرجاء الحديقة طاولات مدورة مغطاة بشراشف بيضاء تتوسطها الزهور، واقترحت زوجة السفير اللبناني على والدتي أن تجلسا الى إحدى الطاولات لتناول الطعام، وعندما وجدا طاولة فيها كرسيان فارغان، جلستا.. وكان قد جلس على الطاولة رجلان.. وقالت أمي إن أحد الرجلين كان شابا وسيما جدا.. وكان يأكل ببطء شديد، وكان ذا آداب مائدة ممتازة.. وقد استرعت هذه النقطة انتباه والدتي لأن الكثير من الرجال في العراق لا يعرفون آداب المائدة أصلا..". قالت والدتي: " رفع الشاب رأسه وابتسم وقال مرحبا بدون أن يعرف نفسه.. وفيما بعد تذكرت والدتي بأن عيني هذا الشاب كانتا واسعتين للغاية.. وفيهما بريق عجيب.. ذكرها ببريق عيون بعض الحيوانات..". أمضت والدتي وقتها بالتحدث إلى السيدة اللبنانية، وبعد مضي فترة.. مرت بها زوجة السفير الكويتي.. والتي وقفت إلى جوار والدتي وقرصت ذراعها بخفة وهمست: "لم أكن أعلم بأنك تعرفينه.. هاتفيني غدا وأخبريني كل شيء عنه..". أحست والدتي بالحيرة.. فمن هو هذا الذي تعرفه والدتي، والذي تريد زوجة السفير الكويتي أن تعرف المزيد عنه؟.. لم تقل أي شيء واستمرت في تناول طعامها.. وبعد بضعة دقائق.. قال الشاب الوسيم متحدثا إلى والدتي: "كيف حالك يا أستاذة سلوى؟ ردت أمي بأدب، بأنها في حالة جيدة وسألته عن وضعه وحاله.. فقال لها: إن المسؤولية ثقيلة كما تعلمين..". لم تفهم والدتي أي نوع من المسؤولية التي تثقل كاهل هذا الشاب.. وافترضت أن لديه عائلة كبيرة، أو عمل تجاري يثقل كاهله.. ثم راح يضيف كلمات تنم عن إعجابه بوالدها ساطع الحصري وقال: كنت أذهب إلى والدك بين الجمعة والجمعة عندما كنت أسكن في القاهرة، وكنت أطرح عليه أسئلة كثيرة.. إلا أن ذلك الرجل لم يقلل من أهمية أسئلتي.. ولم يرفض استقبالي أبدا.. رغم أني كنت في تلك الأيام طالب حقوق بسيطا وفقيرا.. وكان يعطيني كل الوقت الذي أحتاجه..". شكرته أمي على لطفه وحاولت أن تدفع حزنها على أبيها جانبا، فقد كان ساطع الحصري قد توفي في العام المنصرم، بعد شهرين فقط من مجيء حزب البعث إلى الحكم في العراق. وكان غياب أبيها قد ترك فراغا في قلبها.. أرادت والدتي أن تسأل الرجل عن اسمه ولكنها فكرت أن في ذلك شيئا من سوء الأدب لأنه كان يتكلم معها مفترضا أنها تعرفه، وصار يتحدث المزيد عن فضائل والدها قائلا: "كنت أقول دائما إن ساطع الحصري يجب أن يكون أغنى شخص في الوطن العربي، لو أنه باع كتاب الخلدونية والمخصص لتعليم القراءة العربية بفلس واحد فقط على كل نسخة طبعت في العراق والبلاد العربية.. ولكن عوضا عن المال، كسب قلوب الملايين..". وكان معروفا أن كتب ساطع الحصري التربوية لم تكن تباع بل توزع مجانا على نفقة الدولة.. وملكيتها لمن يطبعها، حيث أن ساطع تنازل عن كافة حقوقه المادية في تلك الكتب.. لأنه كان يعتقد جازما بأن التعليم كالهواء.. ويجب أن يكون مجانيا.. بدأت أمي تشعر بالخجل لعدم معرفتها أو تذكرها هذا الرجل، وبما أنها اعتقدت بأنه يعاني من مشاكل.. طلبت منه أن يتفضل بزيارتنا وأن يأتي بزوجته معه.. وحتى أنها قالت له أنه لربما كان باستطاعة والدي أن يساعده في تخطي الصعوبات التي يواجهها..".
قالت أمي في تلك اللحظة.. برق شيء من المرح في عيني الرجل.. قبل أن يخفض عينيه ويبتسم.. وفيما بعد، عندما علمت والدتي بأنها كانت تتحدث مع صدام حسين، الرجل الذي كان يسمى بالسيد النائب، أدركت أن صدام فهم في تلك اللحظة بأنها لم تكن تعرفه من شكله.. وهو ثاني أهم شخصية في البلاد..". بدأت النسوة بالتعليق والضحك سوية.. غير قادرات على استيعاب وضع هذه السيدة، ودرجة وثوقها من نفسها ومن أمر عدم التركيز على شكل نائب رئيس الجمهورية لأنه في اعتقادها.. أن هذه الزمرة سرعان ما ستركل خارج الحكم. وبطبيعة الحال، كان صدام في بداية أيام حكم البعث يفضل عدم الظهور الكثير في أجهزة الإعلام.. فقد جاء حزب البعث إلى الحكم في العراق عام 1963، واستمر حكمهم ثمانية شهور قصار.. وأطيح بحكمهم في نهاية العام نفسه.. لذا فإن معظم العراقيين اعتقدوا.. بأن هذه المرة ستكون كسابقتها.. إلا أن كل الناس لم يقدروا صدام حسين حق قدره. فعلى الرغم من أن صدام كان في الحادية والثلاثين من عمره عام 1968، إلا أنه كان قد تعلم جيدا من أغلاط وهفوات ثورة شباط 1963، وكان ذكيا وآثر البقاء في الظل لفترة لحين تأسيس مستقبل الحزب جيدا. وأصبح العراقيون قاطبة يعلمون الآن بأن صدام يبني قاعدة نفوذه من خلال جهاز المخابرات.. ومنذ البداية كان جهاز المخابرات المختص بالتعذيب والرعب يأتمر بأمر صدام، وعلى الرغم من أن صدام كان المهندس الأوحد لجهاز الرعب ذاك، ولم يتوان في يوم من الأيام من تصفية أعدائه بيديه.. إلا أنه كان يبذل جهدا إضافيا ليبين نفسه كرجل عالي التهذيب والأخلاق والمبادىء!. وقالت ميادة بأن أول معرفة لها بصدام حسين جاءت في فترة حزينة جدا في حياتها.. بعد وفاة والدها مباشرة في 2 آذار 1974. قالت: "توفي والدي على إثر إصابته بسرطان القولون عام 1974 وقبل خروج جثمان والدي من المنزل وتشييعه إلى مثواه الأخير.. جاءت مكالمة هاتفية من صدام حسين، وكان آنذاك لا يزال نائبا لرئيس الجمهورية.. وقدم تعازيه لوالدتي وقال بأنه سيحضر بنفسه لتقديم العزاء..". وقريب من مغرب ذلك النهار الحزين، جاء شخص من القصر الجمهوري وسلم والدتي ظرفا من صدام حسين. نظرت أمي في الظرف فوجدت فيه ثلاثة آلاف دينار عراقي، أي ما يزيد عن العشرة آلاف دولار آنذاك.. وكان هذا المبلغ كبيرا في تلك الأيام.. أصرت والدتي على أن نطلب صدام هاتفيا وأن نشكره إلا أن احدى قريباتنا ذكرتها بأننا في العراق، والعراقيون لا يشكرون بهذه الطريقة.. فهم يقدمون هدية مقابل أخرى.. أو معروف مقابل معروف.. إلا أن أمي قالت إن ذلك سيكون في منتهى قلة الأدب.. وقالت بأن من عادات العرب أن يشكروا، وهي عربية، ولن تتصرف إلا كالعرب.. ولأن والدتي لم تنجب سوى ابنتين.. كان علي أن أشكره معها.... لم أكن أريد التحدث إليه في الواقع، إذ لم أكن أحب الرجل كوالدي الذي لم يكن يثق بالبعثيين إطلاقا.. ولم انتمي إلى هذا الحزب أبدا فيما بعد.. وكما تعلمون، ان الحكومة كانت تجبر الطلبة على دخول الحزب لغرض قبولهم في الجامعات. على أية حال.. لم أكن أريد التحدث إلى الرجل.. إلا أن والدتي لم تكن بالشخص الذي يمكن لأولادها أن يرفضوا تلبية أوامرها وطلباتها بسهولة..فحدثت المكالمة واتذكر أن صوته كان من النوع الذي يخرج من أنفه.. وبأنه كان مؤدبا للغاية.. كنت أريد أن أنهي المكالمة وبسرعة.. فشكرته على التفاتته الكريمة وانتظرت أن ينهي المكالمة. كان في غاية التواضع والحنان.. إلى حد أن أسلوبه اللطيف كسبني إلى جانبه فورا.. وأخجل من أن أقول، إنني عندما وضعت سماعة الهاتف.. أصبحت نفسيا في صف هذا الرجل..". هزت سمارة رأسها موافقة على كلام ميادة، كما فعلت الكثيرات من نساء الظل. ففي بداية حكم حزب البعث.. أصبح الكثير من العراقيين يساندون صدام ويدعمونه بمشاعرهم الطيبة تجاهه.. فقد جاء إلى الحكم وفي ذهنه أفكار طموحة لتحسين وضع البلاد، وسرعان ما بدأ بتغييرات صارت تعود بالفائدة على الكثيرين.. وكان صدام مؤمنا بأفكار ساطع الحصري في التعليم والتربية.. لذا قام بحملة واسعة لبناء المدارس في كل القرى والقصبات العراقية.. وبدأ أيضا ببرنامج طموح جدا في محو الأمية، وبعدها صار يركز على الرعاية الصحية، وبنى العديد من المستشفيات والمستوصفات الحكومية المجانية.. وفي بضع سنوات فتح كل آفاق العمل أمام النساء العراقيات، وبهذا أوجد جوا من تكافؤ الفرص والمساواة بين الرجال والنساء في المجتمع.. وكان رائدا في هذا المجال بين الأقطار العربية.. وبطبيعة الحال، كان صدام متكتما جدا في بناء أجهزة المخابرات والأمن الداخلي.. بحيث أن الناس الاعتياديين في العراق لم تكن لهم أدنى فكرة عن الكابوس الأمني والمخابراتي الذي سيلوح في الأفق. كانت والدتي من بين النساء الانيقات في العراق، وكانت تسافر إلى باريس كثيرا لحضور عروض الأزياء المختلفة وكانت تشتري ثيابها من مجموعات الخريف أو الربيع، حسب الموسم من بيوت ازياء عالمية مثل شانيل وديور.. وكان صدام يعرف بهوايتها هذه، لذا، كان صدام يرسل لوالدتي كتلوجات فيها ملابس للرجال، وكان يطلب منها أن تؤشر له لما تراه مناسبا وأنيقا.. ولما يمكن ارتداؤه في الصباح والظهيرة والمساء. إن كل من رأى صدام كان يعرف بأنه رجل مولع بالثياب الجيدة، فقد كان يغير البدلات الرجالية المصممة في بيوت الأزياء الرئيسية في العالم، خمس مرات في اليوم الواحد.. وكانت والدتي تقول بأنها كانت تتعاطف مع هذا الشاب القروي الأصل والذي كان في يوم من الأيام محروما من كل شيء والذي وجد نفسه فجأة قادرا على شراء أي بيت كامل للأزياء إن شاء. قامت والدتي بتقليب صفحات الكتلوج ووجدت بعض الإشارات لبدلات أثارت انتباهه وأعجبته وتفاجأت عندما وجدت من بين الأمور التي أعجب بها سترة من القطيفة عديمة الجيوب، كتلك التي يرتديها الموظفون الذين يعملون في صالات القمار وعلى موائد الروليت.. وحيث الستر كانت عديمة الجيوب لأسباب معروفة.. لم تجد والدتي أي حرج في أن تخبر صدام بما يناسبه من بدلات.. وأن لا يقترب من تلك الستر المخملية عديمة الجيوب أبدا.. توقفت ميادة قليلا.. إلا أن نساء الظل طلبن منها الاستمرار في حديثها.. "في عام 1980، ترأست والدتي لجنة لإعداد كتاب كبير حول العراق. وكان الكتاب من النوع الذي يغطي كافة جوانب الحياة في العراق وفيه صور ملونة، وكان من النوع الباهظ الثمن، وطبع في ألمانيا الغربية على نفقة وزارة الإعلام.. وعندما تم الكتاب، أرسلت نسخة إلى مكتب صدام الذي أصبح رئيسا للجمهورية بعد أن عمل على إزاحة البكر وأخذ مكانه في نهاية عام 1979. وقد أعجب صدام بالكتاب كثيرا، وطلب من أمي المجيء إلى مكتبه في القصر الجمهوري مع ابنتيها.. وفي ذلك الوقت، كانت أختي عابدية قد تزوجت وغادرت العراق إلى تونس، لذلك اصطحبتني والدتي معها لمقابلة صدام. أدخلنا إلى مكتبه بمجرد وصولنا إلى القصر. في تلك الأيام، لم تكن الحرب العراقية الإيرانية قد بدأت بعد، لذلك، كان صدام يرتدي الثياب المدنية، وأذكر أنه كان يرتدي بدلة بيضاء وقميصا أسود وربطة عنق بيضاء.. ضغطت والدتي بيدها على ذراعي وكنت سأنفجر من الضحك عندما نظرت إليَّ والدتي وقد حَوَلت عينيها.. لأن رئيس جمهورية العراق كان يبدو كأحد زعماء المافيا الثانويين بملابسه هذه.. وفيما بعد، قالت لي والدتي أن هذا الرجل يجب أن يكون لديه مستشار فاهم في أمر الملابس.. وسرعان ما انتهت هذه المشكلة لأن صدام توقف عن ارتداء الملابس المدنية وتحول نحو الملابس العسكرية عندما اندلعت الحرب مع إيران. فلم نره خارج ملابسه العسكرية إلا فيما ندر.. وأذكر أن أمي قالت ان هذا هو الأمر الإيجابي الوحيد في هذه الحرب الرديئة. في حزيران 1981 كان لديَّ عمود أسبوعي في الملحق الثقافي لصحيفة الجمهورية، الملحق الذي كان يترأسه الاستاذ محمد الجزائري، أستاذي الاول في الصحافة العراقية، وكان اسم العمود هو (إطلالات)، وكنت قد كتبت شيئا عن مفهوم (الزمن)، مقارنة إياه بمفهوم الزمن عند الله سبحانه وتعالى، وتحدثت عن نظرية أينشتاين بصورة مقتضبة والارتداد العكسي للزمن وكيف أني كنت أتمنى أن يكون يومنا 48 ساعة عوضا عن 24 ساعة. وتحدث زملائي معي عن المقالة بعد أن نشرت وقالوا بأنها جيدة، وكل من قرأ المقالة من معارفي اتصل بي وقال إنها جيدة وبأنهم قد استمتعوا بها.. وجاء هاتف غير متوقع من والدتي إلى الجريدة، وقالت: أسرعي بالعودة إلى البيت.. فقد اتصل أحدهم من القصر الجمهوري بي، وقال إنه سيتصل بي مرة أخرى بعد فترة.. وضعت سماعة الهاتف وانتابني قلق.. خشيت أن تكون مقالتي قد أحدثت رد فعل سيئا لدى الرئيس.. والذي أصبح غير معروف المزاج منذ بداية الحرب مع إيران. عدت إلى الدار وبعد دقائق.. رن جرس الهاتف.. وكان المتصل هو أمجد.. أحد أقارب الرئيس ومرافق من مرافقيه.. وكان سكرتيره الخاص أيضا.. وقال ان الرئيس صدام حسين يريد أن يقابلني في الساعة الخامسة من بعد ظهر غد، وقال لي أن آتي إلى القصر الجمهوري في ذلك الوقت. أصبحت في غاية التوتر والقلق، ولم أعتقد بأني سأتمكن من تمضية ليلة بطولها بدون معرفة سبب استدعائهم لي.. لذا سألت الرجل على الهاتف: هل هناك خطب ما.. مشكلة؟ ضحك أمجد وقال: لا.. يجب أن تقولي إن الأمور تسير على ما يرام.. يا أختي العزيزة، إن سيادة الرئيس يريد تكريمك على مقالتك..". "ذهب القلق عني.. فاتصلت برئيس التحرير آنذاك، صاحب حسين السماوي وأخبرته عن المكالمة الهاتفية وبطبيعة الحال، فرح جدا.. وقال ان أمر عليه بالجريدة بعد المقابلة مع الرئيس لغرض إخباره عن مجريات الأمور..". "وصلت إلى القصر قبل الموعد بخمس دقائق.. ورافقني أحد الموظفين الصغار من غرفة إلى أخرى.. إلى أن وصلت إلى غرفة استقبال كبيرة للغاية.. وكان فيها عدد كبير من المواطنين ينتظرون لقاء صدام حسين. فعلى الرغم من الحرب الجارية مع إيران، كان هناك خير ووفرة في كل العراق.. والحال كان نفسه وأفضل في القصر الجمهوري.. وقدمت المشروبات الغازية والعصائر بكؤوس جميلة للحاضرين، وبعدها طلب من الحاضرين الانتقال إلى غرفة أخرى، فقد مضى الوقت، وحان موعد العشاء.. وفي الغرفة الأخرى.. نصبت طاولة كبيرة ووضعت عليها أصناف متنوعة من الطعام.. واستغربت من وجود حتى الكافيار الأسود الذي كانت تسميه والدتي (كافيار بيلوغا) وكانت هناك طاولة أخرى مليئة بالحلويات وأنواع الفواكه غير المعروفة في العراق.. كالكرز الأحمر والمنجا والأناناس..". "منعني التوتر من تناول الطعام.. إلا أن سائر الحضور كانوا يستمتعون بهذا الطعام.. وقالت لي سيدة ذات شعر أحمر فاقع.. بأنها جاءت هنا ليساعدها الرئيس في مسألة إرث ضائع.. وحاولت أن تشرح لي مسألتها. وبعد العشاء.. أعدنا إلى الغرفة الأولى وقدمت أقداح الشاي الصغيرة على الحضور.. وجلسنا ننتظر.. ورحت أفكر.. لابد من أنهم نسونا.. ولكن فجأة دخل رجل يرتدي بزة عسكرية ونادى اسمي.. فتبعته خارج الغرفة.. إلى غرفة أخرى أصغر حجما، وأكثر أناقة من الغرفة الأولى.. وسرعان ما سمعت صوت أقدام متراكضة، وأبواب تغلق.. وفهمت أن صدام قد دخل لتوه القصر.. وبعد مضي ساعة أخرى.. دخل رجل عسكري آخر إلى الغرفة وطلب مني أن أتبعه.. فتبعته إلى غرفة أخرى فيها مكتب خشبي كبير في وسط الغرفة وعدد من الكراسي ذات الخشب المحفر المذهب، ومقاعد بقماش أزرق فاتح. وقد صافحني الرجل العسكري وهنأني.. ثم صار يملي عليَّ تعليمات بدت غريبة جدا.. وكان حازما عندما قال: "لا تمدي يدك لمصافحة الرئيس ما لم يمد يده أولا، لا تحاولي تقبيله.. ولا تتحدثي قبل أن يتحدث هو..". تفاجأت، لأن صدام كان أبسط من ذلك في المرة الأولى وأكثر تواضعا.. وقلت لنفسي.. ربما أن هذا هو وجهه الجديد.. الذي بدأ يظهر..". ضحكت سمارة وقالت بهمس: "ربما كان هذا هو وجهه الحقيقي.. والوجه الآخر كان مزيفا..". هزت ميادة رأسها موافقة وأردفت قائلة: "فتح بابان خشبيان من قبل حارس يرتدي بدلة عسكرية. وكان صدام جالسا خلف مكتب خشبي آخر.. ويضع نظارة ذات إطار أسود كبير، وكانت هذه أول مرة أرى فيها صدام بنظارات قراءة.. وكان يرتدي البزة العسكرية الخضراء، أما مظهره الخارجي فلم يختلف عن السنة الماضية التي كنت قد التقيته فيها مع والدتي.. الرجل أسمر ذو سمار داكن.. وشعره أجعد, وعلى أنفه وشم أخضر صغير، وأعتقد أنه أزال هذا الوشم عن أنفه بعد بضعة سنين. فاجأني صدام بابتسامته ومد لي يد المصافحة.. صافحته وقال لي: "كيف حال كاتبتنا المبدعة؟ قلت له أنه ما دام بخير وعافية فإن كل العراقيين بخير ورفاه". ثم سألني عن كل العاملين في جريدة الجمهورية وقلت له بأنهم طلبوا مني أن أنقل لسيادته محبتهم واحترامهم.. ابتسم صدام وقال: "قرأت مقالتك حول الزمن وأعجبتني كثيرا. لو كان الحصري على قيد الحياة لبات فخورا بحفيدته.." ربت صدام على كتفي وقال: أريد وعدا منك أن يكون قلمك هذا سلاحا بيد الثورة العظيمة وعراقنا العظيم. اكتبي ما تمليه عليك كرامتك وستجدين نفسك على الصراط القويم..". شكرت الرئيس على كلماته ومشاعره.. ثم سألني: هل لديك سيارة؟.. قلت: نعم.. قال: هل لديك بيت، قلت: نعم.. ابتسم، ثم رفع سماعة الهاتف وطلب المصور.. وجاء المصور وأخذ لنا عدة صور.. وتفاجأت تماما عندما قبلني صدام على جبهتي.. وقال لي أن أستمر في كتاباتي.. وأن أجعل جدي أكثر زهوا وفخرا بي.. وقال: إن مجرد التفكير بجدك ساطع الحصري يجعلني فخورا بأنني عربي..". صافحني مودعا. وعندما خرجت من مكتب الرئيس إلى الغرفة المجاورة.. سلمني أمجد.. الذي كان قد اتصل بي بداية حول هذا التكريم.. سلمني ظرف وعلبتين من الجلد.. وقال إن سيارة في الخارج ستقلني إلى البوابة الخارجية للمجلس الوطني، أو أي مكان آخر أريده.. طلبت منه أن توصلني السيارة إلى جريدة الجمهورية.. فقد كنت قد وعدت رئيس التحرير بالمرور عليه قبل العودة إلى المنزل. فرح صاحب حسين عندما أخبرته عن تفاصيل التكريم، ونشر خبر التكريم على الصفحة الأولى من الجريدة في اليوم التالي. وعندما وصلت إلى البيت، فتحت المغلف ووجدت ثلاثة آلاف دينار عراقي فيه.. وأما العلبتان الجلديتان فقد كان فيهما ساعتان، إحداهما كانت من نوع (باتيك فيليب) مصنوعة من الذهب الأبيض، وخط داخلها اسم "صدام" والأخرى كانت من نوع "أوميغا" وفي داخلها كانت صورة صدام. وضعت ساعة في كل معصم ودقيت باب غرفة والدتي لأريها الساعتين، ضحكت كثيرا.. ارتديت إحدى الساعتين لبضعة أسابيع، ثم عدت إلى ساعتي القديمة.. فمن غير المعقول بمكان أن أنظر في وجه الرجل أو إلى اسمه كل ساعات النهار.. وبعد مضي بضعة أيام، جاء ممثل عن القصر إلى الجريدة وقدم لي ملفا من الجلد البني السميك المؤطر بالذهب وفي داخل الملف كانت صورتان لي مع صدام حسين.. وبنسختين من كل صورة، أخذ الأستاذ صاحب حسين إحداهما ووضعها على مكتبه.. في حين وضعت والدتي الصورة الأخرى داخل إطار جميل في غرفة المكتبة في البيت. توقفت ميادة قليلا عن هذا السرد.. إلا أن سمارة قالت: لا تتوقفي.. وقولي لنا كل شيء.. كل تفاصيل مقابلاتك التالية مع صدام. ابتسمت ميادة وقالت إن حبالها الصوتية لن تصمد طويلا.. ولكنها ستقول لهم ما حدث في عدد من اللقاءات التالية مع صدام. "في عام 1982 كنت قد كتبت موضوعا في مجلة فنون وأذكر أن عنوان المقالة كان (الصمت الأجمل)، وكان موضوعا رومانسيا صرفا.. امرأة تخاطب رجلا وتقول له إن كل الكلام لا يعبر عن مشاعرها إزائه وأن الصمت في مثل حالها يكون أجمل.. وقد طلبني الأستاذ محمد الجزائري الذي كان رئيس تحرير مجلة فنون هاتفيا وقال لي إن وزير الإعلام، لطيف نصيف جاسم سيقدم لي تكريما جديدا من الرئيس، رسالة وظرف وجهاز تلفزيون كبير! وكان عليَّ أن أذهب إلى وزارة الإعلام في صباح اليوم التالي لمقابلة الوزير. لم أتمكن من النوم في تلك الليلة، فقد أدهشني أن تكون هذه المقالة الرومانسية قد استرعت انتباه صدام. قالت إيمان الجالسة إلى جوار سمارة: "ولماذا الاستغراب فكلنا يعلم أن صدام رومانسي جدا بأفكاره!". قالت عالية: "هذا صحيح، إن أخي اللواء يعرف أحد أفراد الحماية المقربين من صدام، وقد أخبره الأخير أن صدام مولع بقصص الحب التي تدور حول عشق المرأة لرجل عظيم! لا بد من أن صدام رأى نفسه في تلك المقالة!". قالت ميادة: "ربما هذا صحيح، على أية حال، ذهبت إلى الوزارة في اليوم التالي في العاشرة صباحا.. وكان وزير الإعلام لطيف نصيف جاسم في غاية المودة واللطف.. وقال إن كتاباتي تسعد أبو عدي دوما. وقال إن الرئيس طلب منه أن يقول لي بأن مقالتي كانت كنسيم رطب في خضم الهجمة الشرسة للعدوان الإيراني على أمتنا. إلا أن ميادة لم تتم الحكاية للنسوة الجالسات أمامها.. ولم تخبرهم أن الأستاذ محمد الجزائري قام بنشر خبر التكريم في العدد التالي من المجلة.. وكنتيجة لذلك استلمت ميادة رسائل كثيرة جدا من ضباط وجنود في الجبهة.. وكانت إحدى الرسائل من غير اسم ولا توقيع.. وقال فيها الشخص بأنه كان دائما يبحث عن مقالاتها وكتاباتها في الصحف والمجلات العراقية.. ولكنه لن يفعل ذلك بعد اليوم.. لأنه صار يدرك بأنها "واحدة منهم" والقصد هنا أنها واحدة من جماعة صدام، وبأنها تكتب ما يمل عليها النظام.. تأثرت ميادة بهذه الرسالة كثيرا.. لأنها في كل حياتها المهنية، لم يملي عليها أحد ما يجب أن تكتب.. فهي لم تكن تكتب تعليقات أو مواضيع سياسية.. وهذه المواضيع وحدها كان يجب أن تتبع سياسة الدولة والحزب بحذافيرها.. ولكنها كانت تكتب آراءها في الحياة والمشاعر، وحدث أن موضوعها ذاك أعجب صدام. واستمرت في حديثها للنسوة الجالسات حولها في الزنزانة.. وجاء التكريم الثالث عام 1983 بعد عودتي من إيفاد طويل إلى السودان، وكتبت موضوعا بعنوان (أشعة من شمس عمودية) وأقصد بهذه الأشعة، تلك المنبعثة من الشمس التي تشرق فوق السودان والتي تكون حارة جدا.. وفي تلك المقالة تحدثت عن فقر السودان رغم كونه سلة الغذاء العربي.. وأن ابتعادي عن العراق كل تلك الفترة جعلني أدرك مدى حبي له.. وهذه المرة، تلقيت مكالمة من وزارة الإعلام، وأخبروني بأن الرئيس يريد تكريمي على الموضوع الجديد.. وبأنه يتوجب علي أن أكون في بناية المجلس الوطني في الساعة الخامسة إلا الربع من بعد ظهر اليوم التالي.. وكان الجو لا يزال دافئا، بالرغم من أننا كنا في نهاية تشرين الثاني.. وعندما وصلت، دهشت من الأعداد الكبيرة من المواطنين الذين كانوا يملأون المكان.. وكأن مهرجانا من نوع خاص سيبدأ وهم الحضور.. إلا أن أشكالهم.. والثياب السوداء والحزن العام على مظهرهم أبعد كل أفكار الاحتفالية الممكنة عن ذهني. وكان هؤلاء هم أهل من يستشهد كل يوم في جبهات القتال مع إيران.. وبدا لي القصر مهلهلا.. مثل الناس المتجمهرين فيه وتذكرت أن كل عائدات النفط مع واردات العراق كانت تذهب مباشرة لإدامة الحرب وما تحتاجه من أسلحة ومعدات. وتذكرت فجأة أن هؤلاء الأشخاص جاءوا بدعوة من صدام لاستلام مبالغ.. كدية عن موت أولادهم.. فقد كانت الأرملة أو الثكلى تستلم مبلغ 15 ألف دولار عن كل شهيد؛ وكنت قد سمعت بهذا الترتيب.. كان صدام يستقبل كل خمسة أشخاص سوية في مكتبه.. وكل شخص كان يسلم صدام رسالة وفيها تفاصيل عن مقتل الشهيد الذي يخصه.. وكان صدام يقرأ الرسالة ومن ثم يكتب توجيهاته على نفس ورقة الرسالة.. وبعدها يقوم قريب الشهيد بالتوجه إلى مكتب المحاسبة في القصر لاستلام المبلغ المحدد له. وعندما دخلت إلى القصر.. أدخلت إلى غرفة حسين كامل وفي تلك الأيام، كان لا يزال حسين كامل يعمل في مكتب الرئيس.. أي قبل زواجه من رغد ابنة صدام ؛ واعترف لكن بأني لم أحب الرجل على الفور وشعرت بنفور كبير منه.. ولم يكن الأمر يتعلق بشكله القبيح ولا بأنفه الطويل أو شاربه الذي يبدو كمكنسة أرض سوداء، ولكني شعرت بالنفور من النظر في عينيه.. فقد كانت عيناه تحتقران الجميع.. وتنظران باستعلاء لكل شيء محيط بها. وكان معي في الغرفة شاعر وملحن.. وكنا جميعا سنكرم على إنجاز أنجزناه.. الشاعر لكلمات أغنية (يا أرض ترابك كافوري) والملحن لتلحينه هذه الأغنية التي كانت دوائر التوجيه السياسي العراقية تذيع تسجيلها من على مكبرات للصوت في كل هجوم إيراني على قطعاتنا لتحميس جنودنا وإذكاء نار الحمية فيهم.. وسرعان ما أدخلنا إلى غرفة أخرى، ومن هناك أدخلت قبل الشاعر والملحن على الرئيس. وكان هذا اللقاء مختلفا عن كل اللقاءات السابقة واللاحقة فقد كان صدام يبدو قلقا.. ففي تلك الأيام كانت الحرب مع إيران في أسوأ حالاتها.. وكفة الكثرة البشرية كانت ترجح النتائج لإيران.. وقد أساء صدام من تقدير الخميني وتركيبته النفسية.. وإلى اليوم لا أستطيع أن أنسى كيف أنه كان يستخدم الأطفال ككاسحات ألغام أمام الجيش الإيراني في الهجمات التي كان يقوم بها على قطعاتنا.. على أية حال، هنأني صدام على الموضوع الذي كنت قد كتبته، وقال إن آخر شيء يريده هو صحافة ترتدي بزة موحدة.. كان يريد التنوع، وهذا ما كان يريده من الصحفيين العراقيين.. كان يريد فسحة تنفس للعراقيين عبر أوراق الصحف والمجلات بعيدا عن الحرب ووقائعها اليومية. وقال إن الحب شعور نبيل.. ويسمو بالروح ويساعد الناس في تخطي الالام المعاشة..". تعجبت من كلامه الصريح.. وبالكاد تمكنت من الإيماء برأسي موافقة.. ابتسم بعد ذلك وقال: لنأخذ صورة سوية. اعتقدت أنه في عجلة من أمره.. ومئات المئات من العراقيين سيأخذون كل وقته للفجر ربما.. لذا قلت له بأنني وبكل فخر لديَّ صورة معه من تكريمي الأول.. وبأني لا أريد أن آخذ الكثير من وقته.. ضحك لأول مرة في هذا اللقاء وقال: "إذن، لنعمل ألبوم صور سوية.. وإن كنت ستستمرين في الكتابة على هذا النحو الجيد فإنك ستحققين هذا الألبوم خلال سنوات قليلة قادمة..". "وبعد أن أخذت صورتنا سوية.. سألني إن كنت بحاجة إلى أي شيء، فقلت له إنني أريد السفر إلى بريطانيا مع طفلتي فيء لزيارة والدتي هناك.. فقد كانت أمي في المستشفى هناك على إثر عملية جراحية.. سألني عن زوجي، فقلت له إنه في الجبهة. وبكل سهولة، هكذا، وافق صدام على سفري.. في وقت كان فيه السفر ممنوعا إلى خارج العراق باستثناء الموظفين الذين ترسلهم الحكومة في واجبات وإيفادات رسمية. تسمرت في مكاني مندهشة، وطلب صدام سكرتيره على الهاتف وأعطى أمرا بتوفير موافقة سفر لي ولطفلتي فيء. "ومنذ ذلك الوقت.. كنت أسمع دوما بأن صدام يقرأ ما أكتب.. ففي بداية عام 1984 اتصلت وكالة الأنباء العراقية بوالدتي في لندن، وكنت معها.. وبلغت قائمة بأحسن كتاب عام 1983 صدرت بأمر من الرئيس صدام، وبأن اسمي كان في هذه القائمة.. وتعجبت من إعجابه بمواضيع كتبتها حول قراءة الطالع والسحر والشعوذة في أحلك أيام العراقيين.. حيث دفعهم اليأس إلى ارتياد هذه السبل لإيجاد حل لمشاكلهم اللامنتهية. وقد كتبت أيضا بحثا في الباراسايكلوجي، وهو علم في الإدراك الحسي لما هو خلف المنظور. وكان ذلك ضمن برنامج معد لإطلاع صدام شخصيا، من خلال دائرة الرقابة العامة، والتي كانت اسميا تعمل ضمن دوائر وزارة الإعلام. "وفي يوم، تلقيت مكالمة هاتفية من القصر حول موضوع تلك الورقة البحثية المتعلقة بالباراسايكلوجي.. وكان عليَّ أن أذهب إلى القصر صباحا لمقابلة الرئيس. كان التعب باديا عليه، ولكن عينيه كانتا تبرقان كعهدهما دائما.. ذلك البريق الذي لا نراه إلا لدى الحيوانات الليلية.. قال إنه يريد أن أبحث بموضوع يتعلق بالإدراك الما ورائي.. في موضوع اسمه (تجارب خارج الجسد)، وقال إن الروس قد توصلوا إلى نتائج مذهلة في هذا المضمار..". عملت بجد لتهيئة هذا البحث وقدمته لللجنة المختصة.. ولم يأتني أي نوع من الرد على ذلك البحث.. وبعد فترة.. نسيته.. وفي عام 1986، تلقيت مكالمة من نقابة الصحفيين العراقيين، قالوا لي إن تكريم جاءني من الرئيس على ذلك البحث.. قطعتا أرض في حي الإعلام.. وتلك كانت آخر مرة يأتيني فيها خبر من صدام.. كانت سمارة تريد الجلسة أن تستمر.. وأن لا ينقطع الكلام فقالت: "وماذا عن ساجدة خير الله زوجة صدام؟. ماذا تعرفين عنها؟!". أومأت ميادة رأسها موافقة، ولكن قبل ان تبدا بالكلام دخل احد الحرس الزنزانة، بعد ان دفع الباب بقوة، وقال : سمارة، هيا . بدأت سمارة تبكي بصمت لانها كانت تعرف نوع التعذيب الذي كانت تساق اليه. بعد ان غادرت سمارة الغرفة، سكتت النسوة، ونهضت ميادة من مكانها وجلست على السرير الحديدي . كانت كل واحدة من النسوة في الغرفة غارقة في بحر همومها، والقلق على مصير سمارة كان جليا على كل الوجوه . وبعد مضي بضعة ساعات على هذا الحال، فتحت باب الزنزانة مرة اخرى، والقيت سمارة ككيس من الرز، الى ارض الزنزانة، تجمعت النسوة حولها، ولاحظت ميادة بان دما كان يجرى من انف سمارة، وبان ذراعيها كانتا مغطاة بحروق السكائر. صارت الدموع تنحدر من عيني ميادة، ولسبب لا تعلمه، مر وجه أبيها من امامها، ذلك الرجل المسالم الذي لم يكن يحب العراك ولا الجدال، والذي كان يقول لها دائما، ان لم نتعارك مع الناس، فلن يتمكن احد من التعارك معنا . في تلك اللحظة، وهي تنظر الى سمارة المسجاة أمامها، ادركت ان والدها كان على خطأ .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |