|
أوراق بيروتية (1): هل العراق بلد سائب؟
د. حامد العطية قادني الشوق لرؤية الأهل المشردين إلى بيروت، فوجدتها تعج بالعراقيين، لا تكاد تمشي خطوات في شوارع بيروت الرئيسية حتى تسمع لهجتهم المميزة، وترى ملامحهم الفارقة، بدت على البعض منهم مظاهر النعمة، فيما البعض الأخر جاء طمعاً بالأمن ولقمة العيش، ذات يوم لمحت أحدهم يتصفح واجهات محلات الملابس في شارع الحمراء، تلاحقه فتاة صغيرة بتوسلاتها، من أجل ألف ليرة فقط، هكذا كانت تردد، مشيت وراءهما، متوقعاً في أي لحظة أن يفقد صبره وينهرها أو يزجرها، لكنه فاجأني ببرودة أعصابه، قال لها: دعيني أشتري حذاءاً، من المؤكد بأن المتسولة الصغيرة لم تفهم معنى كلمة "حذاء"، لو لم يكن جديد العهد ببيروت، لاستعمل كلمة "سباط"، لكن ليس كل العراقيين الميسورين جاؤوا للبنان للتبضع، وشراء الأحذية أو الملابس الفاخرة، فيما عدا ذلك الرجل ونساء عراقيات لا يسأمن من ارتياد محلات الملابس في الحمراء وغيرها، "أتدري من هم الأكثر استثماراً في لبنان هذه الأيام؟" سألني سائق الأجرة، أكثر الأحاديث إمتاعاً في بيروت تسمعها من سواق الأجرة، بالمناسبة معظمهم من أهل الجنوب،هم التيجان فوق رؤوسنا، أجبته: الخليجيون بالطبع ومن غيرهم هذه الأيام يمتلك الثروات الفاحشة؟ هز رأسه وقال: سابقاً نعم، لكن هذه الأيام، إنهم العراقيون، لقد سبقوا السعوديين والإماراتيين وغيرهم من الخليجين، العراقيون يشترون المباني والشقق والأراضي، كل شيء! قلت لنفسي لعله يبالغ، ولكن حتى مع الكثير من المبالغة فمن أين لهؤلاء العراقيين المال لشراء المباني بعشرات الملايين من الدولارات والشقق بملايين الدولارات، وبعض الشقق على الكورنيش تباع بعشرين مليون دولار، أو هكذا قيل لي. عند سقوط النظام البعثي الطاغوتي، هرب بعض أركان النظام وأزلامه محملين بأموال العراقيين المنهوبة والمسروقة، وقيل وقتها بأن الأمريكان جادون في تعقبها، وتحدثوا عن اكتشاف مئات الملايين من الدولارات في حسابات مصرفية سرية، لكن بقي مصيرها مجهولاً، حينها كان أعضاء الحكومة العراقية ومجلسها النيابي لاهين عن الأموال المسروقة، بل وحتى عن دماء العراقيين المسفوحة، ومنهمكين في تحصين أنفسهم في المنطقة الخضراء وجني المصالح والمناصب للأقارب والأعوان، وبعد عودة البعثيين للظهور العلني، بمباركة المحتلين الأمريكان، راحوا يتنافسون مع الإرهابيين الوهابيين في حصد أرواح العراقيين الأبرياء العزل، تساءل العراقيون يومها عن مصدر التمويل لتلك العمليات؟ قيل لنا الأموال المنهوبة لا غيرها، التي لم تحفظها قوات الإحتلال ولا الحكومة، فانتهبها البعثيون وهربوها إلى خارج العراق، لتعود بصورة قتلة مأجورين ومتفجرات وأسلحة فتاكة لقتل العراقيين، قلنا لو لم يكن البلد سائباً لما حدث ذلك. أعود إلى حكايات بيروت، حيث يغضون الأبصار عن المال السحت الآتي من البلاد السائبة، ولنعرج سوية على مركز صرافة، في حي رأس بيروت، قصدته لاستلام مبلغ يسير من المال، أرسله لي قريب من العراق، هو استحقاقي عن عائد القليل من أرضي التي لم يستولي عليها الأقارب والأباعد، الذين اعتبروها أملاكاً سائبة، وطيلة مكوثي في المنفى لأكثر من ربع قرن أكلوا ريعها لا هنيئاً ولا مريئاً. لكي تدخل مركز الصرافة عليك أن تدق الجرس، ومن وراء القضبان الحديدية التي تقف حائلاً بينك وبين الدخول سيتفحصك حارس أمني، ليقرر بعدها فتح الباب المصفح والسماح لك بالدخول، والأعجب أن بجوار مركز الصيرفة فرع لمصرف كبير، ليس له قضبان حديدية ولا باب مغلق يفتح بالتحكم من بعد، توكلت على الله ودخلت متوجساً، بينت لهم سبب مراجعتي فأرشدوني لموظفة شابة محجبة ، طلبت مني تعبئة استمارة بالاسم والعنوان ورقم الهاتف، وبعد ان تأكدت من هويتي بحثت في جهاز الحاسب ثم أكدت لي وصول الحوالة، فحمدت الله وشكرته، وبعد توقيعي بالاستلام حولتني لأمين الصندوق الذي أبلغها بأنه لا يوجد في الصندوق سوى أوراق عملة من الفئات الصغيرة وبأنهم بانتظار وصول الأموال، فطلبت مني المراجعة بعد نصف ساعة، واصررت على استعادة الوصل الذي يحمل توقيعي بالاستلام مما أغضب الموظفة المحجبة. عند عودتي وجدت المكان مكتظاً بالمنتظرين، وكان معظمهم إن لم يكن جميعهم عراقيين، وقفت في صف الانتظار فجاء شاب عراقي ودس نفسه أمامي، فعاتبته بحدة، فاستحى واعتذر مفسحاً المجال لي، لكن ذات الحجاب الأبيض كانت لي بالمرصاد فأنجزت معاملته قبلي، وسكت على مضض، خوفاً على مصير حوالتي المتواضعة، وما أن وقعتني بالاستلام مرة ثانية حتى أعلن أمين الصندوق وصول المال، فتنفسنا الصعداء. نادى أمين الصندوق على أول المنتظرين، وناوله بضع مئات وكسور من الدولارات، وهكذا الثاني، ثم جاء دور الثالث، وياليتني انتبهت لاسمه وحفظته، وتقدم عراقي آخر إلى الصندوق، ومعه مرافق يحمل حقيبة يدوية كبيرة، كان الاول يستلم رزمة النقود من فئة مئة دولار، ثم يسلمها للثاني الذي يضعها في الحقيبة، واحدة، إثنتان، خمس رزم، عشرة، عشرون..، واستمرت رزم النقود، آنذاك عرفت سبب تأخير تسليم النقود، كانوا بانتظار وصول نقود كافية لدفعها لهذا العراقي ومرافقه، وتساءلت عن مصدر هذا المبلغ المحول من العراق أتراها عوائد وأرباح أم رأس مال للتجارة أو الاستثمار؟ وتذكرت ما سمعته من سائق التاكسي عن الأموال الطائلة التي يستثمرها العراقيون في لبنان، لم استطع احصاء المبلغ لكني قدرته بمئات الألاف من الدولارات، لعله نصف مليون أو يزيد. آخر رزمة من الدولارات لم يودعها في الحقيبة بأكملها، استل صاحبها ورقة بمئة دولار منها، وسلمها لأمين الصندوق، الذي بدت على وجهه ملامح الحيرة، ثم استل الرجل مئة دولار آخرى وناولها لذات الحجاب الأبيض، أرادت إعادة المئة دولار، ولكن الرجل نظر إليها مؤنباً، وسحب ورقة آخرى من الرزمة ووضعها في يدها، ثم التفت إلى مرافقه وسلمه ما تبقى من الرزمة، وغادرا مركز الصيرفة. جرت العادة على مكافأة من يسلم لقية أو يسترجع مالاً مسروقاً، وينصح أرباب العمل بمنح موظفيهم المنتجين جانباً من الأرباح السنوية، وكلنا قرأنا عن تبذير الطغاة من أمثال هارون الرشيد وصدام حسين الأموال على مادحيهم وجلاوزتهم، لكني لم أسمع عن أحد أو أراه يتكرم بمبلغ غير يسير على موظفي صيرفي إلا في ذلك اليوم، وحتى أمراء وشيوخ الخليج لا يتكرمون بأموال المسلمين المغصوبة بحماقة إلا إذا تعتعهم السكر وأطارت صوابهم الغانيات، وبعد استبعاد ان يكون هذا العراقي سفيهاً استنتجت بأنه لص أو مختلس أو مرتشي، اشتد فرحه باستحواذه على غنيمته المحرمة فتكرم بمئات الدولارات منها على موظفي الصيرفي، إذ من المستحيل أن يكون قد تعب في جمع وتحصيل المال بالحلال. راودتني نفسي بالخروج وراءه لأساله من أين لك هذا، لكني خفت من ضياع مبلغ حوالتي، التي وقعت باستلامها مقدماً. خرجت من الصيرفي بعد استلام حوالتي، وقد تملكني الغضب، فانهال سيل اللعنات من فمي، ولم اكترث أن يسمعني المارة، ويظنوا بي الظنون، بدأت بلعن الطاغية صدام وحزبه، فلولاهم لما خرب العراق وتفشى بين أبناءه الفساد والرشوة، ثم لعنت الأمريكان وكل الدول التي شاركت في احتلال العراق، وتركوه نهباً للفساد والفوضى، ثم لعنتهم ثانية لأنهم استدرجوا الإرهابيين الوهابيين وسكتوا عن بقايا القتلة البعثيين، ولعنت كل مسئول عراقي لم يقم بواجبه لحماية أرواح العراقيين والأموال العامة ولم يأمر بقطع دابر المختلسين والمرتشين والمفسدين. تمنيت لو ارتقي دكة أمام أحد المقاهي المكتظة بالناس، لأقول لهم وبأعلى صوتي، أنا عراقي، مالنا سائب، أيها الناس، وقد رأيته بأيدي اللصوص بأم عيني، وهذا ليس كل شيء، فسيادتنا سائبة أيضاً، ولو لم تكن سائبة لما سيطرعلينا الأمريكان المحتلون، وبدلاً من الاستماتة في قتالهم وقعنا معهم إتفاقية استراتيجية لإدامة الإحتلال، ومقدساتنا سائبة ليفجرها النواصب الكفار، وما جدوى الحياة من دون مقدسات؟ وأرواحنا ودماءنا كذلك، يزهق أرواحنا الإرهابيون ويسفك دماءنا البعثيون من دون حامي ولا رادع، وقضائنا وعدالتنا سائبة أيضاً لذا البعثيون مطلقو السراح يتقلبون في الوظائف العليا، والإرهابيون الوهابيون يسلمون لسلطات بلدهم. أيها الناس كل ما في العراق غنيمة سائبة، الأرض والسيادة والمقدسات والأنفس والمال والثروات والعدالة وكل شيء، فماذا تنتظرون؟ لماذا أنتم جالسون؟ هلموا لتفوزوا بحصة من الغنيمة، قبل أن تنتهب الغنيمة برمتها، ويصبح العراق نسياً منسيا.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |