نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح نائب رئيس الوزراء العراقي .. الحلقة الرابعة

 

 

أ. د. كاظم حبيب

akhbaarorg@googlemail.com

هل يتستر المعدل السنوي للفرد الواحد من الدخل القومي على سلبيات الواقع الاقتصادي؟

 في لقائه مع قناة الشرقية ذكر الأخ الدكتور برهم صالح بارتياح ملموس ما يلي: "أنا أول الذين يقول بأن المواطن العراقي يستحق المزيد لكن لنتذكر بعض الأرقام المهمة: سنة 2003 موارد الدخل في العراق كانت (465 $) (المقصود هنا 465 دولار أمريكي للفرد الواحد في العام 2003, ك.حبيب) حسب إحصائيات البنك الدولي معدل الفرد العام تجاوز (3200$). البطالة كانت في 2005 (28%) الآن حسب الإحصائيات الموجودة (17.5%). (مأخوذ من نص الحديث وفق ما جاء في الإنصات المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني بتاريخ 5/5/2009). سنحاول تناول المسألتين المذكرتين في الحديث:

أولاً: حول معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي:

عندما بدأت أقرأ تصريحات الأخ الفاضل الدكتور برهم صالح ووصلت إلى المقطع أعلاه تذكرت حادثة شهيرة معروفة لمن عاش فترة العهد الملكي, ومفادها أن أحد الصحفيين سأل أحد الفراشين العاملين لدى أحد المدراء العامين في مجلس ووزارة الإعمار في بغداد عن راتبه الشهري. فأجاب الفراش: أنا والمدير العام نتسلم 203 دينار عراقي شهرياً. ألّح الصحفي بالاستفسار عن راتبه الشهري منفرداً وليس مع راتب المدير العام. فقال الفراش بخجل بالغ: راتبي 3 دنانير عراقية فقط وراتب المدير العام 200 دينار عراقي لا غير! وهذا يعني أن الراتب السنوي للمدير العام 2400 دينار, وراتب الفراش السنوي 36 ديناراً لا غير, ومجموعهما 2436 دينار عراقي, والتناسب بينهما: 98,52% للمدير العام و 1,48% للفراش. وكان للمدير العام طفلان, والفراش ستة أطفال.

هكذا يضع الأخ الدكتور برهم صالح مستوى معيشة الفرد الواحد في العراق في ضوء هذا المؤشر العام الذي لا يعبر عن حقائق الوضع في العراق وعن التمايز الجارح للكرامة الإنسانية. دعونا نبحث في هذا الرقم لنرى ما يخفي حقاً.

حين ننقل هذا الرقم إلى بنية وواقع الاقتصاد العراقي سنجد أمامنا الوقائع التالية:

1.  حول بنية الاقتصاد العراقي: أن القسم الأعظم من هذا المؤشر ناشئ من إيرادات قطاع النفط الخام المصدر وليس من القطاعات الاقتصادية الإنتاجية الأخرى كالصناعة والزراعة على سبيل المثال لا الحصر. وهذا تعبير عن تشوه وخلل كبير في بينة الاقتصاد العراقي أولاً, ومن ثم فهو قابل للزيادة أو النقصان بفعل ثلاثة عوامل: 1) حاجة  الطلب الدولي على النفط والكميات الممكن تصديرها سنوياً؛ و2) وسعر البرميل الواحد المتقلب وفق العرض والطلب؛ و3) الأوضاع السياسية المحيطة بالبلد أو علاقات البلد بالدول والمجتمع الدولي ومدى تأثير ذلك على إنتاج وتصدير النفط الخام. وإذا ما قارنا إيرادات العام الماضي بإيرادات هذا العام حيث استفحلت الأزمة سنجد الخبر اليقين في الخطورة والخطأ الفادح في الاعتماد على اقتصاد النفط الخام فقط بدلاً من تنمية وتطوير الصناعات التحويلية والزراعة المحلية ..الخ. ولا نريد أن نذكر هنا ما حصل للعراق في فترة الحصار الاقتصادي أو الحروب التي خاضها النظام الدكتاتوري. بمعنى آخر أن هذا الرقم لا يشير للقراء إلى أن الاقتصاد العراقي اقتصاد ريعي واستهلاكي يخسر أغلب دخله القومي في الاستيراد ولا ينمي تراكماته الرأسمالية عبر تنمية الإنتاج, وأنه ليس اقتصاداً إنتاجياً واستهلاكياً يغني الثروة الوطنية ويشغل الأيدي العاملة ويزيد من السيولة النقدية في آن ويحسن مستوى معيشة السكان.

2.  ففي الوقت الذي بلغت إيرادات العراق من تصدير النفط الخام في العام 2008 وفق تصريح وزير النفط العراقي الدكتور حسن الشهرستاني 61 مليار و883 مليون $, فأن تقدير إيرادات النفط لعام 2009 الجاري يقترب من نصف هذا المبلغ أو أقل, وسينعكس هذا بالضرورة سلباً وبشكل مباشرة على المؤشر الذي قدمه لنا الدكتور برهم صالح حول معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي في السنة. 

3.  وأن هذا المؤشر لا يدلنا على واقع التوزيع الفعلي للدخل بين أفراد المجتمع, إذ أنه يأخذ المعدل الوسط بين الناس, وفي المثال الذي أوردته عن الفراش والمدير العام نرى بأن معدل حصة الفرد الواحد من راتبهما المشترك هو 101,5 دينار لكل منهما, في حين أن الحقيقة غير ذلك حيث يتسلم المدير العام 200 دينار والثاني يتسلم 3 دنانير في الشهر لا غير. وهنا نجد بكل وضوح أن هذا المؤشر يتستر على غياب العدالة في التوزيع عند الحديث عن هذا المؤشر, وهو رقم يراد به التشويش على واقع التوزيع الطبقي المجحف وغير العادل للدخل القومي في المجتمع وفي غير صالح الغالبية العظمى من أفراد المجتمع, بل في صالح فئة صغيرة منه.

4.  وهذا المؤشر لا يدلنا على كيفية توزيع الدخل القومي بين القطاعات الاقتصادية لاستخدامه في عملية التنمية, أي ما هي حصة القطاعات الإنتاجية والقطاعات الاستهلاكية, وكيف يوزع بين أرباح لرأسماليين وكبار الملاكين العراقيين والأجانب, وبين أجور العمال مدخولات الفلاحين وصغار المنتجين, إذ كما نعرف يقسم الدخل القومي إلى جزئين هما فائض القيمة أو الربح والريع من جهة, والأجور ومدخلات الفلاحين والمنتجين الآخرين من جهة أخرى. ومن هنا يتبين أيضاً من هو الذي يستفيد لا من عملية توزيع الدخل القومي فحسب, بل ومن عملية إعادة التوزيع التي تتجلى في الخدمات الصحية والتعليم والخدمات الأخرى التي يفترض أن يتمتع بها كل الموطنات والمواطنين على حد سواء, في حين تكون حصة الأغنياء والميسورين وكبار موظفي الدولة حصة الأسد, في حين أن الفقراء والمعوزين في المدينة والريف يعيشون على  فتات الموائد, أو لا يتمتعون بشيء يذكر...الخ.

5.  وهذا المؤشر لا يدلنا على واقع الفساد المالي في الدولة العراقية الراهنة وما هو حجم المسروق من الدخل القومي سنوياً, وهل هذا الرقم قبل أو بعد النهب الذي يتعرض له الاقتصاد الوطني. وفي الغالب الأعم يقصد بالرقم بعد النهب غير المعروف من حيث الكمية, ولكن النهب يستمر فيما بعد أيضاً من خلال العمولات والرشوات وسوء التصرف في العقود والمقاولات ومواد البناء أو الاستخدام السيئ للموارد ... الخ.

إن هذا المؤشر حين يستخدم بالصورة التي استخدمها الدكتور برهم صالحو أدرك ذلك أم لم يدركه, مؤشر خادع يفترض أن لا يستخدم إلا في أغراض معينة, إذ أنه لا يعكس حقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العراق, بل يراد منه تغطية التشوه والانكشاف على الخارج والتوزيع غير العادل والاستخدام السيئ للدخل القومي, رغم التحسن النسبي الحاصل الذي لا نريد السكوت عنه. والسؤال هو من المستفيد من هذا التحسن النسبي؟ أعتقد إن إجاباتنا ستختلف بحكم الخلفية الفكرية التي نعتمدها في تقييم وتقويم الأمور الجارية في العراق, خاصة وأن الأمم المتحدة تتحدث عن النسبة العالية لمن يعيش في العراق تحت خط الفقر المعترف به دولياً للدولة النامية والتي تتراوح بين 30-40% من مجموع الشعب العراقي.

 

ثانياً: حول البطالة:

يشير الدكتور برهم صالح إلى أن البطالة تبلغ الآن في العراق 17,5 %, وهو رقم يثلج الصدور في ظروف العراق الراهنة إن كان الرقم صحيحاً, حيث كانت البطالة تزيد عن 50 %. ولكن تدور في البال الأسئلة التالية:

هل هذا الرقيم صحيح؟ وكيف استخرج؟ وما هو حجم البطالة المقنعة في الوقت الحاضر؟ ثم كيف نعالج هذه المشكلة؟

السبب في إثارتي لهذه الاستفسارات هو ذاكرتي التي لا تزال طرية في فترة العمل في وزارة الزراعة والمجلس الزراعي الأعلى حيث كانت الطريقة تتم على النحو التالي: تقدير مساحات الأراضي المزروعة بالحنطة في كل محافظة, ثم تقدير معدل غلة الدونم الواحد, ثم ضرب المساحة المقدرة بالغلة المقدرة ليكون الإنتاج السنوي المقدر. والفارق كان باستمرار كبيراً بين حساب الحقل وحساب البيدر, بين الواقع الفعلي والحسابات التخمينية لقسم الاقتصاد الزراعي في وزارة الزراعة العراقية! والنتيجة كانت تؤثر على تقدير حجم الاستهلاك والحاجة للاستيراد التي غالباً ما تكون مؤذية للمستهلك أو ترهق ميزانية الدولة.

إن البطالة في العراق تزيد كثيراً عن هذا الرقم. إليكم بعض الأرقام غير الدقيقة التي تسجلها وزارة التخطيط التي اعتمد عليها الدكتور برهم صالح في إيراد الرقم 28,1 % بالنسبة لعام 2008 % :

نشرت جريدة الصباح الخبر التالي:  "أشارت نتائج مسح أجرته وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي بالتعاون مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في العراق إلى أن معدل البطالة بين السكان بعمر 15 عاماً فأكثر  يبلغ 28.1% لكلا الجنسين، وقد بلغ معدل البطالة للذكور 30.2 % في مقابل 16 % للنساء. وبحسب "تقرير عن نتائج مسح التشغيل والبطالة بلغ معدل البطالة في المناطق الحضرية 30% في مقابل 25.4% في المناطق الريفية". (جريدة الصباح. التخطيط تقدر حجم البطالة في العراق بأقل من ثلث السكان. أخذ المقتطف بتاريخ 16/5/2009, ك, حبيب).

ماذا يعني هذا في واقع الأمر؟ يعني إن المسح المشار إليه قد اعتبر أغلب نساء العراق ربات بيوت حتى لو كن بعمر 15 سنة فما فوق, وهو أمر غير مقبول, إذ أن نسبة عالية منهن عاطلات عن العمل ولا يجدن فرصة عمل فعلية وغير متزوجات ولسن طالبات أيضاً. ومن هنا أدى هذا التقدير إلى تقليص نسبة البطالة بين الجنسين إلى 28,1%, وهو رقم لا يمكن القبول به بأي حال, إذ يتعارض مع الواقع في العراق. كما أن أجهزة الدولة تضم ما يقرب من 43% من القوى العاملة ويقدر البطالة المقنعة بين هذه النسبة بما يتراوح بين 30-50%. الرقم الذي يطرحه السيد الدكتور برهم صالح غير واقعي ولا يعبر عن حقيقة البطالة في العراق بأي حال وهو بالتالي مضلل لمن يريد تنمية الاقتصاد ومعالجة  البطالة, رغم أن الدكتور صالح لا ذنب له في هذا الرقم فهو صادر عن جهة رسمية. ولكن بحكم كون إحصائياً كان يفترض أن يقدر واقع البطالة في العراق, ومنه إقليم كردستان حيث البطالة المقنعة فاحشة حقاً, دع عنك البطالة المكشوفة.

وإذا اقتطفنا مقطعاً من مجلة "الأسبوعية" الصادرة في بيروت والقريبة من الدكتور برهم صالح, فإننا سنقرأ فيها ما يلي:      

" تلفت التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة إلى وجود بطالة مقنعة في العراق تقدر بما يتراوح بين 30 و50 في المائة وفقاً للبيانات المتداولة. وفي الوقت الذي قدرت منظمة العمل الدولية نسبة البطالة في العراق بما بين ربع أو ثلث القوى الإنتاجية، تشير الأرقام التقديرية للبنك الدولي، بحسب موقعه الالكتروني، إلى أن إجمالي الناتج المحلي العراقي تراجع في العام 2003 بنسبة الثلث تقريباً، واتجه نحو الربع في العام  2004, واستمر في تراجعه ما بين الربع والثلث خلال الأعوام 2005-2006-2007 – 2008، ويؤشر هذا التراجع الخطير إلى إرباك واضح للاقتصاد العراقي" راجع : الأسبوعية. 11-20 نيسان/أبريل 2009). ولا شك في أن الأمر أكثر من إرباك واضح, بل هي سياسة ينبغي لها أن تتغير! 

من هذين المؤشرين نريد أن نؤكد أن في العراق تركة ثقيلة عمرها عشرات السنين من القهر والإرهاب والتهميش والتخلف والتبعية والنهب والسلب. وأن العراق يحتاج إلى وقت طويل لإزالة الأوضاع السيئة للنسبة العالية من السكان التي تعيش تحت خط الفقر, وفق تقديرات الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات. ولكن السؤال هو: هل يوصلنا فكر وذهنية وسياسة اللبرالية الجديدة المتطرفة التي يلتزم بها ويقترحها للعراق الدكتور برهم صالح إلى إزالة الواقع الذي يعيد إنتاج الفقر أم يبقي عليه ويكرسه, وفي الوقت نفسه يزيد من عدد المليونيرية من جهة ويزيد من عدد الفقراء والعاطلين عن العمل من جهة أخرى؟ وعلينا أن نتذكر الحكمة القائلة "ما بات متخم إلا وبجانبه جياع". ألا ينبغي للعراق اختيار نموذج آخر وإستراتيج آخر لعملية التنمية والتقدم في العراق بدلاً من كوارث اللبرالية الجديدة؟   

إجابتي عن ذا السؤال واضحة, ولكن لنستمع إلى رأي طرح في مجلة "الأسبوعية" ذاتها حيث جاء في ذات المقال عن البطالة في العراق يقول:

" ويرى اقتصاديون عراقيون أن الضرورة تتجه إلى تفعيل القطاعات الإنتاجية (الصناعية الزراعية) وتوسيع قاعدة الاستثمارات؛ سعياً لخلق فرص عمل تستوعب معدلات البطالة.

وترى دراسات اقتصادية مستقلة أن تسريع عملية إعادة الإعمار وتنفيذ عدد من المشاريع الاستراتيجية وتفعيل عدد من المعامل وفتح الاستثمارات في قطاع الزراعة من مقومات امتصاص البطالة، وتحريك الدورة الاقتصادية الساعية إلى تخليص الاقتصاد العراقي من اعتماده المفرط على النفط كمصدر دخل أساسي". هذا الرأي يتجاوب مع الرأي العام العراقي, ولكنه يتعارض مع نخبة من أصحاب الملايين.

إن البطالة في العراق تزيد حالياً عن هذا الرقم بنسبة عالية وأكثر من الضعف على أقل تقدير إن احتسبت مع البطالة المقنعة. إن جولة صغيرة في أجهزة الدولة والإدارات المحلية في جميع أنحاء العراق, ومنه غقليم كردستان العراق, ستنكشف أمام أصحاب البصيرة والبصر سعة البطالة المكشوفة والبطالة المقنعة المرهقة لميزانية الدولة والمعطلة للعمل. وهذا يعني أن عواقب البطالة المقنعة ليست تفريطاً بموارد البلاد المالية وعدم مشاركة هؤلاء بالإنتاج وإنتاج الدخل القومي فحسب, بل وفي عرقلة العمل والتخلف عنتلبية حاجات الناس وتأخير إنجاز معاملاتهم في دوائر الدولة. إن الإجابة عن السؤال الوارد في العنوان: نعم!

إن اقتصاد العراق, ومعه اقتصاد إقليم كردستان العراق, هو أحوج ما يكون إلى التنمية الصناعية والزراعية وليس إلى زيادة الاستيراد وإغراق الأسواق المحلية  بالسلع المستوردة ذات النوعية الرديئة وسريعة الاستهلاك ومحاربة الإنتاج المحلي واستمرار البطالة المكشوفة والمقنعة واستمرار الفقر واتساع الفجوة بين مدخولات الفقراء والمنتجين وأصحاب النعمة الحديثة من القطط السمان. أتمنى على الدكتور برهم صالح أن يتخلى عن ذهنية اللبرالية الجديدة المتطرفة وليس عن فكره الرأسمالي, فهذا غير مطلوب منه, ولكن المطلوب منه أن يفكر بمصالح كل مكونات الشعب العراقي, ومنه شعب إقليم كردستان العراق, على المدى القريب والبعيد!

انتهت الحلقة الرابعة وتليها الحلقة الخامسة والأخيرة

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com