|
لا أطرح هذا السؤال لاستفزاز أي أب أو أم ولا العائلات العراقية ولا المجتمع العراقي, بل هو مجرد سؤال يسعى إلى التعاون الفكري والسياسي والاجتماعي لمعرفة الحقيقة, أي العمل الجاد مع كل الناس الذين يسعون إلى معرفة الحقيقة على نسبيتها, فالحقيقة نسبية وليست مجردة, كما قال أوسكار وايلد بصواب. دعونا نتثبت من بعض الأوضاع التي يعيش فيها المجتمع العراقي منذ قرون, وعاشها في العقود الخمسة الأخيرة بشكل ملموس ومباشر. فالمرأة في بلادي ليست حرة ولا تتمتع بالحرية والغالبية العظمى منهن لا يعرفن معنى الحقوق العامة, دع عنك حقوق الإنسان وحقوقهن بالذات. والمرأة العراقية غير متحررة من عبودية الرجل وهيمنته المطلقة على حياتها وحركتها ومصيرها, وهي غير مالكة لإرادتها ورسم مستقبلها وعلاقاتها ودورها في المجتمع. والمرأة العراقية في الغالب الأعم حبيسة فتاوى المؤسسة الدينية الرجعية وشيوخ الدين غير المثقفين والجهلة وغير الواعين وغير الديمقراطيين, إذ أن غالبيتهم يعيش في أجواء الغيبيات التي لا صلة لها بالواقع القائم وحياة الإنسان الفعلية والحضارة الإنسانية. والمرأة العراقية , بشكل عام وفي الغالب الأعم, حبيسة الدار والمطبخ والحجاب ومحرومة من العلم والثقافة والتربية الحديث. والشعب الذي لا يحترم المرأة لا يحترم نفسه, والشعب الذي يشطب على نصفه لا يمكنه أن ينهض بأعباء التقدم والتطور وبناء أجيال أكثر احتراماً لنفسه, بل يعيد إنتاج تخلفه وركوده القاتل. المرأة العراقية, هذه الإنسانة المقيدة بقيود من حديد في مجتمع لا يعي حتى نفسه, تزهو حين تتوفر لها فرصة المنافسة الفعلية مع الرجل في أوروبا وأمريكا وحيثما توفرت لها حرية الحركة والتعلم والمساواة وممارسة الحقوق الأخرى. أما الرجل, وفي الغالب الأعم, يُعتبر سيد الدار والحاكم المطلق في عائلته ولا يختلف عن المرأة في تدني ثقافته وعلمه وتربيته الحديثة وفي وعيه للواقع الذي يعيش فيه, كما أنه حبيس المؤسسة الدينية وشيوخ الدين في الموقف من المرأة ولا يختلف عن هؤلاء الشيوخ والمؤسسة بل يمثلها أسوأ تمثيل في البيت وفي العمل والشارع وفي المجتمع وعلى مستوى الدولة. وهؤلاء الرجال البؤساء, أغلب الرجال, يشكلون المجتمع الذكوري المسيطر على المرأة والمانع عنها حريتها وإرادتها في دولة ذكورية مستبدة ومتحكمة بحياة ورقاب وحقوق وحرية المرأة. الرجل الذي لا يحترم المرأة لا يحترم نفسه, والرجل الذي لا يرى في المرأة سوى عيباً, هو العيب وليس غيره. والرجل الذي يقتل المرأة بدعاوى تطهير الشرف وغسل العار, هو العار وهو الفاقد للشرف وليس غيره. والرجل الذي يصادر حرية المرأة, مصادرة حريته أصلاً, وفاقد الشيء لا يعطيه. حين تكون الأم فاقدة لحقوقها, وحين يكون الأب فاقداً لحقوقه ومشوهاً في ممارسته بعض الحقوق التي يمتلكها تقليداً وليس أصالة, ومستبداً في بيته, فهل في مقدورنا بعد كل هذا وذاك أن نتحدث عن حقوق للطفل في العراق؟ الطفل في بلادنا محروم من الطفولة أولاً, ومن الحقوق ثانياً, ومشروع موت في كل لحظة. وليس من باب المبالغة حين نتحدث عن موت مئات الألوف منهم خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فالقبور الجماعية التي أوجدها صدام حسين في كل أنحاء العرق, وخاصة الأطفال الذين استشهدوا في الأنفال أو الكيماوي أو المهجرين في دروب الهجرة الحدودية والمضرجين بدمائهم بسبب التفجيرات الانتحارية وغيرها, أو الذين ماتوا في الحروب التي استعرت في العراق أو مئات الألوف الأخرى من الأطفال التي ماتت بسبب الحصار الاقتصادي الدولي, بسبب الجوع ونقص الدواء والحرمان, أو بسبب الإرهاب الدموي وسياسات الاحتلال والطائفية البشعة. العائلة التي لا تعرف حقوقها لا تعرف أيضاً حقوق أطفالها, فهي حين لا تعي مصادرة حقوقها لا تناضل من أجلها, وحينها يصعب تصور أنها تناضل في سبيل حقوق أطفالها. والفئة الحاكمة هي من هذا المجتمع المتخلف والمريض نفسياً والمعطلة حقوقه أو المصادرة, وهي بالتالي مصابة بذات العلل ويصعب تصور أنها تسعى لتأمين حقوق المرأة والعائلة والطفل. هل يمكن تصور أباً يعرف حقوق الطفل ويسمح له بها, حين يأخذ طفله الصغير لكي يضرب بسكين حادة على رأسه المحلوق ليسيل الدم منه على وجهه وعلى القماش الأبيض الملتفع به بسبب احتمال موته أثناء عملية التطبير "الحسينية!" في كل المدن العراقية التي أغلبية سكانها من أتباع المذهب الشيعي الاثنا عشري المبتلية بالجهلة من شيوخ الدين الذين لا يجرءون على منع هذه الممارسة الوحشية خشية تراجع تأثيرهم ومداخيلهم المالية في العراق أيضاً. ومن تحدث منهم كان صوته واطئاً وكأنه يهمس لنفسه لا لغيره. من هنا يمكن الادعاء بأن الطفل محروم من الحقوق لأن الأم والأب محرومان من الحقوق قبل ذاك, وهما في الغالب الأعم لا يعرفان أن لهما حقوق أصلاً, وبالتالي فحقوق الطفل أسوأ حالاً من حقوق الأبوين. وهكذا ينمو الطفل في وضع لا حقوق له, وحين يصبح شاباً لا يتمتع بحقوق الشباب, بل هو محروم منها أيضاَ... وهكذا تستمر عملة إعادة إنتاج غياب الحقوق من المهد إلى اللحد. الطفل في بلادنا فاقد لطفولته في البيت, وفاقد لشخصيته في البيت والمدرسة وفي الشارع, وفاقد لتربية سليمة على أيد معلماته ومعلميه لأن أغلبهم لا يمارس حقوقه ولا يعيها ولا يعي حقوق الطفل أيضاً. نسبة عالية من أطفال بلادي لا تحصل على تغذية مناسبة, بل تعاني من جوع دائم وصحة عليلة ونقص في المعالجة والدواء. ونسبة مهمة منهم لا تجلس على مقاعد الدراسة بل تتجول في شوارع الوطن الغني بثرواته طلباً لشيء من مال تسد به غائلة الجوع. من يتجول في شوارع كل مدن العراق سيجد هذه الظاهرة البشعة أطفال بعمر الزهور وأجمل منها يعملون لكسب العيش أو يبيعون الماء والعلكة في المقابر وعلى قارعة الطرق والتسول بين السيارات العابرة والمارة. نسبة من أطفال بلادي بدأوا يتعاطون المخدرات, سواء عبر أكياس النايلون أم تناول المخدرات مباشرة. ونسبة مهمة من أطفال بلادي عرضة للاغتصاب وهي تسعى للحصول على لقمة العيش أو تتعرض إلى الاختطاف وسلبها بعض أعضائها لبيعها لمن يشتري تلك الأعضاء! والفساد المالي والإداري المنتشر في بلادي وسوء التربية والتعليم والمناهج الدينية والتعليمية والمناهج التلفزيونية الباهتة والبائسة والطائفية والبعيدة عن العلم في أغلبها تزيد كلها وتوسع وتعمق من هذه المشكلة الإنسانية حيث يعاني الأطفال منها بشكل عام. هذه كلها وغيرها صيغ تجسد فقدان الطفل لحقوقه في بلادي, وهذه الصيغ من التعامل تُنقل عبرهم لأطفالهم لاحقاً وهلمجرا. هذه الحلقة المفرغة التي يفترض كسرها لا تكسر بالدعاء ولا بالنداءات أو التمنيات الطيبة, بل تكسر بالنضال من أجل تغيير الواقع القائم في العراق, تغيير بنيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية البائسة حاليا, تكسر بالتنمية الاقتصادية والبشرية وبتغيير وعيه المتخلف, بتوفير مستلزمات تغيير هذا الوعي لدى الفرد والمجتمع, بممارسته لحقوقه, سواء أكان رجلاً أم امرأة. إنها الحلقة الشيطانية التي يفترض كسرها والتي يفترض مساهمة قوى المجتمع الواعية, وبشكل خاص القوى المثقفة والأحزاب والقوى الديمقراطية الواعية نسبياً رغم تباين وعيها لمخاطر هذه الحلقة المغلقة من فقدان هذه الحقوق أو تشويهها أو الهيمنة على المرأة وحرمانها من حقوقها من قبل الذكر والدولة الذكورية والقوانين الذكورية الجائرة والتشريع الديني ألذكوري الكاره للمرأة والرافض لحقوقها ومساواتها بالرجل. والدولة التي تعتمد العشيرة والدين قاعدة وأساساً لها تبتعد عن حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الإنسان والقوميات ولا تقترب منها, بل تجهض المسيرة نحوها, ومن هنا يفترض النضال من أجل إبعاد الدين عن السياسة وعن الدولة والالتزام بالقاعدة الأصوب: "الدين لله والوطن للجميع". إن النضال في سبيل حقوق المرأة والعائلة والطفل يعبر عن وعي سليم لأهمية ذلك في بناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث, وأن الطفولة الحالية هي حاملة المستقبل وهي الناهضة بمهماته اللاحقة, وعلى بنائها الراهن يتحدد بناء المجتمع القادم الذي نريد له أن يكون حراً وديمقراطياً وحديثاً.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |