|
العروبة ماتت بالسكتة القومية!
أ.د. سيّار الجميل الخديعة الكبرى نعم، حلمنا وتوهمنا وخدعنا .. وارتكبت اكبر الأخطاء من دون التعّلم من التجارب طريق الخلاص من التهريج ! ثلاثون سنة باسم القومية العربية وثلاثون سنة باسم ما اسمي بالصحوة الدينية ! لنتأمل حجم الانقسامات، وعوامل التقهقر، وانكفاء الحياة .. لقد توهّم الناس كل الفذلكات صراحة، والبطولات أمجادا، والأكاذيب حقائق . سألت احد ابرز القادة القوميين وهو أكرم الحوراني عندما التقيت به ببيته في الشميساني بالعاصمة الاردنية، مساء يوم 7/11/ 1996، قائلا : كيف كنتم ستحكمون إن حققتم الوحدة العربية ؟ قال : من خلال قيادتين قومية وقطرية . قلت له: وهل سيكون ذلك من دون انتخابات واستفتاءات للناس ؟ قال متسائلا : أتعتقد أن الأحزاب القومية تؤمن بالديمقراطية ! قلت له : ولماذا أوهمتم الملايين بالحرية كمبدأ وهدف معا ؟ زاغ بصره قليلا، والتفت يقول : ان تجاربنا القومية كلها مستلة من تجربة الحزب الوطني الاشتراكي في ألمانيا النازية ! وأرجو أن تسجّل هذا علي .. فتجاربنا القومية في الأربعينيات قد تأثّرت بتجربتي ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية ! قلت: وماذا تقول في الرئيس عبد الناصر والناصرية ؟ قال : نحن سبقناه، وجاء من بعدنا فركب الموجة، وغطّى علينا لانسياق الجماهير وراءه، وكان بيننا وبينه ما صنع الحداد ! ( انتهى كلامه ) .
الانهزامية بطولة ! كان من المحتم أن تنهزم القومية العربية، ثقافة وإيديولوجية كونها عبرت عن مصالح قوى حزبية، أو سلطات انقلابية، وحكومات عسكرية لا تعّبر عن أمنيات مجتمع، وتنمية فكر، واستنارة عقل ! وعلينا أن نعلم بأن " نزعة العروبة " قد استلبتها " الظاهرة القومية "، وتحدثت باسمها لزمن طويل! اليوم، كثيرا ما تشتم " العروبة " ظلما وعدوانا، بسبب كراهية الموجات القديمة والجديدة للقومية العربية والفكر القومي العربي .. ولم يزل القوميون حتى يومنا هذا يدافعون دفاعا مستميتا عن تاريخهم، إزاء استثناء ثلة منهم، راجعوا أنفسهم، فوجدوا أن مجتمعاتنا عاشت مخدوعة خديعة كبرى بفعل الوازع القومي الذي لا وجود له في مجتمعات لم تكن تعرف الا ما يجمعها ( عروبيا ) .. ولكن مع وجود خصوصيات يختص بها كل مجتمع عن الآخر . إن من المضحكات القومية أن تغدو كل هزائمها بطولات عظيمة !
معنى العروبة إن " العروبة " هوية ثقافية قديمة جدا، وأنها مجموعة قيم يتصف بها أبناؤها، أو من يعتز بالانتماء إليها، وسلسلة أساليب حياة تتوارثها الأجيال كابرا عن كابر، وأنها مجموعة من بقايا القيم والمواريث كالمروءة والسماحة، وهي الأسماء والفولكلوريات، وهي أساليب الحياة الثقافية المتوارثة بصالحها وطالحها، وبكل سوالبها وايجابياتها سواء عند الحضر أم البدو .. وهي البيئة والصحراء والشعر واللغة .. هي الموسيقى والطرب وهي التي عّبر من خلالها أصحابها في قلب العالم القديم، وهي النسق الاجتماعي والثقافي لتراث حضاري بكل ألوانه وعناصره وتاريخه . أما القومية العربية، فهي ظاهرة أيديولوجية حديثة، تطورت عن " فكرة " سياسية لا يزيد عمرها على قرن واحد عربيا، وتبلورت متأّثرة بالفكرة القومية التي نضجت خلال قرنين من الزمن أوربيا .. ولقد وجدت القومية العربية لها عناصرها في ظروف دولية معقدة، وتبلورت هي نفسها في ظروف تاريخية صعبة، وتأثر أصحابها بالنزعات القومية الأخرى القريبة والبعيدة وبالأخص الأوربية .. وإذا كانت قد نجحت في أوروبا بتشكيل دول وممالك اتحادية كونها عبرت عن حقائق وواقع، فان القومية العربية فشلت بأهم مشروع نادت به هو ( الوحدة العربية ) كونه لم يعبر عن واقع أبدا!
جعلوا الاوهام حقائق ومن ابرز مشاكل القومية العربية أنها احتكرت " العروبة " منذ نشأتها، وكانت ولم تزل تتحدث باسمها في واحد من اخطر جوانبها المخفية عن الوعي والتفكير .. أما خطاياها الأخرى، فحدّث عنها ولا حرج، ومنها " أوهامها " التي تعتبرها حقائق أساسية ومنها غلوها وتعصّبها وتشدّدها ضد كل من لم يؤمن بها مهما بلغت درجة عروبته من العنفوان، ففقدت ايديولوجيتها مصداقيتها حتى عند العرب أنفسهم ! هذا هو الفرق الحقيقي بين مفهومين اثنين لدى العرب المحدثين ومن يشاركهم حياتهم، وهم الذين لم يعلموا، حتى الآن، أن القومية العربية قد استلبت العروبة نفسها، وجردّتها من كل المعاني بعد أن استغلت اسمها استغلالا خاطئا .
كنت أتمنى عليهم ! واليوم، لم ينفع نداء العقل ومطالبة كل المستنيرين للقوميين، أن يجددوا مضامين خطابهم، ويراجعوا مواقفهم، ويعترفوا بالأخطاء التي جنوها بحق أجيالهم .. كنت أتمنى على الثقافة القومية العربية أن تنتقد نفسها نقدا صارما .. كيف أنها خدعت الملايين بتحقيق شعارات لا تستقيم والواقع ! كنت أتمنى على مثقفيها أن يتأملوا بكل الأهداف التي جمعتهم من دون تحقيق أي واحد منها ! كنت أتمنى أن يعترف القوميون بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبوها في تهميش القوميات والأقليات الأخرى، بتفضيلهم العرب على شعوب أخرى .. والبقاء، وهم يسبحّون ليل نهار بالمفاخر والأمجاد ! كنت أتمنى أن يقرأ القوميون التاريخ بدقة متناهية ليجدوا أن مجتمعاتنا العربية لم تجمعها أية أهداف سياسية محددة، بقدر ما جمعتها أهداف حضارية كبرى ! كنت أتمنى أن لا تسرق العروبة بكل معانيها، لتستلب باسم القومية . إن العروبة، ثقافة مشتركة، ولغة واسعة، لها امتداد كبير من الزمن الحضاري ! كنت أتمنى أن تحترم رموزنا، بدل أن تبقى مقدسة في الذات ! كنت أتمنى أن تعاد مراجعة التاريخ القريب لكي يحاكم المهزومون والمهرجون وكل الطغاة والجهلة، ويخرج كل أصحاب الزعامة والفخامة والرئاسة من قاعات التبجيل في مؤتمرات القمة إلى حيث مساءلتهم، عما اقترفوه بحق الناس .. وهل كانت خطاباتهم وأقوالهم وتصريحاتهم تعّبر بصدق عن مبادئ، أم كانت لمآرب أخرى ؟
من احتكر الاخر ؟ كثيرا ما قورنت القومية العربية في مدارسنا التي تعلمنا فيها بقوميات أوروبا بمنتهى الغباء والسذاجة ! وكأننا بيئة مشابهة وتاريخ متجانس، وإذا كان القوميون قد احتكروا العروبة لأنفسهم، فهل ليست لغيرهم عروبتهم ؟ فالقومية ـ هنا ـ تيار سياسي فقط، ولا يمكنها أن تحتكر العروبة كلها، وسواء كانت العروبة على صواب أم خطأ، فينبغي أن يدرك الجميع أن عروبتنا التاريخية القديمة لا علاقة لها بالقومية العربية، مع احترامنا للظاهرة القومية وما قدمته لتاريخ البشرية . لقد أضرّت القومية العربية بثقافتنا، وساهمت في تقسيم مجتمعاتنا على مدى قرابة ستين سنة، وبالرغم من كل الأدبيات التي تتضمن أفكارا مثالية، ورؤى رومانسية، وخطابات ثورية، ولكن التطبيق كان قد جرّ إلى الخراب ..
وأخيرا .. هل من رؤية جديدة ؟ إن العروبة التي توارثتها الأجيال عبر التاريخ، ليست مجموعة أحزاب قومية كالتي عرفناها على الساحة، قد استلت أفكارها، ونصوص بياناتها، وبنود أنظمتها الداخلية، ومسرد خطابها من القوميات الأوربية ! لقد تربينا وكبرنا على أناشيد قومية، وشعارات قومية، وبيانات انقلابات قومية، وخطابات رائد القومية .. وفجأة ينتهي ذلك المد الطاغي الذي وصل الحد أيام غطرسته أن يذهب المرء إلى الجحيم إن انتقد بعض ممارسات بشعة قام بها ضباط مستهترون، أو حزبيون مناضلون، أو مصفقون ومهرجون !! لقد بات القوميون اليوم ـ كما يظهر ـ يهربون من استخدام القومية العربية، أو القوميين، أو الجماعات القومية .. ليلبسوا لباس الدين، أو يتشّحوا بالعروبة، وكأن قوميتهم العربية قد أصبحت عتيقة مكسّرة لا تقوى على الحياة! ولكنها مجرد سنوات ويرحل هذا الجيل الذي صفق للأحلام ليترك الساحة إلى مهرجين جدد يصفقون للأوهام ويا للأسف!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |