السخرية والأدب الساخر..!

 

باقر الفضلي

 bsa.2005@hotmail.com

" السخرية..ذروة الألم..!"

محمد الماغوط

السخرية في الأدب والسياسة، هي من الموهبة والإبداع، التي قلما يتهيأ لأي كان من الكتاب أن يمتلك ناصيتها؛ فكونها من فنون الأدب الرائع، إذ تسمو في جذالتها وسلاستها سمو القصيدة  النابعة من أعماق المشاعر الإنسانية والروحية لقائلها..!

إنها تعبير جمالي وجداني خالص، يعكس وجد الإنسان وألمه وحزنه وآماله من داخل واقعه المعاش. تعبير يرسمه القادر المتمكن المبدع، صوراً وأشكالاً وصياغات أقرب في إنعكاساتها من الحقيقة، إن لم تحاك الحقيقة بشكلها الدراماتيكي، لتجسد حالة رفض ممزوج بكل جراح الألم وسياط العذاب وخيبات الأمل والإغتراب..!؟ 

فتبدو في مظهرها كوميدية المشهد، وفي تأثيرها مضحكة الوقع، ولمن تعنيه أشد من الموت الزؤام.. إنها من أشكال النقد الواعي الممزوج بالإحساس الفطري المتجذر في أعماق الشعب المهموم والمستضعف..!

لقد عبر الكاتب الأستاذ حسين الراوي مترجماً حالة الكاتب العربي الساخر بجميل الكلام حين قال:

 "ساهمت الأنظمة العربية القمعية بأجهزتها ومخبريها وسياطها وسجونها وأصفادها وتخلفها في ظهور فن الكتابة الساخرة وانتشارها في الوطن العربي، ولا مبالغة لو قلت أن كاتبا عربيا واحداً يكتب السخرية الحقيقية يعدل كل كُتاب أوروبا الساخرين، لأن الكاتب العربي يذوق مُرّ الخيبات والخذلان والانكسار والضعف كإنسان عربي ليل نهار من المحيط إلى الخليج، ولأن سياسة القهر وتكميم الأفواه والطبقية والمحسوبية وضياع الحقوق كلها صقلت الكاتب العربي، وبالذات ذلك الكاتب الذي راح يغمس رأس قلمه في قلب وجعه ليكتب سخريته بألوان حزنه وألمه وضيقه وشتاته، وصدق الماغوط حينما سُئل ذات مرة عن ماهية السخرية ؟ فأجاب: «إن السخرية هي ذروة الألم».(1)

فلا عجب أن نلتقي بين الحين والحين، بكتابات لكتاب مرموقين في قدراتهم الكتابية والأدبية، وهم "يمتطون صهوة" السخرية، ملتجئين للأدب الساخر، تعبيراً عن شدة ما يعانوه أويقاسوه من واقع معاش، تعجز فيه الكلمة المألوفة، وقدرة الكاتب الإعتيادية عن الوصف، فتبدو كتاباتهم للبعض من القراء، شديدة القسوة،..جارحة..  غليظة الكلام، حتى لو أنها رسمت صورة كاريكتيرية عن ذلك الواقع، أو أن النقد الذي يتعاطوه تلبس على شكل تلك الصورة..!

 فالسخرية أو الأدب الساخر ووفقاً لما يحاول الأستاذ حسن الراوي توصيفه فالكتابة الساخرة كما أوجزها:

 [[" تعتبر الكتابة الساخرة الواعية من أجمل أنواع الكتابات وأصعبها بلا شك، فالسخرية الحقّة هي قمة الإحساس بأهمية الأمر، وهي الضحكة المُرّة بوجهٍ باسم، وهي الشعور الحزين بثوب متفائل، وهي المعبر الكبير نحو الأمل رغم زيف الضحكات. لن تكون الكتابة الساخرة كتابة جميلة إلا بتمييز الكاتب الفرق بين السخرية المسؤولة الواعية ... وبين السخرية لمجرّد السخرية ولمجرّد الاستنقاص من قدر الآخرين والتجريح بهم. الكتابة الساخرة تريد من الكاتب قبل ارتكابها أن يمسك في يده مشرطاً لا قلما، حتى يكون دقيقاً في سير سطوره، وحتى يتسنى له أن ينتقل من فقرة لفقرة بخفة وسهولة، وحتى يتوّجس بمشرطه أين يكون مصدر الألم. يظن بعض الكُتاب للأسف أن الكتابة الساخرة هي مجرّد التهريج بتوافه الأمور، والتجريح بكرامة الآخرين، وتعاطي كلمات ومصطلحات سوقية عدة عبر كتاباتهم! لا، إن الكتابة الساخرة لا يُجيد قيادتها كل كاتب أراد أن يمتطي صهوتها إلا من كان فعلاً ذو روح ساخرة حيث أن فاقد الشيء لا يعطيه، وهي أرفع قدراً من التجريح والتهريج، لأن السخرية الواعية المسؤولة هي أداة من أدوات التوجيه والنقد، ولا شك أنها تضع الإصبع فوق الجرح، وتبين مكمن الضعف والخلل، ولكن بشكل وأسلوب غير مباشر."]]

 او كما عرفه الكاتب الشاعر الاستاذ حسن السبع بأنه:

 [[" هذا الأدب بمزج المرارة بالدعابة لتخفيف عبء التوترات وتلطيف حمى الانفعالات النفسية المرهقة، وأنه جد يرتدي حلة الضحك، كما أنه الهزل المقوِّم لما اعوج من طباع، وشذَّ من عادات، وانحرفَ من ممارسات." ومن الأمثلة التي ساقها الكاتب عن الأدب الساخر إشارته الى:

 "أمثلة من الأدب الساخر أوردها الأستاذ السبع في مواقف سجلها التاريخ بقديمه وحديثه على المستوى العربي والعالمي، كما استعرض مجموعة أسماء لأدباء هذا الفن عبر العصور، معرفا بهم بشكل مختصر، وقارئا لنماذج من أدبهم، ومنهم الجاحظ وعلي بن سودون البشبغاوي في العصر القديم، وموليير، وجورج برنارد شو، وماركت ون، وعبد الحميد الديب، وحسين شفيق المصري، وجورج جرداق في العصر الحديث."]](2)

 كما وأن الأدب الساخر على حد قول الكاتب الأستاذ عبد الله بن بجاد العتيبي هو:

 [[" تراث بشري تناقلته الأمم وتوارثته الأجيال وأنس به البشر طوال عمارتهم للأرض، فلا يكاد الباحث يجد أمة لم يكن لها تاريخ في الأدب الساخر وشخصيات ورسومات وأشعار وأخبار، ذلك أن النفس البشرية في تركيبتها تسعى إلى البهجة وتبحث عن السعادة والترويح، والأدب الساخر بكافة أشكاله وتجلياته يمنحها من السعادة الشيء الكثير ومن البهجة ما يشرح خاطراً ويزيل هماً."]]

 وكي لا يذهب المرء عميقاً في تأريخ الأدب الساخر، يمكن فقط الإستدلال بما أورده الأستاذ العتيبي كمؤشر على ذلك ، حيث وكما أشار، فإن : [[" الأدب الساخر يحمل في العادة رسالة أقوى من الكلمات الجادّة ويصل لغايته بطريقة أسهل وأيسر، ويتناقله الناس بناء على إعجابهم بجماله وذكائه ومهارته وخفته، فهو مركب بالغ التأثير في إيصال الأفكار وتوجيه المجتمعات. في التاريخ العربي تراثٌ مثير من الأدب الساخر يمتد من عصر الجاهلية حتى يومنا هذا مروراً بالعصر النبوي فالراشدي فالأموي فالعباسي، تناقلته الكتب بشتى تصنيفاتها، وكتب فيه جماعات من العلماء، منهم الأدباء والفقهاء والمحدِّثون وأهل الكلام والفلاسفة."]](3)

 لو راجع الكتاب العراقيون تأريخهم القريب وعلى مدى القرن الماضي على أبعد تقدير، لوجدوه زاخراً وعلى كافة المستويات والشعبية منها خصوصاً، بتراث من الأدب الساخر ؛ الشعبي منه والفصيح، وبأشكال مختلفة بدء من النكتة والأمثلة الشعبية والكاراكاتير وإنتهاء بالقصيدة. وهو يجري على الألسن مجرى الماء في السيول، ولعل من الملاحظات الجديرة بالإنتباه، أن هذا النوع من الأدب وبمختلف أشكاله، قد أصبح اليوم، وخاصة خلال العقود الخمسة الأخيرة من السنين وبالذات بعد الإحتلال/2003، من السمات الأكثر شيوعاً لمجمل الأدب العراقي على الصعيدين الشعبي والفصيح..!

 وكون الأدب الساخر ظاهرة ملموسة اليوم، على صعيد الصحافة والإعلام عموماً وصفحات الإنترنيت بالذات، فهو في الحقيقة، يمثل إنعكاساً لحالة الخراب النفسي والإقتصادي والإجتماعي، التي طالت المواطن العراقي، ممزوجة بفقدان الأمن والأمان، وضبابية التكهن بالمستقبل..!

 وعلى حد قول الأستاذ العتيبي :

[["كان الأدب الساخر في تراثنا العربي والإسلامي يتناول كافة شرائح المجتمع، لا يفرّق بين متديِّن وغيره، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين فقيه ومحدِّث، ولا بين شاعر وناثر، الكل كان يخضع للسخرية والنقد من قبل أقرانه أو خصومه، ولم يذكر عن أحد منهم استنكار ذلك أو التشنيع على كاتبه أو قائله، فضلاً عن الهوس المعاصر بتفسيقه أو تكفيره."]]

 خلاصة القول، فإنه ليس في الأدب الساخر والسخرية بالشكل التي بدت عليه صورتها فيما تقدم، ما يسيء لأحد سامعيه أو قرائه، ولا ينم منه ما يجرح النفس، طالما لم توجه سهامه الى ما ينتقص من شخصية السامع أو المتلقي بالذات، وهو يدخل من جانب آخر في إطار حرية التعبير عن الرأي سواء بالنقد لرأي الآخر  أو بالكتابة المباشرة، وهذا عادة ما تكفله دساتير الدول الديمقراطية..! 

__________________________________________________

(1)  http://roo7.net/index.php?news=108

(2)   http://www.thulatha.com/?act=artc&id=425  

(3)   http://www.alarabiya.net/save_print.php?print=1&cont_id=28128

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com