|
موت النميري
نبيل يونس دمان غادر جعفر محمد النميري هذه الدنيا مؤخرا ليواجه حكم ربه، جراء ما ارتكبه من جرائم بحق شعب السودان، وما الحالة التي يمر بها، الا مخلفات ذلك العسكري الأرعن الذي ماثله في القسوة والشدة: بينوشيت في شيلي، سوهارتو في اندونيسيا، موبوتو في الكونغو، فرانكو في اسبانيا وغيرهم ممن عجت بهم ارض الله الواسعة في العقود الماضية. بعضهم بدأ حياته وطنياً مخلصا وديمقراطيا متدربا، ثم انحرف بعد انفراده بالسلطة من امثال عبد الكريم قاسم في العراق، ومحمد سياد بري في الصومال، وهذا المقبور ايضا بدأ هكذا، ووصل الى السلطة في ايار عام 1969 بدعم من اليسار السوداني، الذي اعتز به واعتبره رديفا لليسار العراقي، ذلك ما دعاني لكتابة هذه الاسطر التي هي مراجعة، وقد تنفع الذكرى. النميري انحرف وتحول الى جلاد، أججّ مشاكل السودان الاقتصادية والسياسية والعرقية، مما حدا برتب عسكرية متواضعة، من بينهم الرائد هاشم العطا الذي هو اشبه بالبطل حسن سريع في العراق، ان تطيح به يوم 19- تموز 1971، ولكن بعد ايام قليلة عاد النميري محمولا الى السلطة في قطار الرجعية العربية، منهم حكام السعودية الذين اسقطوا طائرة كانت تقل معارضين سودانيين من العراق، وليبيا التي اجبرت طائرة اخرى عائدة من اوربا للنزول في مطارها ومن ثم تسليم الشخصيتين البارزتين: با بكر النور و فاروق حمد الله الى الجزار ليعدمهما، اما مصر السادات فقد جندت كل امكاناتها لمعونة النميري، لعل اهمها ارسال الضباط السودانيين الدارسين في كلياتها العسكرية الى السودان ليسهموا في اعادته الى سدة السلطة، وقد روى النميري بعد استتباب الامور لصالحه، قصة مشكوك فيها، بانه قفز من جدار عال في سجنه، ليجد نفسه خارجه. مارس كأي متعطش للدماء هوايته في ازهاق ارواح خيرة ابناء الشعب السوداني وفي مقدمتهم هاشم العطا، عبد الخالق محجوب، شفيع الشيخ احمد، بابكر النور، فاروق حمد الله، وجوزيف قرنق وغيرهم. واصل النميري قمعه واضطهاده لشعب السودان وطلائعه المخلصة لسنوات مديدة لاحقة حتى عام 1985، وعندما كان خارج البلاد، اجتاحت الجموع شوارع العاصمة وهي تهتف" صائع، صائع، وشعبه جائع! " ثم سقط نظامه على يد عسكري شريف اسمه سوار الذهب الذي سلم السلطة بعد فترة قصيرة للمدنيين. آثر النميري البقاء في مصر حتى عام 2000 ليعود الى السودان في ظل حكم البشير، حاكم السودان اليوم، وهو اصولي، قبلي، معتد بنفسه، والمسبب لمعاناة الملايين سواء في غرب البلاد( دارفور) او جنوبها او برمتها التي تشمل النوبة وبحر الغزال وكردفان وام درمان، والذي اصبح رئيسا في غفلة من الزمن، وكأي قمعي اخر ليس باستطاعته ترك كرسيه بالطريق السلمي الديمقراطي، حتى مشارف القبر!. عندما كنت اعيش على ارض جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الثمانينات من القرن الماضي، استنسخت بخط اليد قصيدة جميلة لشاعر سوداني كتبها عام 1972، يسعدني ان انقلها للقراء الاعزاء: طبلان واحدى وعشرون طلقة ل 19 يوليو الشاعر كمال الجزولي الطبل الاول: الشعرُ الليلةََ مطرُ الدم، رعّافٌ يهدرُ في الفم، صخّاب ظهرُ أبن، وخصيبٌ رحمُ الأم. فلنشعل نارَ الدوبيت إذن، ونوقِّد جمرَ النمْ ولنفرد اجنحةََ التم تم. ولنعرض ببنادقنا وسط الاخوات. الطبل الثاني: اجيدُ القولَ الليلةَ في المسحوقين. في الناس الغبشِ على طولِ السودان، وكل بيوتِ الطين في المارد في وثبتهِ. القابضِ جمرِ الحقِّ، الشامخِ في وقفتهِ، ينداحُ زمانُ الزهوِ، القولَ الليلةَ في قوتهِ، وبطولتهِ، وافاخرُ بالتاريخِ، والصولاتْ. الطلقة رقم (1) امتطت الريحُ الصهوات ترجَّل قرصُ الشمسِِ وأحنى النخل الهاماتْ سقط العقربُ فوق العقربِ... كان اليوم التاسع عشر دقّاتُ الساعةِ رنّت اربع مرات الزمن الاول. الزمن الثاني. الزمن الثالثُ... والزمنُ الرابع الزمن الوهجُ، الزمن المازوتُ، الزمن الغائر بعد الظهر الزمن النسرْ... اندفع الى الاضلاعِ، الى الاعراقِ، الى الحدقات. لما جلجلَ ساحُ القصرْ، واندفع الصحوُ يرشُّ الفرحَ المجهدَ في الطرقاتْ الطلقة رقم (2) هذا فجرُ العيدِ تدلى في الافاقِ مشانق. الباشق حلّقَ في اثرِ الباسق وتهاوى النجم رواشِق. الطلقة رقم (3) آتون الساعةَ في" الهبباي" في الوهج الغاضبِ في حقد" خماسين" في طمى النيل الخالق في نارِ التكوين في قمةِ" كررى" من" حيدوب" من" التاكا" من" مرة" آتون آتون من العلوِ السامِق آتون كما الومضِ البارِقْ ......... مرحبْ... مرحب الف حبابك... عبد الخالقْ الليلةََ اطفالُ السودانِ على طولِ الطرقات، ينتظرون قدومكَ. بالحلوى... بالرايات الحُمرِ... وبالباقاتْ... اطفال السودان المجروحوا الحدقاتْ، يا عبد الخالق، من ولدوا ليلَ الثامنِ والعشرينْ، من يوليو عام الغضبِ الحارقِ، ينتظرون على طول الطرقات... بالحلوى، بالرايات الحمر، بالباقات.ِ الطلقة رقم (4) " قلب الشاعر شاهد" قالوا في الحكمةِ.. في امثالِ الناس وانا ينهالُ القلقُ عليّ، الواحد بعدَ الواحد... اعرفُ هذا الإحساسْ، داهمني في القرن الماضي عند سقوط الخرطوم داهمني في كل زمانٍ يصدحُ في اعصابي كالاجراسْ اعرف هذا الاحساس .......... موسكو تتلفح كانت. تلك الساعةََ. بالمغربْ والشفقُ الاحمرُ ليس دماً، الشفق الاحمر بحر نبيذْ، وانا.. والراديو لا نتعب، لا يغشانا النومْ، اعرف هذا الاحساس ........ يا ريح البشرِ القادمِ يهزجُ بالاعراسْ حدثني، كيف اجتزتَ الىَّ الارصفةَ... ... المكتظة برجالِ الدركِ... ... واسلحةِ الحراسْ وكيف ركضتَ على الطرقات... وفضت على الساحاتِ... وطرقَ خفيفاً، حين اردتَ، خفيفاً عبر عيون الناس ......... اعرف هذا الاحساس، داهمني في القرن الماضي عند سقوط الخرطوم داهمني ... داهمني ... داهمني ... و ... بركانُ القلقِ تفجرْ، هطلَ الشدو من الرئتين، ... تحدّرْ، فوقفتُ اغني.. عاري الصدرِ.. وحافي القدمينِ، وبهورَ الانفاسْ! الطلقة رقم (5) من هذا القادم؟ من هذا الفارعُ كالنخلةْ... الاسمرُ... حقل الكاكاو القاتمْ السيف المصقولُ الصارِمْ والدرعُ الفاحمْ؟ ذلك هاشم، ذلك هاشم! الطلقة رقم (6) وتحدّرَ صوتُك عبرَ المدنِ المسروقة. أش ، شطّث النيلِ، ودوّى في الحاراتِ المسحوقة: العزهْ... للعمالْ لعبيدِ الارضِ، لكل جريحٍٍ وشَّحَ دمُهُ " بيتَ المالْ" لكلِّ عريسٍ اوقدَ ناراً ثم مضى في اكتوبرْ وكل شريف في كوبرْ، ولتذهب لجهنم حنجرةُ الزيف المخنوقةْ! الطلقة رقم (7) زغرودة امي اعرفها من بينِ ملايين الاصواتْ أُميّزها... بالشرخِ الراعفِ فيها، بالآهاتْ ....... زغرودة امي لكَ وحدكَ هذه الليلةْ وابي حمحمَ مثل الفرسِ الاصهبِ، صال وجالْ، هزَّ السيفَ وانشدَ شعراً كالشلالْ لشفيعِ الناس المقهورين لشفيعِ الموجِ الاولِ، في بحر العمال، من هدروا خلفك ظهر الثاني والعشرين، جاءوك الليلة من جودة من ورش الصهر، التريم، الوابوراتْ جاءوك على مرِّ الاجيالْ، فتعال، تعالَ، تعالْ اهلاً بك، اهلاً الفينْ... ان لم يحملك الراس، اشيلك فوق الكتفينْ... إحضر الساعة، هبّت ريحُ المدْ واجتمع العقد سدّاً يعلو فوق السدْ! ها نحن الساعةَ ننسجُ في عينيكَ وشاحاً.. وجديلةْ، وهلالاً يسطعُ فوقَ جبين الغدْ! الطلقة رقم (8) زحفتُ على اسلاكِ التلفون، وطرتُ مع الريحِ، مع الرعدِ، مع الحقد الملعون وسبحتُ سبحتُ سبحت انا، حتى انقطعت انفاسي بين الاسودِ والمتوسط وركضت... ركضتُ ... ركضت كما الفرس المطعون يا امي، وعبرت النيلَ اليكِ، وعند الشاطئِ كنت ارى. .. ما ابشعَ ما كنتُ اراه.. كتشز يعود بخوذته الحجرية. وجنوداً بصديدٍ في الصدرِ وقحلٍ في الافواه، وانا اركض يا امي فيكِ ألملم تاريخي، اخترتُ المدفع كي احميك اركضُ اركضُ مثل الفرس المطعون، لكنيَّ الطاعون، اجتاح عروقي تلك الليلة يا امي اوغلَ في عينيكِ، كتشزُ، الطاعونُ ما الغدرْ، الخوذات الحجريةْ، جاءوا يا امي من كل حقول النفط، الذهب، ومن شطِّ الابيض، والاحمرِ من عمق الصحراء الليبية، مكبوتْ، نهضتُ وحين رفعت الراس اليكِ وجدتكِ يا فرحي، شامخةً انتِ، كما انتِ، كما النارِ الخالدةِ الاسطورية! الطلقة رقم (9) الكوكب مختلُ العقلِ الكوكب مهرٌ جمحَ فدارَ، ودار. وسقط على الوجهِ فما انهكه الاعياء وانا ارجو يا كوكبنا لو اوهب مقدرةً لأعيد على وجهك ترتيب الاشياءَ، لكن... ولاني لست بساحرْ، ولاني لا املك غير المزمار الثائر، سابقى.. معذرةً..انفخُ في رئتيك اناشيدي حتى تنهضَ من هذا الإغماءْ! الطلقة رقم (10) تحترقُ لهاتي حين اغنيكَ، تلتهبُ العينانْ، يركضُ صوتي، يعلو، يهطل فوق شوارع ام درمان اقسم اني ما غنيت لسلطانْ ما شلتُ الغيبَ، ولا مارستُ العُهر على رئة الطمبور لكني الساعة يا بابكر النور اطلق شدوى. اعزف فوق الجرحِ الغائرِ في صدري اجعل من اضلاعي ربابة يا روحي، وأحلّقُ في انفاسكَ عبرَ عذابات السودن! الطلقة رقم (11) امددْ كفكَ يا فاروق ابشر بالخير ازهر جرحك... بنت القمحُ الاسمرُ فوق جبينكَ.. وفاحَ نزيفُ دمائك في الصحراء وعاشَ خريف، امدد كفكَ، سطح التاريخ على فوهاتِ بنادقنا يا قلبي الراعفَ شبَّ على حدِّ السيفْ! الطلقة رقم ( 12) باعوا الغابة يا جوزيف! باعوا المانجو الناضح والنئَ.. باعوا البقرةَ والباباي والرمحَ وبوق العيدْ.. باعوا كلَّ طبولِ الصيد يا جوزيف.. وسحر بقائلنا، وثنَ الابنوسِ، وسنَّ الفيل، والكوخَ الناتئَ، والامطار، وكل تماسيحِ النيلَ باعوا الفيضان، واثداء الفتيات الابكار، والماعزَ، والابقارْ، يا جوزيف، باعوها لإله السوق القادم، من كل فنادق اوربا من كل عصورِ الزيفْ، بالوسكي، بالموهير اللامعِ، بالدولار، برباط العنقِ، بالدبوسِ الذهبيِّ، وبطاقات ال( س. آي. أي) وختم الماس ....... لكنّّ الناسْ! لكنَّ الناسْ! الطلقة رقم ( 13) اجمل اطفالِ السودان لم يولد بعد، احلى زهراتِ الغدْ ما نبتت حتى الان لكنّا نقسم بالايمان ان الاشجارَ ستطرحُ اطفالاً لم تشهد اجملَ منهم عينانْ، فالسلطان... عقولٌ من قشْ والعرشْ... قنبلةٌ تحت السلطانْ! الطلقة رقم (14) ابق مكانك يا عثمان يقترن الابيضُ بالازرقِ في جرحكَ فافتح جرحكَ للآخرْ، يتلاقى حرس القصرِ بغضب الشارعِ في جرحكَ فافتح جرحك للآخرْ يا سيفَ الصاعقة الباترْ لا وقت الليل للاحزانْ لا وقت الليل للاحزانْ! الطلقة رقم (15) عيناك الجمرْ، يا ود الريَّحْ... كتفاك قلاعُ النخوةِ، والفخرْ، انشدُ- هَّنذا. في مدحكَ انشد للماضي والحاضر حين اعتنقا لمّا وثبَ" الماظ" بمدفعهِ، فتهدمَ فوقك مستشفى النهرْ! الطلقة رقم ( 16) زينَ الفرسان... سلاماً ود الزين زين الشرفاء المأزومين، اشعل قنديلك يا شبلَ الاهوالْ مهيرة امي تنظم فيك عقود المدحِ الليلة اختي صاحت وسط الساحة بالشبالْ فالبرق القبلى شالْ، يا ود الزين، وعِرق العزةِ وهّوه عبر الاجيال! الطلقة رقم ( 17) ما كنت جميلاً يا وطني .. كجمالك ذاك العصر لما فجّرك القهر في بدنى مثل الديناميتِ... وفجّرني! الطلقة الثامنة عشر لا يخشى الموتَ سوى الموتى فارفع قلبكَ للريح، يا عبد الحي.. كقرنفلة حمراء، للريح... لا يخشى الموت سوى الموتى وادلق دمكَ المسفوح ليعطر حارات بلادي ويفوح، يا عبد الحيِّ على المدنِ الميتة فيوقظها.. بيتاً... بيتاً! الطلقة رقم ( 19) حارٌ دلوكَ يا" حاردلو" حارٌ دلوكَ يا ولدي، صنى لهب الرفضِ. ونيرانِ التجديدْ. ولهذا انت ستعلو، دوماً كالبيرق تعلو وستضفر من شريانك قوس النصر صباح العيد! الطلقة رقم ( 20) عبد المنعمِ طبلُ العزِّ نحاس الغبرة عبد المنعمِ جيل الفورة، قل للباشا كنت غشيماً إذ صدّقتَ سراب النصرِ فنحنُ رضعنا قبل اللبنِ دماءَ الثورة! الطلقة رقم (21) فقأوا عينيَّ وكسروا يا وطني مزماري، منعوا عني ضوء الشمس، لكن... لا بأس، فانا اعصابي.. اوتاري، وساحفر كلماتي- ان كسروا قلمي- فوق جدارِ السجنِ باظفاري!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |