|
الارتداد والاعتدال
محمد علي الحلبي في كتاب البصائر و والذخائر لأبي حيان التوحيدي يقول فيه: " الحكمة ضالة المؤمن وعند من رآها طلبها والحكمة حق والحق لا ينسب إلى شيء بل كل شيء ينسب إليه, ولا يحمل على شيء بل كل شيء يحمل عليه، رأس الحكمة مخافة الله. احتوتني روائع هذه الكلمات بكليتي فرحت أطوف في مراتعها طواف الناسك المتعبد لعمق معانيها وكثرة وشمولية مضامينها فمن أسماء الله الحسنى الحكم والحكيم و الحق، وديمومتها باقية لا نهاية زمنية تحدها كانت أبداً عبر التاريخ وباقية الآن وستظل سرمدية الوجود والتحقق، مستمدة أزليتها من الله جلت قدرته، وطوافي تزايدت وتيرته، وأنا أسمع و أرى أخبار أمتنا العربية فبعض أنظمة الردة والارتداد والاسم يليق بها والتي سميت بهتاناً بالاعتدال تبدى في أعمالها أ- الإسهام في حصار الأهل والمناضلين المدافعين لا عن الحق الفلسطيني فقط بل عن كل حق عربي هضمته (( إسرائيل )) وما زالت تتابع ابتلاع البقية الباقية، لقد حرموا من أبسط الأسلحة التي تحميهم أمام عدو مدجج بأحدث تطورات الأسلحة بل ازداد الحرمان شدة ليصل إلى الغذاء والدواء، وممن ؟!.. من الأعداء ومن يجاريهم من أنظمة رسمية ينتسبون ظلماً لأمتنا العربية والأمة منهم براء إنما الثابت وفي كل الاعتبارات أنهم لطخات عار وتشوهات عابرة في الجسد العربي . ب- عشنا ردحا من الزمن وقرأ بعضنا الكثير الكثير من حكايات وقصص التاريخ وكان آخر ما يخطر بباله أن يحكم على من يمدون هؤلاء المناضلين بالمعلومات لمساعدتهم في نجاح عملياتهم - مثار عز الأمة ومفاخرها والدفاع عنها - والتهمة كانت(التجسس لحساب حماس). جـ- وللتغطية على الجرائم غير المألوفة وغير المعهودة تفتحت أذهان بعض السياسيين عن ابتكار وجود خلايا منظمة - لحزب الله المقاوم الذي هزم العدوان الإسرائيلي - مهمتها الجديدة إحداث قلاقل بأوضاع بلدان عربية والكل يتذكر ففي الأيام الأولى للعدوان على لبنان اتهمته أنظمة الردة ذاتها بالمغامرة غير المحسوبة وخاب ظنهم وتاهت حساباتهم فقد عزز الله القدير من قوتهم ونصرهم . د- الحصار والتآمر والتذلل للأعداء وخدمتهم مازالت كلها مستمرة. وردتهم أشد تنوعا وأقسى سبلا من الردة الأولى زمن الخليفة الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم و تبدو جلية واضحة لا لبس فيها لأنها مخالفة لكل الشرائع السماوية وحتى التشريعات والقيم الإنسانية والسلوك البشري العام خلال مراحل التاريخ بكامله ففي كتاب الله جاءت الآيات الكريمة جلية واضحة لا تحتمل التأويل، في سورة التوبة الآية 111 قال تعالى : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يُقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " والوعد جاء في الكتب السماوية كافة، وفي سورة الحجرات الآية 15 يحدد الله صفة الصادقين بقوله : " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون " والله العليم سابق الجميع في علمه والمدرك لأحوال من خلقهم ينبه إلى عدم بدء الحرب فيقول جل جلاله : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " البقرة الآية 190 وهو القائل " يأيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " بل ويضع الضابط لمنع البدء والتمادي في الحروب وارتكاب الآثام فيقول جلت قدرته في كتابه العزيز : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " وكل التفاسير للآية الكريمة تؤكد على أن الرهبة هي الإخافة و التخويف ضماناً واحتساباً لدرء الخطر وعدم الاعتداء، وذات المنحى نحته معاجم اللغة العربية والرباط يعني الوقوف عند الثغور لحماية الأهل والبلد وليس ما انصرفت إليه بعض الشروح المضللة الحديثة عن " الإرهاب " وبذا يكون الإسلام الرائد في التمييز ما بين الصراع من طرف والقتال والحرب من طرف آخر لقد أصبح من المعروف أن المصالح المتناقضة تقود إلى صراعات دائمة تأخذ أشكال عدة سياسية، اقتصادية، ثقافية، وإعلامية ويبقى الصراع في حالة ثبات إلى حين اختلال يصيب أركانه فيتحول فوراً إلى القتال والحرب والرباط عند الثغور وإن كان يردع المعتدين لكنه يقاومهم أيضا ويتصدى لهم عند بدء حربهم ولذلك فالرسول العربي صلى الله عليه وسلم حض على الجهاد ضد الأعداء لأنهم المسببين للنكبات والآلام فقال : " من مات دون أرضه فهو شهيد ومن مات دون دينه فهو شهيد ومن مات دون عرضه فهو شهيد " وذروة وقمة الإنسانية تظهر جلية نيرة في قوله تعالى : " وإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً " سورة النساء الآية 90 وفي الحديث القدسي تتجلى روعة الرسول القائد في قوله " جُعل رزقي تحت ظل رمحي فكانت حرفته الجهاد " وقال أيضاً " إن الله يحب العبد المحترف و يبغض العبد الصحيح الفارغ " وكتاب الرياض النضرة ينقل عن الخليفة الأول أبو بكر الصديق قوله " لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم البلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم " – ومن كتاب جمهرة العرب – فالخليفة علي بن أبي طالب قال في خطبة له " أما بعد فإنه من ترك الجهاد في سبيل الله وأدهن في أمره كان على شفا هلكة إلا أن يتداركه الله بنعمة فاتقوا وقاتلوا من حاد الله وحاول أن يطفئ نور الله . وعن التشريعات التي صاغتها البشرية واعترفت بحق المقاومة الوطنية ضد العدوان فقد تضمنت اتفاقيتا لاهاي عام " 1899، 1907 وفي المادة الثانية من اتفاقية عام 1907 تعريف جماعات المقاومة " بأنها الشعب المقاوم أو المنتفض في وجه العدوان، والحرية أساس في القانون الدولي وانتهاك الحريات واحتلال الأرض يفرض قيام المقاومة والفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة أجازت الرد العسكري في حالة الدفاع المشروع عن النفس إذا ما تعرض البلد لعدوان مسلح بينما المادة 51 اعتبرت أن للدول بشكل فردي أو جماعي الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس إذا ما تعرضت لعدوان مسلح، وحتى كتلة عدم الانحياز في مؤتمرها " بباندونج " وبتاريخ 10 تشرين الثاني - نوفمبر - عام 1975 اعترف قرارها بشرعية كفاح الشعوب من أجل الاستقلال، والبيّن والجلي هنا التأكيد على حق الدول فردياً وجماعياً بالدفاع عن نفسها إذا ما تعرضت لعدوان رغم كل التفسيرات الجديدة للدول الاستعمارية التي تقصر الحق على الدول فقط دون الشعوب ودليلنا القديم أيضا مساندة وزير الخارجية الأمريكية جهود المقاومة التي تعمل في ألبانيا ففي كانون الثاني عام 1932قال يومها " إذا كانت مختلف الفلسفات القانونية تكرس حق الشعب في أن ينتفض ضد حكومته فالمنطق يقود من باب أولى إلى الاعتراف بحقه في الثورة على قوة غريبة تحتل أرضه " والولايات المتحدة الأمريكية كانت في تلك الأيام من الداعمين لحركة المقاومة الفرنسية بقيادة الجنرال ديغول في عام 1943 التي اعترف أقطاب العالم بها حينها, وهم بريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفيتي تحت اسم فرنسا الحرة . وفلسفة التاريخ وضعت قاعدة تقول المصالح تقود الأمم إلى الصراع مع بعضها سيما الإقليمية ويشتد هذا الصراع وفي مرحلة الخلل في توازن القوى سيما العسكرية منها يكون العدوان ويكون الاحتلال والجلي هنا والواضح أن ميزان القوى وفي جميع الحالات يميل لصالح المحتلين بينما تكون إمكانات المحتلة أراضيهم ضعيفة وضئيلة و يلجاوؤن الى المقاومة طال أم قصر أمدها لتنهي الاحتلال وتعيد الكرامة لأمتها . هي سنة الكون ولا تغيير لها فلم نسمع أو نقرأ أن المفاوضات السياسية - وهي فن الممكن - تسبق النضال الكفاحي - وهو فن المستحيل – أو توازيه مع بدايته بل تصعّد الشعوب من عملياتها الكفاحية لتحقيق القدر الأكبر من التكافؤ النسبي مع العدو أملاً بأن تحمل معها إلى طاولات المفاوضات قدراً كبيراً من الأوراق الضاغطة فالكل على قناعة تامة أن استجداء المشاعر والعواطف لا يغير من الأوضاع شيئاً بل يزيدها تراجعاًُ وتردياً، والمتسولون لا ينالون إلا ما يسد رمقهم، مؤجلاً أيام رحلتهم الأبدية الأخيرة مراحل لا يطول أمدها تلك هي السمة الرئيسية للئام البشرية وآثامهم ومنهم الغزاة والمحتلون الذين يقدمون الفتات لمحتاجيهم . وفي هذه الأيام التعيسة حيث عمد البعض إلى تغيير المفاهيم إلى عكس ما تآلفنا عليها وألفناها بل وتجرأ آخرون إلى تمويه سبل الحق ومحاولات تضليل الشعوب فكانت الصحوة بنظر بعضهم السير في دعم المحتلين لأنهم كانوا " في غفلة من أمرهم " عندما دعموا المقاومة وباتت الجرأة في محاباة الأعداء والسير في ركابهم لتحقيق أمانيهم (( اعتدالاً )) بينما التصدي لهم بات إرهاباً وتستمر محاولاتهم في ممارسة كل أنواع الدناءة والتشوهات ضدهم بكل المجالات لتعمية الأهل و مؤيدي طلاب الحقوق الذين باتت ديدنهم وقبلة وطنيتهم، لقد مضت سنوات على حصار أبناء غزة قطع عنهم الدواء و الغذاء وترك من دمرت منازلهم إبان العدوان الأخير ليعيشوا في الخيام أيام الشتاء القارس لحين الاتفاق على من يشرف على البناء ويتكسب سياسيا من بؤس المناضلين في فلسطين بل مما زاد الطين بللاً لا بلة الترويج لتبديل أولويات الصراع في المنطقة، و جديد ما تفتقت عنه العبقريات الإيهام بالخطر الإيراني ضاربين عرض الحائط بما اتفق عليه نتيجة معاناة قاسية لأكثر من نصف قرن وعرف بالصراع العربي الإسرائيلي غير مدركين ومميزين بين العداوة وبين من ننازعهم ونخاصمهم الرأي وبعض المصالح، وأغرب من الغرابة نسيان أن الثورة الإيرانية ويوم انتصارها أغلقت سفارة إسرائيل وأعطتها للفلسطينيين ومنظمة التحرير، والعداء ما زال مستمراً وفي تصاعد لرفع حدود احتمال اشتباكات عسكرية وضرب مراكز تخصيب اليورانيوم مستندين في ذلك الى ... أ- الإيهام والتخويف من الخطر الإيراني النووي المتوقع الوصول فيه الى السلاح النووي، وفي الآونة الأخيرة كثر ترداد الحديث عن بدايات توافق عربي إسرائيلي ضد إيران، جاء ذلك على لسان نتياهو رئيس وزراء العدو بعد لقائه بمسؤولين عربيين في تصريحه لوسائل الإعلام عن توافق معهما غير مسبوق, ولم ينف أحد ما قاله . ب- في الشهر الحادي عشر من العام الماضي نُشرت لي دراسة تحت عنوان " توقعات في عهد الرئيس أوباما " استندت فيها الى آرائه ومواقفه والعناوين الحريص على الالتزام بها قبل ترشحه وأثناءه وبعد فوزه، مستنتجا والى حد ما الخطوط الرئيسية لما يرغب في تحقيقه خاصة على الصعيد الإقليمي لمنطقتنا ذكرت فيها أنه سيدعم تشكيل كتلة إقليمية في مواجهة إيران وطموحاتها سيما في المجال النووي، ووزيرة الخارجية الأمريكية وبعد اجتماعها الأخير مع " نتنياهو " أعربت عن تأييدها للجهود التي تبذلها اسرائيل وبعض البلدان العربية من أجل تعزيز هذا النهج الجديد المساعد على قيام الدولتين على أرض فلسطين، لكنها استدركت نافية ربط المسارين مع بعضهما، ولتنفيذ هذه التوجهات فالأشد خطورة في هذه المرحلة فقدان بوصلة التقدير عن قصد أو غير قصد في إثارة أمراض اجتماعية تجاوزتها الأمتان العربية والإسلامية في القرن الماضي، والانجراف في تيار النعرات المذهبية والاثنية لأنها الطريق الى خلق صراعات ثانوية جميعنا لا نرغب بها فهي ستؤدي وبالضرورة الى خلخلة الأوضاع الإقليمية والعربية وحتى القطرية والى المزيد من التفتيت، لقد أجج المحتلون للعراق أوار نارها تناسى المنخرطون في معمعانها قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه " فان طاعة الله حرز من أوار نار موقدة " وطاعة الله تظهر بجلاء في توحد المسلمين والعرب أهل الأرض الواحدة ضد كل المخططات المرسومة من قبل اسرائيل وحليفتها أمريكا . الأوضاع في غزة تفاقمت بل تردت إلى أدنى مستوى لها في كل المجالات خلال الحصار الإسرائيلي وتواطؤ نظام رسمي وصمت عربي شامل يشير إلى مدى الانحطاط الذي وصلت إليه الأنظمة في تقاعسها وتخاذلها عن القيام بالحد الأدنى والضغط لفتح معبر رفح والدراسات المتنوعة تظهر مآسي المليون ونصف سكان القطاع، فالعدوان الإسرائيلي والحصار خلفا وراءهما دمارا وآلاما ومازالا، لقد قدر عدد المنشآت المهدمة والمتضررة جزئياً بأكثر من ثمانية آلاف منزل ويبلغ عدد المنازل القديمة الآيلة للسقوط في مخيم جباليا لوحده بـ 300 وانضم 60 ألف عامل إلى قوافل العاطلين عن العمل بحيث بات أكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، و 45 % على الأقل من اليد العاملة لا يجدون فرص عمل تؤمن لهم ولأسرهم الحد الأدنى من الحياة العادية وأغلقت 85% من المصانع المنتجة ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (( أوتشا )) يوضح في تقرير له أن استمرار انقطاع التيار الكهربائي يمكن أن يؤدي إلى الموت الفوري لـ 30 مولوداً في قسم الحضانة بمشفى دار الشفاء الأكبر الذي يستقبل أربعة آلاف مريض شهرياً وحسب تأكيد منظمة العفو الدولية فالوضع في غزة سيبقى صعباً للغاية، والأشد إيلاماً حكاية معن الوادية البالغ من العمر 49 عاماً يعمل ميكانيكي سيارات لم يكن مسلحاً سوى بثياب عمله عندما انفجرت قنبلة أمامه خلال محاولته إنقاذ حياة أحد المواطنين فبترت ساقيه لقد تجمع أطفاله الستة حوله وهو في المشفى ومازالوا يتجمعون في منزله حوله باكين عليه وعلى أوضاعهم، وعائلة المواطنة سعادة حمودة وجهت صرخة للأشقاء العرب و المسلمين قائلة " نحن جزء منكم وندافع عن شرفكم في الأراضي الفلسطينية فكيف تتركونا في ظل حصار شامل يمنع عنا الدواء ويموت مرضانا أمامكم وانتم تنظرون ويقول ابنها عمار عبد ربه بأنها توفيت لعدم تمكنها من السفر إلى الأراضي المصرية للعلاج لان معبر رفح كان مغلقاً . هي صور غابت كل الألوان عنها فتركتها سوداء معتمة تخفي وراء عتمتها صكوك وفاة ضمائر عربية وإسلامية وحتى إنسانية عندما لا ترى الأمور إلا من خلال مصالحها سواء أكانت عالمية أو إقليمية أو حتى شخصية فردية. ولو صدق أحدنا اتهام المقاومين بالمس بأمن بعض الدول وابتكروا واخترعوا فصصاً لاستخدامها لدفعهم بتهم هم منها براء إن أخذنا بهذه المقولات لتوجب سجن الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، فقد قدمت الكثير من شهداء ودماء وتبرعات لمقاومة الاحتلال، في التاريخ المعاصر كان الشهيد عز الدين القسام - الاسم الرمزي للجناح العسكري لحركة حماس - العراقي المنبت هاجرت أسرته إلى جبلة على الساحل السوري، ويُذكر له أنه راح يجمع المتطوعين والمال ليقدم المساندة للشهيد عمر المختار في ليبيا ولم يستطيع أن يوصل له إلا أموال التبرع لأنه لم يسمح للمتطوعين بالمغادرة وبعد عودته بدأ كفاحه ضد الفرنسيين الذين أغروه بمناصب دينية عدة فكان دائم الرفض للتعامل مع الغزاة فحكموا عليه وهرب إلى فلسطين ليلتحق بالمقاومين ضد الانكليز والاسرائلين لكنه وجد حاجتهم الماسة إلى التمويل فأعاد أخاه إلى جبلة ليبيع له منزله مقدماً الثمن لرفاق دربه، وفي معركة مع الانكليز استشهد، ومصر عبد الناصر قدمت الكثير لدعم المقاومة الجزائرية ولكل المقاومين والأحرار . وأسابيع دعم العمل الفدائي الفلسطيني كانت تقام في سوريا وأجهزة الإعلام تنقل أحداثها والتبرعات تنهال على اللجان، المشكلة لهذه الغاية لا من سوريا وحدها بل من الوطن العربي بكامله، وأجمل الصور عل شاشات التلفاز صورة الفتاة الصغيرة التي وقفت أمام الكاميرات لتقص شعرها وتعرضه للمزاد لأنها لا تملك مالا للتبرع به، راوية حكاية قلعة حوصر أهلها ولم يبق لديهم حبال فراحت النسوة يقصصن شعرهن ويجدلنه حبالاً للتغطية على نقص الحبال، وكان النصر حليفهم .........وفي مقال قرأته يقول كاتبه " وفي الحجاز وفي شهر رجب تواترت الأخبار بأن رجلاً مغربياً يقال له الشيخ الكيلاني كان مجاورا بمكة والمدينة والطائف فلما وردت أخبار الفرنسيين إلى الحجاز وأنهم ملكوا الديار المصرية، انزعج أهل الحجاز فراح يدعوهم إلى الجهاد ويحرضهم على نصرة الحق والدين وقرأ بالحرم كتاباً مؤلفا في معنى ذلك، فأتعظ جملة من الناس وبذلوا أموالهم وأنفسهم واجتمع نحو الستمائة من المجاهدين وركبوا البحر مع من انضم إليهم من أهل ينبع وبعض أهل الصعيد والأتراك والمغاربة وحاربوا الفرنسيين في موقعة " انبابة " . هل كل هؤلاء والكثيرون مثلهم عبقت الكتب بأمجادهم ؟ هل كانوا يهددون أمن بلد من الذين حاربوا إلى جانبهم وعززوا قواهم وقوتهم ولأن غزة كانت عبر التاريخ وقبل شق قناة السويس الممر الواصل بين قارتي آسيا وإفريقيا تعرضت لغزو دائم من الشرق والغرب لكنها كانت المنتصر الأخير وشعبها مستمر في بقائه, وعنهم قال أحد المؤرخين اليونانيين ((بوليبوس)) " أعتقد أنه من الصواب والعدل منح أهل غزة الشهادة التي يستحقونها رغم أنهم لا يختلفون بتاتاً عن أهل الشام من حيث البراعة التي أظهروها في العمليات الحربية، فهم مع ذلك يتميزون خصوصاً بالقدرة على رد الفعل وبالتعاضد المتبادل وبالأمانة للكلمة المعطاة، فأهل غزة لهم شجاعة لا مثيل لها ولا يمكن تجاوزها فعلا ففي عهد الغزوة الفارسية (529 – 542 ق.م) حيث كانت عظمة ملكهم ترهب الشعوب الأخرى والجميع يسلمون أنفسهم وأوطانهم إلا أهل غزة فقط هم الذين جابهوا الخطر معرضين أنفسهم لمحاصرة العدو والرد عليه، وعند ظهور الاسكندر المقدوني كان أهل غزة هم الوحيدون الذين جابهوه ولم يتركوا له أية محاولة للنصر، وبعد الاسكندر وعندما غزاهم " أنتيو خس " الثالث حاكم سورية سنة (201) قبل الميلاد قاوم أهلها مقاومة شرسة تصدت لمشروع غزوة فلسطين بكاملها وأخرته لعدة شهور وهذه المقاومة يقول (بوليبوس)) مردها أمانتهم والتزامهم بالكلمة التي أعطوها لبطليموس حاكم مصر آنذاك . وأنهى ذلك المؤرخ قوله (( يجب ان اذكر بكلمات إشادة أهل تلك المدينة جميعاً الذين هم بالسيرة والمبدأ اعتادوا على القيام بأعمال نبيلة ))، وعمر الغزوات قديم ففي القرن الخامس عشر قبل الميلاد قام الملك المصري (تيتموري الثالث) بجعلها قاعدة لجيشه، وكانت من المدن الملكية الخمس في يد الفرنسيين بقيادة الجنرال نابليون بونابرت أثناء حملته على مصر، كما احتلت من قبل الانكليز عام (1917) وضمت إلى المنطقة العربية بموجب قرار التقسيم عام (1947) واحتلتها إسرائيل عام (1967) ن ولأنها بقيت مصدر إزعاج للإسرائيليين تمنى اسحق رابين رئيس وزرائهم أن يغفو ويصحو ليرى غزة وقد غمرها البحر وأنهى الحياة فيها، وانسحب منها شارون بعد تفكيك المستوطنات المقامة لكنها بقيت محاصرة من الجو والبر والبحر . إنها حكاية أجداد قدوة وأحفاد عاشوا على أرض غزة قدوتهم و مثلهم الأعلى من سبقهم الحياة وخلّف لهم إرثا محط اعتزاز وتمسك وتقليد و ما زالوا صامدين باقين بقاء أرضهم لم تغير الأيام والسنوات ولا حتى القرون من أصالتهم مصممين على البقاء مدافعين على القيم العربية لأنهم أصحاب حق والحق من أسماء الله تاركين تاريخاً حافلاً بالحكمة والتضحيات مخلفين وراءهم لكل الكتب روائع وقصص اندحار الأعداء ومن تآمر معهم مصداقا لقوله تعالى (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) الإسراء (81) .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |