على ورق الورد .. صاحبة الجلالة تصبح بنت شوارع!!

 

أ.د. سّيار الجميل

 akhbaarorg@googlemail.com

كم عشقها الناس؟

منذ ولادتها قبل زمن بعيد وحتى زمن قريب، تربعت صاحبة الجلالة على عرشها الرائع، وأحبها الناس، إذ تطلّ عليهم صباح كل يوم، فتمنحهم محبتها .. وهم يتلهفون كل يوم لها، ويلوذون بها في شدائدهم .. وهي تنشر عيونها في كل مكان .. عشقها الناس كونها لا تفرق بين الملوك ورعاياهم، بل انها خلقت لخدمة مصالح البلاد والعباد .. لقد كانت (الصحافة) صاحبة الجلالة غير المتوجّة، قد علا شأنها في القرن العشرين، فكانت مرآة صادقة وحقيقية للحريات والوطنية والديمقراطية والإصلاح والفكر وحقوق الإنسان .. بل ساهمت في تطور التفكير البشري، ونقله إلى درجات بالغة من التقدم .. اليوم، أجد صاحبة الجلالة تنزل من عليائها شيئا فشيئا، وبالرغم من بقاء كلمتها وقوتها وتأثيرها  في بلدان عريقة، ولكن ضعفت قدراتها، وكبح جماحها في بلدان أخرى ! فهل من أسباب حقيقية كي تتحول صاحبة الجلالة إلى بنت شوارع ليلية على أيدي أناس جهلة ليست لهم قيمهم، ولا مهنيتهم، ولا ثقافتهم ؟؟ لقد كانت الجرنال والجرانين .. تلازم كل نخب المجتمع وفئاته .. وموظفي الدولة وطلاب المدارس والجامعات .. ففيها المتعة، وفيها الخبر، وفيها الرأي، وفيها الإعلان، وفيها النقد وفيها الإصلاح .. لها يصغي كل المجتمع ومنها تحترس أقوى الرؤوس في كل الدولة .. فيها الكتاب والثقافة .. اليوم، ومع احترامي الشديد لما تبقى من صحف ومجلات عربية عريقة ورصينة، فالصحافة العربية قد اهترأت عناصرها، وتجردت من حرفيتها كثيرا، وغدت منابر حزبية، ومقالات مسلوقة بلا طعم .. وتلطخت صفحاتها بكل الأوضار السياسية وأوحالها المميتة  للأسف الشديد .

 

من الأمجاد إلى الابتذال

بادئ ذي بدء، لست ضد انتقال الصحافة من ورقية إلى الكترونية، ومن مبيعاتها إلى مجانيتها .. ولكنني ضد أن تغدو مبتذلة بعد أن كانت عزيزة النفس لا يجرؤ احد على مطاولتها .. وضد تهرؤها بعد أن كانت قوية تهزّ الجبال، وضد هزال كلمتها وتعابيرها، بعد أن كانت صاحبة أقلام وعقول .. وضد ابتذالها بيد هذا وذاك بعد أن كانت صاحبة هيبة لا يمكن لأحد أن يزاولها إلا بشق الأنفس ! أي تأثير بقى لها اليوم، ورقية كانت أم الكترونية ؟ أي مصداقية لها اليوم بعد أن غدت مجرد ناسخة أو ماسخة أو سالخة للأخبار والمواقف والآراء وحتى المقالات ؟؟ كم كانت مدرسة إعلامية وثقافية وأدبية وفنية بكل أساليبها الحضارية، وكم أصبحت تعاني من هجمات صاعقة وهي تواجه الفيديو والألعاب وثقافة الصورة الاستهلاكية .. وبضاعات التلفزيون واجتراراته بالصوت والصورة ؟ إنني شخصياً لست منحازا لأي طرف من الأطراف، ولكنني أجد أن مسافات باتت تتشكّل في اللاوعي البشري، وهي تبعد الأجيال الجديدة عن أهم رافد من روافد التفكير المعاصر حملت رايته صاحبة الجلالة، ولم يزل في بلدان معينة له قوته وتأثيره وأدواره .

 

الزمن يسبقنا .. فمن يلاحق الزمن؟

نعم، إن العالم تغير، وأدوات التواصل تطورت، ولا بد أن نلحظ الأثر الكبير لتطور التكنولوجيا والمعلوماتية على حياة الأفراد والمجتمعات بمؤسساتها المتنوعة، وبالتالي سوف ينسحب هذا على الصحافة والتلقي الإعلامي .. ولكن ما أجده في بلدان متقدمة يتمثّل بصدور تشريعات وقوانين تحدد المسؤوليات والعلاقات، وتخضع الجميع إزاء المحددات .. بعكس ما يجري في بلداننا وفضاءاتنا الإعلامية المقروءة والسمعية والبصرية، فثمة فوضى لا أول لها ولا آخر، وقد ضاعت فيها صديقتنا الحقيقية صاحبة الجلالة، ويا للأسف الشديد! إن تباينا كبيرا، يبدو واضحا، بين صحافة الغرب وصحافة الشرق، الالكترونية أو الورقية. فمستوى توزيع وقراءة أي صحيفة مطبوعة أو مجلة في  عالمنا العربي لا تقارن بحال مثيلاتها في الغرب. ومن ناحية أخرى نجد أن بعض دولنا ما تزال متخلفة في تقديم الخدمات الالكترونية المعلوماتية لمواطنيها بحيث يصعب وصولهم إلى الشبكة وبأسعار مناسبة، فكان الاعتماد على صحافة ورقية هزيلة تنقل من هنا وهناك يعتمدها كبار السن. أما الجيل الشاب بطبيعته، فهو غير آبه بذلك، ولكنه مستعد لتلقي الجديد وكل ما تنتجه سوق التكنولوجيا من أدوات لنقل الثقافة، المتعة والفنون.  إن الحياة الالكترونية سهّلت أمام الجميع أن يكتب ما يشاء كي يرسله بلا قيد أو شرط، متمتعا ليس بحرية التعبير، بل بفوضى القيم، فثمة إساءات وخطايا ترتكب بحق الصحافة وبحق المهنة وبحق الناس وبحق القيم وبحق الكتابة وأصولها .. لم تكن الصحف، مهما كانت متحررة وشعبية، أن تجرؤ لنشر ما يتم نشره اليوم بلا أية ضوابط  ولا أي خطوط حمر !

 

الكومبيوتر يجهز على القلم !

إن صاحبة الجلالة قد افتقدت عذريتها أيضا، اذ كانت صاحبة مهنة راقية عالية المستوى غير مضمحلة ولا مجانية .. فمن يعمل فيها ينبغي أن يتلقى أجرا .. وما نجده اليوم من مواقع صحفية تنسخ جهرا عن غيرها، وتسرق مقالات أصحابها من دون أخلاق، وتنشر منسوخات بلا ذمة ولا ضمير ! الصحافة المحترفة لا يكتب فيها بالمجان، إذ لابد من أن تتلقى دعما لتعرف كيف تظهر على الناس قوية متميزة  .. إن صحافتنا العربية اليوم أشبه ما تكون بنادي عراة عن قصد وسبق إصرار! إنني عاشق للقلم منذ نعومة أظافري، ولكنني غدوت اليوم اعز صديق للكومبيوتر، ويا لسعادتي عندما اكتب شيئا بيدي، فالقلم يمنحني شخصيتي، ولكن الكومبيوتر يسحرني ويأخذ مني شخصيتي. وعليه، فإنني عندما انشر بعض مقالاتي في صحيفة أو مجلة ورقية، أجد نفسي فيها أمام نخب الناس، ولكن عندما أعيد نشرها على موقعي ومواقع الكترونية أخرى، أجد حالة مختلفة تماما، وكأني أجدها في شارع عام .. إنني مقتنع أن أي مادة ورقية هي من التشيؤات التي تحتفظ بمادتها زمانيا .. أما إحساسي بالمادة الالكترونية فأجده مفتقدا، إذ هو من المرئيات التي لا تشبع أحاسيسي ! إن صاحبة الجلالة تحتفي بها مكتبات ورفوف وخزانات بمجلدات كبيرة، ثقيلة، مكتنزة على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين .. اليوم، يمكن تخزينها على قرص الكتروني من دون أن يحس بوجودها أحد!

 

هل الصحافة الالكترونية .. مكب نفايات ؟

لقد وصف احد رؤساء الحكومات العربية الصحافة الالكترونية أنها " مكب نفايات "، وهو لا يعني بذلك صراعه مع الكلمة الحقيقية، بل كان ذلك نتيجة لمن رشقه بتعابير مبتذلة وجد المسكين نفسه فيها على شاشات الكومبيوتر . هنا علينا أن نتوقف قليلا، لنسأل : هل نجد أي وعي حقيقي في منظومتنا العربية على الأقل، بالأهداف والأغراض الصحفية ؟ هل أن ثلاثة أرباع الكّتاب العرب يدركون قيمة الكلمة وتأثيرها إعلاميا ؟ السنا بحاجة إلى لغة جديدة وأخلاقيات رفيعة في الصحافة ؟ هل يمكن لأي بلد من البلدان أن يفتح الأبواب على مصراعيها أمام ما يسمى بـ " الصحافة الالكترونية " و " الفضائيات التلفزيونية " لتقول ما تشاء بلا ضوابط وتشريعات ؟  إنني لا أطالب بالرقابة وكتم الانفاس، فقد ولّى زمنهما، ولكن ثمة صمامات أمان وفلاتر تصفية في مجتمعات متقدمة بصحافتها، بل وخطوط حمر لا يمكن تجاوزها أبدا .. فمن لم يكن مهنيا وله خبراته وسلوكياته، فلا يمكن أن يغامر أبدا .. ومن يكتب مقالا أو رأيا، أو تعليقا، أو ملفا، أو تقريرا .. لا ينشره البتة ان لم يمرّ على أكثر من محرر لتصويبه وتحرر سلامته قبل النشر .

 

وأخيرا .. من يسمع ندائي ؟

إننا أمام عالم جديد يترّبى فيه أولادنا وأحفادنا .. فلا يمكننا السكوت أبدا على ما يقترف بحق صاحبة الجلالة التي غدت تتسكع في الشوارع، ويتناولها هذا وذاك من دون أي أخلاقيات قيمية، ولا أي سلوكيات حرفية .. إنني أعيد ندائي من جديد بعد أن ناديت منذ سنوات طوال، بأن تصدر تشريعات وقوانين، لا تحد من حريات الإنسان .. أبدا، بل تحدد طريقه إلى أين ؟ لا تقفل عليه لسانه وتفكيره، ولكن تجعله صاحب منهج في التعبير! علينا أن نعيد لصحافتنا العربية هيبتها ووقارها، فلقد عانت على امتداد خمسين سنة من هيمنة السلطة والرقابة والمباحث .. وسيطرة الدولة. على دولنا وحكوماتنا اليوم أن تعمل جاهدة على زرع وعي معرفي جديد بالصحافة الالكترونية، وان تفتح المجتمعات نفسها ومن خلال النخب المحترفة، الطريق وبواسطة الدعم الذي تقدمه المؤسسات لإعادة هيبة صاحبة الجلالة ..  

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com