قل هو الله أحد ... التوحيد الاسلامي في اتجهاته الاربعة ..  2/2

 

حميد الشاكر

al_shaker@maktoob.com

قال سبحانه :

( قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد )

********************

أذا ما وضعنا أساليب ومذاهب المفسرين في الاسلام في تبيين الكلمة القرآنية العظيمة نصب أعيننا كرصيد لفهم المنطوق القرءاني، وبحثنا عن أسلوب في التبيين آخر يضيف الى أفق المعرفة التفسيرية شيئا جديدا فهل سنكتشف معِينا تبينياً يفتق لنا من أسوار النصوص القرءانية التي تحيط بمفردات كل سورة في القرءان فضاءا ارحب ليدفعنا الى رحاب فكر اشمل واوسع مما لو اخذنا باساليب ومذاهب التفسير الاسلامية الكلاسيكية المعروفة ؟.

أم ان المذاهب التفسيرية الاسلامية للقرآن العظيم قد أُغلقت تماما بحيث انه لامناص من الاخذ بهذا الاسلوب او التوجه او المذهب من مذاهب التفسير او ذاك لاغير ؟.

بمعنى آخر: عندما حاول الشهيد السعيد الصدر محمد باقر في احد أراءه التفسيرية في كتابه المحاضراتي ( التفسير الموضوعي والفلسفة الاجتماعية في المدرسة القرآنية ) ان يقسّم الاتجاهات التفسيرية للقرءان الكريم وينظّر لمشروع مختلف عن ما اسماه ب ( الاتجاه التجزيئي ) في تفسير القرآن، ليدعو الى تأسيس أو دعم ( الاتجاه التوحيدي الموضوعي ) في هذا الحقل من تبيين الكلمة القرآنية، فهل يعني هذا ان ليس هناك توجهات اخرى غير هذين التوجهين بالامكان البحث عنهما اومذاهب بالامكان اكتشافها واساليب مختلفة تثري في عطاءها الساحة التفسيرية القرءانية ؟.

أم ان الصدر محمد باقر ( رض) كان يتحدث بلغة الاتجاهات والاساليب والمذاهب التفسيرية وكيف انها مختلفة العطاء والنتائج الفكرية حسب تراكيبها البحثية، بحيث ان الاتجاه التجزيئي لاينتج نظرية ورؤية عامة للقرءان في موضوع ما، ولذالك دعى في رؤيته الى فتح ابواب أسوار السور القرءانية بمنهجية اسماها الاتجاه التوحيدي الموضوعي الذي يأخذ بنظر الاعتبار البحث عن النظرية بصورتها المتكاملة في قُبالة موضوع انساني يعيشه ويمارسه الانسان سلوكيا اجتماعيا الا انه بحاجة الى رؤية نظرية تشرح له موقفه النظري امامها، ولاتشتت من رؤيته بتجزيئ الفكرة وبعثرتها هنا وهناك كما هو الحاصل في الاتجاه التجزيئي لتفسير القرءان ؟.

بطبيعة الحال فإن القرآن الكريم نفسه وباعتبار انه كلام الله سبحانه المطلق العلم والاحاطة، والذي انزل لكل زمان ومكان، وانه يجري ماجريا الشمس والقمر في هذا الوجود .......الخ فإنه اوسع بكثير من كل المناهج والاتجاهات والمذاهب التفسيرية البشرية المحدودة، وما هذه الاتجاهات والمذاهب التفسيرية الا قوانين يضعها الانسان ليدرك مقاصد واهداف وغايات كلام الباري سبحانه وتعالى حسب مايدركه العقل البشري لاغير لرفع التكليف ليس إلاّ، أما كون هذه الاتجاهات والمذاهب التفسيرية الانسانية هي صالحة لتكون أُطر وقيود ومعتقلات لخنق عطاء وسعة وانفتاح الكلمة القرآنية الكريمة اللامتناهية العطاء، والتي هي تشبهت بمداد البحر الذي يرفده سبعة ابحر من ورائه، فإن هذه الرؤية بغض النظر من انها غير اسلامية قرءانية المفهوم، فانها كذالك تعتبر تقييد لشيئ لايقبل التقييد في عطائه وحتى في ابتكار اساليب واتجاهات ومذاهب ومدارس معالجته وفهمه على الحقيقة !.

ومن هنا نقول : انه نعم لابد لادراك الكلمة والنص القرءاني من وجود اسلوب او اتجاه او مذهب تفسيري يعين المفسّر والمبيّن للكلمة القرءانية على ادراك مقاصد كلام الله سبحانه واهدافه وغاياته سعةً وضيقا، وانه بالفعل إن لكل اتجاه تفسيري ايجابياته من جهة وسلبياته من الجانب الاخر، لكن هذا لايعني مطلقا الغاء الصفة القرءانية العظيمة التي تتميز انها كلام الله سبحانه وتعالى المختلف في كل شيئ عن كلام وقوانين واساليب ومذاهب البشر المحدودة، ولهذا كان كلام الله سبحانه خالدا وسيبقى خالدا مابقيت الحياة قائمة، وحتى ان تغيّرت اساليب وقوانين ومذاهب واتجاهات الناس في فهم هذا الكتاب الكريم واساليب واتجاهات طرحه للنظريات وللرؤى وللتوجهات الفكرية الاسلامية، فإن القرآن سيبقى هو هو على نفس القدر والقوّة من العطاء والانتاج والثراء الفكري للبشرية بلا انقطاع ولا توقف ولاعقم على الحقيقة حتى وان اثبت الزمان ان كلا الاتجاهين التجزيئي والتوحيدي الموضوعي قد ماتا على الحقيقة ولم يعد اي انسان في الوجود محتاجا لأستخدام اساليبهما واتجاهاتهما ومذاهبهما التفسيرية التبينية لهذا النص القرءاني العظيم فإنه سيبقى مع ذالك عطاء القرآن متدفقا وبنفس القوّة وباساليب ومذاهب مختلفة ومتنوعة وجديدة، وهذه الرؤية لاينبغي ان تُفهم على اساس انها دعوة لعدم حاجة المفسّر للمعرفة التراكمية القديمة كقوانين لغة القرءان ولسان العرب الذي نزلت فيه كلمة الوحي مثلا، كما انها لاينبغي ان تُدرك من منطلق ترك الكلاسيكي القديم المتين من العلم والمجيئ بشيئ غير مفهوم او مدرك من الاساليب او الاتجاهات والمذاهب لتفسير القرءان !.

لا ليس هذا هو المقصود بالمطلق، وانما المقصود : ان الكلمة القرآنية صحيح انها تضبط وتُفهم من خلال توجهات ومذاهب تفسيرية معينة، لكن من مواصفات الكلمة القرءانية الزائدة على جميع الكلمات والمختلفة عنها، انها كلمة قانونها انها لاتخضع لقانون في عطائها اصلا، ولو كانت الكلمة القرءانية خاضعة لقانون معين في هذه الحياة لقضت عليها سنة الحياة بمراحل وجودها وولادتها بالطفولة والفتوّة والشيخوخة والزوال، وهذا مالم يقل به احد من المسلمين لافي القديم ولافي الجديد، فإن كل القرءان بكليته المطلقة، بلغته وبلاغته وعطائه وتصوراته ومعالجاته ونظراته واساليبه واتجاهاته ومذاهبه ......الخ، حيّ مستمر قوّي فتيٌّ طرّي لايتغير ولايتبدل ولايخلق من كثرة الردّ والقراءة، وهذه المعاني لااعتقد ان احدا في العالم يعترف انها تسير على قانون معين في هذه الحياة، فحركة القوانين من قوانينها الصعود والنزول، بعكس الكلمة القرءانية التي قانونها الوحيد العطاء المعجز الغير منقطع كما صرّح به القرءان نفسه حول كلمته القرءانية الثريّة دوما !..
وهذا مانقصده عندما نقول ان قانون القرءان الكريم الوحيد هو اللاقانون في هذه الحياة لانه كلام الله سبحانه الذي ليس كمثله شيئ من جهة، ولانه ايضا معجزة الاسلام الخالدة التي من هويتها انها كسر لقوانين وسنن الحياة في هذا العالم، لذا هو جاء ونزل وليس كمثله شيئ في هذا الوجود ايضا !!.

_____________________________

من ضمن الاساليب التفسيرية الثرّية التي بحاجة الى تسليط الاضواء عليها، هو اسلوب واتجاه ومذهب ( المحاكاة ) في النص القرءاني العظيم، والذي هو عبارة : عن محاكاة النص القرءاني للواقع البشري الموجود والمتحرك على ساحة الحياة الانسانية في عصر نزوله الاسلامي وما تلاه من عصور الى ان يرث الله سبحانه الارض ومن عليها !.

وهذه المحاكاة للنص القرءاني الكريم للواقع الانساني تشمل جميع كلمات ومفردات ونصوص القرءان المجيد التي هي بطبيعتها حاكت الانسان (او تكلّمت معه بصيغة اخرى) بجميع وجوده وافاقه البشرية سواء كانت فكرية عقدية او روحية او نفسية او سياسية او اقتصادية او ثقافية او اسرية او فردية او اجتماعية ...... او ماشاكل ذالك من وجوده ايضا الكوني او الوجودي او الطبيعي او البيئي او الزراعي او مايحيط به في هذه الحياة في جميع مايتصل بالانسان وحاكاه النصّ القرءاني وتوّجه اليه بالحكاية سواء كان بالتقييم او التقرير او التوجيه والنقد او المعالجة او التأسيس والانشاء او غير ذالك، فاننا نجد ان النص القرءاني محاكيا لهذا الانسان ومتفاعلا معه ومتداخلا ايضا في ثنايا حياته المعاشة هذه !.

ومن هنا فإن كل نص قرءاني وعلى هذا التوجه الذهني في فهم المنطوق القرءاني قائم على هدف وغاية ومقصود من خلال المفردة القرءانية نتمكن من ادراك ماذا اراد النص من محاكاته هذه ؟. ولماذا هو توجه بهذه المحاكاة لتلك الجهة من الجهات الانسانية على غيرها ؟. وكيف ايضا هذا النص بمفرداته حاكى هذا التصور الانساني عن غيره من التصورات ؟.

ان هذا الاسلوب من الفهم الانساني لنصوص الكتاب الكريم يحتّم علينا وفي كل مرحلة من مراحل سيرنا مع المفردة القرءانية ان نكون امّا على اطلاع واسع بجميع تفاصيل الحياة الانسانية ( المكية والمدنية العربية والاسلامية وغير الاسلامية ايضا ) التي نزل فيها النص القرءاني الكريم لنتمكن من تشخيص ماذا كان يخاطب هذا النص من اشياء ؟. وكيف كانت محاكاته لها ؟، لندرك بالضبط مقاصد واهداف وغايات المحاكات !.

وأما ان نرجع أمام كل مفردة من المفردات القرءانية التي نتناولها بالتبيين والتفسير للواقع الانساني الذي حاكته وتكلمت عنه ومعه هذه الكلمات القرءانية العظيمة، وبهذا نكون قد قطعنا نصف الطريق لمعرفة مقاصد وغايات واهداف هذه النصوص القرءانية العظيمة ولماذية محاكاتها لهذا الواقع او ذاك !.

وهذا الاتجاه التفسيري كما يراه الاخرون ربما يختلف عن الاتجاه التجزيئي ب (المرجعية ) في ادراك مضامين الايات القرءانية العظيمة، فبينما يكون الاتجاه التجزيئي شديد الحرص على كيفية ربط مثلا :(( ذالك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين )) بالاية التي بعدها :(( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )) ويبحث في المناسبات التي حتمت وربطت واعقبت مجيئ الايمان بالغيب بهداية الكتاب للمتقين ؟ يكون اتجاه المحاكاة ليس في وارد وصدد الالتفات الى الربط النظري للايات القرءانية بقدر التفاته الى ارجاع هذه النصوص والايات الى واقعها الانساني العملي والفكري الذي حاكته هذه النصوص، وتوجهت اليه وارادتْ ان توصل له رسالة مختلفة عما رصده اهل التفسير التجزيئي عندما لاحقوا المفردات بنظرية ذهنية لاغير، وهذا الاسلوب والاتجاه بالطبع يختلف مابين التفسير وتوجهاته التجزيئية تلك عنه من اسلوب المحاكاة بانه لايبحث ربط الايات متسلسلة بعضها بالبعض الاخر قرءانيا فقط، بل انه يرجع كل نصّ قرءاني الى واقعه الانساني المعاش ليبحث عن :(( آلم ذالك الكتاب .... )) اين كانت عندما حاكاها النصّ القرءاني ؟. وهل حقا ان يهود المدينة كما يذكره بعض المفسرين بالذات كانوا يعتمدون على حساب الجمل في توقع الاحداث المستقبلية، ولهذا حاكاهم النص القرءاني برمزيتهم الفكرية ؟. أم انه اراد تأسيس لغة رمزية تخاطب العقل الاسلامي كما هو غير معهود في واسع لغتهم الدارجة اليومية ؟.

أم ان (( الم )) لاابتغت ذاك ولاهذا، وانما هي حاكت أميّة المجتمع العربي بالخصوص لتنشئ مدرسة مبسطة لمحو الامية الكتابية لهذا المجتمع ولترفع من ثم مستواه في قراءة أحرف الابجدية العربية بصيغتها العلمية ليتمكن هذا المجتمع فيما بعد من القرءاءة وامتلاك ناصية ثقافة القراءة فيما بعد ؟.

واذا كان هذا صحيحا ماعلاقة (( الم )) ب :(( ذالك الكتاب لاريب فيه هدى للناس )) اجتماعيا انسانيا وليس قرانيا فحسب ؟.

اي انه هل هناك علاقة اجتماعية ما اراد النص القرءاني محاكاتها في قوله :(( ذالك الكتاب لاريب ...)) لترد على واقع اجتماعي اخر كان يؤمن بحساب الجمل (( الم )) مثلا ولهذا جاءت المحاكاة القرءانية اجتماعيا بين اناس يؤمنون برموز تتحرك بالحياة، وبين أناس يؤمنون بكتاب يحرك الحياة بوضوح وبلا رموز غيبوية تذكر كالموجود اساسا لدى اهل الكتاب من اليهود ؟.

وهكذا كل توجهات اسلوب المحاكاة القرءانية التي نريد تسليط الاضواء عليها من منطلق انها اتجاه تفسيري يختلف عن الاتجاه التجزيئي الذي هو ايضا نظري الا انه نظري تجزيئي وليس واقعي انساني في الكثير من رؤيته واتجاهاته التفسيرية !.

كذالك يختلف اسلوب ومنهجية المحاكاة عن منهجية ومذهب الاتجاه التوحيدي الموضوعي في ان مرجعية الاتجاه الموضوعي ايضا نظرية قرءانيا منتزعة من السياق القرءاني لبنية السور القرءانية، واعادة تشكيلها بسياق مستقل للخروج من خلال هذه المزاوجة بولادة نظرية متكاملة تعالج هذا النوع او ذاك من الحركات او التصورات الاجتماعية الواقعية المتحركة على الارض !.

والحقيقة انه بغض النظر من ان مثل هذا الانتزاع للنصوص القرآنية من سياقاتها قد يخلّ بعامل مهم في فهم السياق في الاتجاه الموضوعي لايات من القرءان الكريم، وبغض النظر ايضا ان اعادة بناء صياغتها من جديد للخروج برؤية متكاملة ربما فيه مخاطر كبيرة على الفهم القرآني للنصوص، بغض النظر عن ذالك الا انه عمل اسلامي مئة بالمئة وتفسيري تبييني متبع، الا انه ايضا مختلف عن اليات الفهم في عملية المحاكاة التبينية التي هي مع عدم معارضتها للانتزاع واعادة التشكيل للنصوص القرءانية في المنهجية التوحيدية الموضوعية، الا انها غير متضرر ايضا لامن الاتجاه والقراءة التجزيئية للتفسير، ولا من الاتجاه الموضوعي باعتبار ان منهجية واسلوب المحاكاة تعتمد في الاساس على النص القرءاني مفككا داخل اطاره التجزيئي ومُدركا حسب واقعه الانساني المتحرك مع الاحتفاض بالسياق القرءاني سليما وبلا تفكيك لاطره الواسعة، وليس حسب ماتعطيه المجموعة العددية لايات من القرءان الكريم منتزعة ومُعاد تركيبها من جديد لتكّون رؤية ونظرية في موضوع قرءاني ما !.

اذن هناك اختلاف في اساليب التناول والفهم للنصوص القرءانية بين الاتجاهات التجزيئية والموضوعية من جهة والمحاكاتية بمرجعيتها الاجتماعية الواقعية من جانب اخر ليس الا، لكن باضافة ان اسلوب المحاكاة فيه الكثير من الاتجاهات التي نعتقد انها اكثر ثراءا بكثير في فهم النص القرءاني بشكل محدد وانساني وواقعي واجتماعي اكثر منه نظري او تجزيئي، ولهذا اعتمدنا على اسلوب واتجاه المحاكاة في فهم النصوص القرءانية باعتباره الاسلوب الاقرب لروح النصوص القرءانية الانسانية المتحركة !.

*************************

سورة الاخلاص

( سورة )

السورة مفردة عربية وقيل انها معربة مشتقة أصلا من (سور المدينة) وهو الحائط الذي يحيط بالمدن او القرى الانسانية المعاشة والمتحركة، وسبب تسمية المقطوعات القرآنية المباركة بالسور وواحدها سورة كما يذكره الطباطبائي في تفسيره الميزان : بسبب إن لكل مجموعة من هذه الايات والنصوص المباركة وحدة هوية قائمة بذاتها يحددها سور مقيد بهدف وغرض ومقصد واضح لعموم السورة !.

فكأنما هناك تشبيه مقصود بين اسوار المدن وأسوار القرءان لكل مجموعة من الايات ان تُسمى سورة، من منطلق ان الاسوار تجمع اطراف المدن وتحدد بدايتها ونهايتها على الحقيقة لتعطيها نوعا من الهوية الموحدة التي تجمع مالولاه لانفرطت هوّية اي اشياء متجمعة !.

كما ان مصطلح وبُنية اي سورة من سور القرآن وكما ورد في القرءان الكريم نفسه هي مؤسسة بالاساس من خلال الوحي والامر الالهي، وليس من خلال اجتهاد بشري او نبوي او غير ذالك ولهذا ورد في الذكر الحكيم مصطلح السورة في قوله سبحانه :(( سورة انزلناها وفرضناها ...)) وقوله سبحانه :(( فأتوا بسورة من مثله ...)) ليؤكد ان بُنية السور في القرءان الكريم هي من قبل الله سبحانه وتعالى، وانها مقصودة في البناء وفي توحيد هوية النصوص القرءانية وتجميع غاياتها ومقاصدها واهدافها في توجه واحد تعلن عنه السورة مجتمعة بجميع اياتها ومفرداتها داخل هذه المدينة القرءانية الصغيرة بحدود سورها المعنوي لاغير، فعندما نقول ( سورة الاخلاص ) فينبغي ان نفهم ان كل مايختص ببنية هذه المقطوعات من الايات المباركة في هذه السورة وبمضامينها وبترتيبها وفي بدايتها وحتى النهاية هو بناء وترتيب وحي منزل من قبل الله سبحانه وتعالى وله قصد وغاية وهدف داخل كيان سور هذه القرية القرءانية الصغيرة المُسماة بسورة الاخلاص !.

ولهذا قلنا فيما مضى انه من الصعب التمكن من تفكيك هوية السور القرءانية في الاتجاه التفسيري التوحيدي الموضوعي، وانتزاع نصوصها واعادة تشكيل هذه النصوص من جديد لولادة نظرية عامة في موضوع من المواضيع الانسانية الفكرية، الا انه مع قولنا بالصعوبة لكننا لم نقل بالاستحالة، فانه منهج تفسيري متبع في الاستعانة بتفسير القرءان بالقرءان، والوصول الى فهم القرءان بالقرءان فهو منهج اتبع في زمن الرسول وفي زمن الصحابة والتابعين ... وهكذا !.

نعم حسب الرؤية القرءانية من جانب آخر فهي تقول : بأن بُنى السُور القرءانية وهوياتها الشخصية هي شيئ قائم بالوحي كما ان التحدي باعتبار القرءان معجزة جاء على اساس بُنية السورة مستقلة في قوله سبحانه :(( وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ...)) ولم تاتي من خلال الاية ليقول :(( فاتوا باية )) ولم تاتي بشيئ اخر غير بُنية السورة، ومن هنا نفهم وندرك ان بُنية السورة في القرءان داخلة في قضية الاعجاز ومرتكزة عليها ومن الصعب تشكيل السور القرءانية او تهديم ماهو قائم من هويتها ثم الرجوع باعادة التشكيل لنعطي للقرءان توجه مختلف عن توجهاته الاساسية التي بُني عليها بالاساس ليقول شيئا ما ويحاكي مقصدا محددا، ربما يكون مختلف عن باقي مقاصد المؤلفين والباحثين عن نظريات اخرى من خلال التفكيك للنصوص واعادة تركيبها فافهم ذالك !.

كما انه وعلى نفس اسس هذه الرؤية لوحدة بُنية السور القرءانية في الكتاب العزيز نحن نذهب بلا ادنى تحفظ الى ان سور القرءان القائمة في هذا السفر الالهي المطهر هي بنية الاهية بمافيها ادخال بعض الاي المدني بالمكي او ادخال بعض الاي المكي بالمدني من خلال السنة النبوية المطهرة كما ورد في كتب التفسير، وهذا شيئ مختلف بطبيعة الحال عند الحديث عن ترتيب السور في القرءان وانه ترتيب خضع للاجتهاد الاسلامي للصحابة فيما بعد ليجعل اول لقرءان سورة البقرة واخره سورة الناس، بعكس بُنية كل سورة قرءانية مستقلة عن الاخرى فان هذه السور بجميع بناها وتراكيبها وهيئتها وهويتها فهي وحي معجز الاهي لم تتدخل فيه اي ارادة بشرية على الاطلاق !.

*************

(الاخلاص)

والاخلاص ايضا مفردة تدلّ بقوّة على الصفاء وهي من الخلوص اذا اردتَ ان تخلّص شيئا ما من جميع الشوائب الغريبة الداخلة عليه ليصبح خالصا ونقيا وصافيا تماما في جوهره وهويته ووجوده !.

قال صاحب المفردات الراغب الاصفهاني :(( الخالص كالصافي إلا ان الخالص هو مازال عنه شُوبه بعد ان كان فيه، والصافي قد يقال لما لاشوب فيه، ويقال خلصته فخلص ....)).

فسورة الاخلاص على هذا المعنى : هي تلك المدينة الفكرية القرءانية القائمة اساسا على قضية الاخلاص والصفاء في التوحيد كهدف اسمى لمسمى السورة، او هي هذه السورة التي استهدفت خلاص التوحيد او اخلاصه من شوائبه التي دخلت عليه بمسمى ولد له او شريك له في ملكه وهكذا !.

وكذالك تسمية هذه السورة ايضا بانها سورة التوحيد من منطلق ان هوية هذه المدينة القرءانية المسوّرة الصغيرة هي التوحيد والاخلاص فيه، ليعطينا كلا المصطلحين (الاخلاص والتوحيد ) تصورا مفاده : ان هذه المقطوعة القرءانية التي امامكم هي مدينة فكرية هويتها ومقاصد تصوراتها وغايات اياتها هو الحديث ومحاكاة الاخلاص والتوحيد الذي تحملونه والذي ينبغي ان تحملوه في العقيدة لاغير !.

وبالفعل عند الرجوع لكل مضامين هذه السورة القرءانية المباركة فاننا سنجد انها تناولت الجانب العقدي المرتبط فقط بالله سبحانه وتعالة من جهة، ومعتقد الانسان التصوري الفكري والسلوكي العملي في قضية التوحيد من جانب آخر !.

اي بمعنى اخر اكثر قرءانية اسلامية : ان هذه السورة وعند الرجوع لاسباب نزولها، وكذا ما مثلته فكريا على المستوى العام، سنكتشف ان هذه السورة فتقت اتجاهين لاغير في حركتها النازلة الى الانسان في محاكاتها له ولواقعه الانساني السلوكي والفكري المعاش :
الاول : اتجاه كيفية تخليص عقيدة الانسان نحو الله من جميع شوائب التصورات والرؤية الغير واقعية حتى الوصول بها الى الاخلاص التامّ والحقيقي والنظيف .

الثاني : هو اتجاه التأسيس لتوحيد عملي ينبغي ان يكون هو الاساس للبنية الفكرية لجميع البشر من منطلق التوحيد في التصورات والعبادات وباقي الشؤون الاخرى المتعلقة بعقيدة الانسان في الله سبحانه وتعالى !.

نعم في ذكر اسباب نزول سورة الاخلاص المباركة ايضا هناك افقا اوسع لمعرفة توجهات هذه السورة المباركة بالتحديد وكيف انها كانت سورة (حاكت) ما كان يثيره المجتمع من اسألة واستفسارات حول الاخلاص والتوحيد في العبادة والتصورات او انها تفاعلت مع ماكان موجودا في الاساس الاجتماعي من عمليتي التوحيد والاخلاص له، ولهذا فقد ذكر المفسّرون عن ابي عبدالله جعفر الصادق ع قوله : ان مجموعة من اليهود سألوا رسول الله ص فقالوا : انسب لنا ربك، فلبث ثلاثا لايجيبهم ثم نزلت ( قل هو الله أحد ) الى اخرها / الميزان للطبطبائي محمد حسين.

وفي رواية أخرى لاهل الجماعة ان السائلين هم مشركي مكة، حيث ذكر القرطبي في جامع احكامه القرءانية قوله :(لأن اهل التفسير قالوا : نزلت الاية (قل هو الله احد ) جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله ص : صِف لنا ربك أمن ذهب هو ؟، أم من نحاس ؟. أم من صفر ؟. فقال الله عزوجل ردا عليهم : قل هو الله أحد ..).

والحق ان سورة الاخلاص والمضامين التي طرحتها في موضوعة الاخلاص والتوحيد باعتبار انها شملت الردّ على اهل الشرك من العرب وكذا اهل الكتب الدينية الاخرى كاليهودية والمسيحية، فانها تصلح ان تكون ردّا ومحاكاتاً لعقائد اهل الشرك الوثنيين من العرب من جهة، واهل التشبيه والتوليد من العرب اليهود واهل الكتاب من النصرانيين المسيحيين من جهة اخرى، ولهذا يمكن القول ان توجهات سورة الاخلاص شاملة للرد على اسألة كل الفرق والاديان والتوجهات العقدية التي كانت متحركةً في واقع حياة المجتمع العربي الذي حاكاه القرءان ورصد تصوراته وسلوكه بكل دقة، ولهذا سُميت هذه السورة بسورة التوحيد والاخلاص معا من منطلق انها السورة التي جمعت جميع عبادات الانسان العربي المتنوع العبادات والعقائد في بوتقة سور واحد ومحدد، ولهذا ايضا نستطيع فهم ماورد في فضل ومكانة هذه السورة المباركة من انها ( تعدل ثلث القرءان / عن الرسول وائمة اهل البيت ع وجمّ غفير من الصحابة ) من منطلق ايضا ان هذه السورة بالذات حاكت جميع طبقات العقيدة الموجودة في واقع حياة الانسان العربي في مكة وغيرها، لتؤسس فيما بعد لجميع ماذكر عن التوحيد والاخلاص والعقيدة في القرءان على منوال هذه الطبقات التي ذكرت اجمالا في هذه السورة الصغيرة !.

بمعنى آخر : ان معنى كون سورة الاخلاص تعدل ثلث القرءان كما ورد في احاديث ائمة اهل البيت عليهم السلام، هو كون ماذكر في هذه السورة من طبقات للتوحيد وللاخلاص وللعقيدة، هو بالفعل ما موجود بالشرح والتفصيل في ثلث القرءان الذي ركز على فكرة العقيدة والتوحيد فيها والاخلاص لها في العمل، وبهذا يكون ثلث القرءان المذكور مفرقا بين جنبات القرءان وبين دفتيه هو مختصرا بالفعل بالاسس التي ذكرتها سورة الاخلاص داخل سورها القرءاني الصغير !.

وأيً كان فسبب نزول السورة هو محاكاة جوابية لسؤالهم الذي وكعادة الانسان العربي في ارادته معرفة الشخصية والهوية لاي شيئ في حياته العاقلة وغير العاقلة، فلابد له اولا من معرفة (نسب ) هذا الشيئ والسلسلة الصاعدة والنازلة من وجوده في هذا العالم، فمعروف على هذا المنحى ان الانسان العربي له رؤية شديدة الاهمية قُبالة النسب الصاعد في الاباء والاجداد، ومن هنا هو عندما اراد ان يدرك ماهية هذا الرب والالاه الذي يجب ان يوحده ويخلص له في هذا التوحيد ويعبده ويقدسه سأل مستفهما عن ( صفة او نسب ) هذا الالاه باعتبار ان الانسان العربي يدرك ان لكل كبير وعزيز في القبيلة نسب وتاريخ داخل قبيلته وعشيرته، ولايمكن تقييم اي كبير وعزيز بلا معرفة نسبه وصفاته فسأل من خلال القوانين التي يدركها عن نسب الالاه او صفته ؟، وهل هو الاه منحدر من سلسلة الهة قبله او بعده ؟. أم انه الاه بالامكان رؤيته مستنسخ الصورة كما كان يعتقده الانسان العربي المشرك الذي كان يصوّر الهته ويجسد اشكالها من خلال صياغة حجرية عند مشركي العرب، او صياغة ذهبية او نحاسية او غير ذالك عند باقي الشعوب والامم التي تؤمن بتجسيد الالهة وصياغتهم من خلال النحاس او الذهب او الصفر او غير ذالك من ادوات بامكانها ان تصاغ باشكال متنوعة ومختلفة ؟.

*************

ومن هنا سأل الانسان عن نسب الرب وصفته ليجيبه القرءان بقوله :

(قل هو الله أحد )

وعادة وفي كثير من المناسبات مايجيب القرءان ب ( قل ) القرءانية على اسألة تصعد من المجتمع الى السماء لينزل لها فيما بعد جواب القرءان محاكيا لهم بجواب قريب او بعيد عن ما اثاره المجتمع من اسألة، مثل قوله سبحانه :(( ويسألونك عن الخمر والميسر قل ..)) وقوله سبحانه :(( ويسألونك عن الايتام قل اصلاح لهم خير ..)) وكقوله سبحانه :(( قل يايها الكافرون ..)) وهكذا، لكنّ هذه المحاكاة لاتأتي دائما بهذا الاسلوب من السؤال والجواب فقط، بل ربما هناك اسلوب ( الاعلان ) هو الاخر جاء في مواضع اخرى من القرءان بصيغة (قل) القرءانية هذه، مثل قوله سبحانه :((قل أُحي إليّ انه استمع نفر من الجنّ فقالوا انا سمعنا قرءانا عجبا )) ففي مثل هذه المحاكاة القرءانية يكون الوحي ليس مجيبا لسؤال اجتماعي صعد من الانسان الى السماء باعتبار ان المفسرين لم يذكروا سببا لنزول هذه ال(قل ) في سورة الجنّ على اساس انها جواب لاستفسار او استفهام، وانما ذكر هؤلاء المفسرون لبداية (قل) في سورة الجن على اعتبار انها ( بلّغ او اعلن ) للمجتمع انه استمع نفر من الجنّ لهذا القرءان فتعجبوا حتى اخذتهم الحيرة في القول : انا سمعنا قرءانا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به ....الخ !.

وعلى هذا الاساس تأتي ( قل القرءانية ) بمعنيين في محاكاة المجتمع الانساني العربي وغير العربي :

الاول : معنى الجواب لسؤال اجتماعي صاعد كما ورد في (قل هو الله أحد ).

الثاني : معنى الاعلان والتبليغ كما جاء في سورة الجنّ .

والحقيقة ان لكلا الاسلوبين القرءانيين في محاكاة ( قل ) انعكاسهما المختلفين في أفق المجتمع الذي خاطبه القرءان، فالاول يجري مجرى السؤال الذي هو خصوصية من خصوصيات الانسان في هذه الحياة لاثراء معرفته وتجربته الانسانية في هذه الحياة عن باقي الاشياء التي تحيط به او تعيش في داخله او خارجه، مثل شيئية الله سبحانه وتعالى التي من خلال اسألتنا وبحثنا عنه عرفناه وادركنا صفته ونسبه ووجوده وموقعه في هذا العالم الانساني الصغير، والثاني يجري مجرى الاعلان الجديد والتأسيس لحقيقة يكون عادة الانسان غافلا عنها فيأتي النص القرءاني لينبه الانسان الى هذه الزاوية الغير مفكر فيها حاضرا الا انها ليس بعيدة على اي حال عن حياة الانسان وثقافته ومداركه واساطيره كذالك !.

نعم :( قل هو الله أحد ) جاءت بكلا الصيغتين الجوابية وكذا الاعلانية، لتجيب من جانب على اسألة المجتمع حول الله سبحانه وماهيته ( هو ) ونسبه وصفته، ومن جانب آخر لتعلن حقيقة هذا الالاه وكيفية توحيده والاخلاص له، مع زيادة ان الاعلان يكون واجب الافصاح عنه بلا خشية من اي شيئ سواه، ولايجوز التكتم على حقيقة هذا الاعلان ابدا !.

اذن : قل يامحمد يارسول الله للمجتمع جوابا لسؤالهم عن نسبة الله سبحانه وصفته، وأعلن بصريح الخطاب بلا مواربة ولاتقية ولا مداهنة حقيقة التوحيد وخلوص صورته كان منطوق قوله سبحانه وتعالى في سورة الاخلاص لمفردة ( قلّ ) .

نعم صحيح انه ليس من السهل اعلان توحيد واخلاص له بشكل يختلف عن ما كان يعتقده المجتمع من حول محمد رسول الله ص، لاسيما ان ادركنا ان عقيدة التوحيد والاخلاص لها كانت تشكل ثورة حقيقية على مقدسات المجتمع الوثني او الكتابي عند العرب ايضا، فعلى هذا الاساس كان محمد رسول الله ص في اعلانه هذا عن التوحيد كحال من يعلن الثورة على عقائد المجتمع الموجوده انذاك، بل ان حاله ايضا كحال من يصرّح بالكفر بباقي الاديان في هذا المجتمع، وليطرح عقيدة الاخلاص والتوحيد بدلا عنها كأطار ينبغي على المجتمع الايمان به، ولهذا كانت ثورة الاعلان اقوى بكثير من جواب السؤال في منطوق سورة الاخلاص في قوله سبحانه :(( قل هو الله أحد )) !.

كما انه يستشف من هذه المحاكاة القرءانية للمجتمع العربي انذاك، وجوابه على اسألتهم التي هي في الاساس كانت تطلب المعرفة من اجل المعرفة فحسب في بدايات وبواكير العصر المكي الذي نزلت فيه سورة الاخلاص هذه، ولم يكونوا يبحثون عن الاجوبة بهدف المعرفة والايمان بها ....، يستشف من ذالك ان من اساليب القرءان البليغة جدا في البناء الاجتماعي هو استغلال اي مناسبة تصدر من المجتمع بصورة سؤال او سلوك او حديث ... او اي شيئ لتوظيفه لاعلان رؤيته ايضا الجديدة بنفس الوقت الذي هو يجيب على اسالة واستفسارات المجتمع، وهذا اسلوب من مميزات القرءان العظيمة الذي يلتقط الظاهرة ليحاكي كل بُنى المجتمع وافاقه الفكرية وغير الفكرية، ليطلب الايمان فيما بعد المعرفة بكل حرف ثقافي يطرحه باسم اسلامه الجديد انذاك !.

تمام طرح القرءان في سورة الاخلاص تقريبا كل التنوعات العقدية التي كانت تتحرك في عصر محمد رسول الله ص، ولم يكتفي بطرح تجزيئي يعالج مثلا عقيدة الوثنية ويغض الطرف عن عقيدة اليهودية الكتابية او المسيحية التوليدية، بل انه طرح بالذات في هذه السورة المباركة التي هي ثلث القرءان حسب رؤية المحاكاة التفسيرية الردّ على اربع طبقات من عقيدة المجتمع العربي التي هي انعكاس طبيعي لتعدد العقائد الثقافية لعالم الامس واليوم لاسيما منها عقيدتي الكتاب اليهودية والمسيحية، وهي :

الطبقة الاولى : طبقة العقيدة الوثنية التي ردّ عليها في قوله سبحانه :(( قل هو الله أحد الله الصمد )).

الطبقة الثانية : طبقة العقيدة المسيحية في قوله سبحانه :(( لم يلد ))

الطبقة الثالة : طبقة العقيدة اليهودية في قوله :(( ولم يُولد ))

الطبقة الرابعة : طبقة العقيدة الثنوية وتوابعها في قوله سبحانه :(( ولم يكن له كفوا أحد )).

أمّا ما يخص طبقة العقيدة الوثنية فمعروف ان الوثنيين يعتقدون بأمكانية تجزيئ الالهة المقدسة فعليا، وان يكون لكل الاه عمل يقوم به في تدبير شؤون العالم والانسان، فهبل الوثني الاه الامطار والنصر، والعزّة الاه ....... وهكذا، لكل الاه في العقيدة الوثنية عمل مستقلّ به ينجزه للانسان حسب قدرته وكفائته، وهذه العقيدة على اي حال لاتختص بطائفة العرب الوثنيين، وانما هي عقيدة عالمية قبل ان تكون عربية يحاكيها القرءان ويردّ عليها باعلانه التوحيدي، فالعالم اليوناني والروماني وكذا عالم الصين القديم والحديث قائم على فكرة العقيدة الوثنية التي تؤمن بتجزيئ الالهة وامكانية تصوير ذواتهم ونحت صورهم ليكونوا حاضري الذوات دائما امام اعين الانسان وادراكه، كما ان العقيدة الشرقية للعالم القديم والحديث ايضا تؤمن بان هناك سلسلة اباء تنحدر منها هذه الالهة من خلال التزاوج وغير ذالك، كل هذا كان منعكسا فكريا وثقافيا وعقديا في مجتمع الجزيرة العربية التي حاكاها القرءان الكريم بلغته ونقد من واقعها ليعلن حقيقة التوحيد في قوله :(( قل هو الله أحد )) وليؤسس فيما بعد فكرة : توحيد الله سبحانه وتعالى !.

اي ان القرءان أعلن من خلال منطوقه في سورة الاخلاص مشروع حقيقة التوحيد امام مجتمع الوثنية في : توحيد الذات الالهية وانها لايمكن ان تكون متجزأة، وتوحيد صفات هذا الالاه المقدس ولايمكن لها ان تكون مشتة فقال : قل هو ..!..

اي ان هوية وماهية هذا الالاه الذي تسألون عن نسبه وصفته الغائبة عنكم انه ( هو الله أحد ) وليس هي الاهة متعددة، او هي الهة متجزأة ومتسلسلة كما يعتقد الوثنيون، كما انها ليس الالهة التي ربما متصارعة مثلما هو موجود في الهة الفلسفة اليونلنية القديمة ....، وانما هي هوية موحدة غير قابلة لاللتعدد ولا للتجزيئ، ولهذا جاء (أحد) في قوله ( قل هو الله احد ) ولم يأتي نسبه سبحانه وتعالى ب (قل هو الله الواحد ) القابل لتكرار العدد بالثاني وهكذا الثالث ....الخ، وانما ولحسم موضوعة التوحيد بالذات الالهية وهويتها الواقعية جاء الاعلان ضد الوثنية واضحا بالقول (أحد ) ليدلل على انصهار جميع ما يتصور من اعداد مكررة في بوتقة احدية ليس لها ثاني ابدا !.

قيل في الفرق بين الاحد والواحد : ان الاحد ليس له ثاني من جنسه في لغة العرب، فاذا قال قائل منّا لم يأتني احد فنحن بهذا نلغي مجيئ اي شخص سواء كان وحده او جاء اثنان او غير ذالك، وهذا بعكس مالوقلنا : ما جائنا واحد مهم !، فان هذه الصيغة العربية لاتعني اطلاق عدم المجيئ من احد، وانما هي تشير الى عدم مجيئ واحد منهم ولكن تقبل ان يكون الاتي اثنين او ثلاثة !.

وعلى هذا عندما نقول ( الله احد ) فكأنما نحن ننفي ان يكون له ثاني مطلقا من جانب آخر، أو كأنما نحن نعلن ان ذاته المقدسة سبحانه احدية لاتقبل التجزيئ ولا التثنية، فضلا عن وجود الهة متعددة بتعدد ذواتها لذات الله سبحانه الاحدية !.

على العموم فهم العقل العربي اعلان :(( قل هو الله احد )) انه اعلان ثورة موجهة لعقيدة الوثنية التي تؤمن بتعدد ذات الالاه الى اكثر من ذات وهوية وشخصية !.

وهنا ربما ينتفض بعض الوثنيين ليقول اننا غير مشركين بذات الله الاحدية، واننا نؤمن بالله سبحانه كواحد أحدي الذات، الا اننا نرى في الاوثان وباقي الالهة انها طرق الى الله الاحد، فهذه الاوثان بصورة او بأخرى تساعدنا على الوصول الى الله سبحانه، او انها ادوات الله سبحانه التي بها يحرك الله سبحانه عالمه الذي خلقه، وعليه فالهتنا الوثنية هذه لاتلغي الذات الاحدية لله سبحانه ولمنها تمثل اذرعه المحركة لهذا العالم فلها اذن نصيب في تدبير العالم والتدخل من ثم في حياتنا على اي حال ؟!.

قال الله سبحانه ردا نهائيا على احتمال ورود مثل هذا النقض على موضوع وجوب احدية الذات الالهية المقدسة بقوله :

*******************

( الله الصمد )

اي انه السيد الذي ينبغي ان يطلب منه كل شيئ !.

والانسان العربي في جزيرة العرب كان يدرك فطريا ان سيد القوم لابد ان يكون واحدا في ذاته لايشركه في سيادته هذه احد، كما انه لاينبغي ان يطلب من غيره اي شيئ مع وجوده كسيد لقومه، فالقيمومة تحتم الادارة الكاملة والطلب يجب ان يتوجه الى السيد القائم بالامر وليس من اتباعه والتابعين لسيادته سواء كانت سيادته القبلية او سيادته المدنية !.

وعلى حسب هذا الفهم العربي الفطري للانسان انذاك حاكا القرءان فطرة هذا الانسان ليسحبها من العقيدة الوثنية المتعددة الالهة الى عقيدة التوحيد الفطرية في سيادة السيد لقومه، فطرح امامه لغة ومنطوق ( الله الصمد ) ليقول لهذا الانسان : ان الله الذي يجب ان يكون في ذاته احديا، يجب ايضا ان يكون في صفاته احديا ايضا، فليس من المعقول عربيا اجتماعيا عرفيا انسانيا : ان نقر باحدية ذات السيد لقومه وانتزاع صفة الاعطاء لغيره، وكما ان السيد لابد ان يكون ذاتا احدية، فيجب ان تكون هذه الذات لها سيادة في الصمدية ايضا والاعطاء والمنع وهكذا، لان كل ذالك من ضروريات مسمى السيادة لسيد القوم وكبيرهم، وعليه وبنفس المنطق كيف نريد ان نقول باحدية الذات الالهية ونحن ننتزع صفة السيادة الاساسية منه سبحانه لنضعها بيد الاهة صغيرة وثنية اخرى ؟.

فالله بما انه احدي الوجود والذات ونافي للتعدد والتجزئة، كذالك هو القائم على ادارة الاعطاء والمنع ولاينبغي ان يكون الموحد طالبا حاجاته من غير السيد الذي بيده كل شيئ، فكيف اذا كان هذا الغير الهة من نسج الخيال وهي عبارة عن حجارة صماء ؟.

صحيح ان السيد ربما يقبل شفاعة المنتخبين لديه، وكذا يقبل المتوسطين لجنابه في بعض موارد الاحكام التي تختص بحيز ادارته للعالم من حوله، لكنّ هذا على شريطة ان يكون الشفيع وكذا المنتخب هو السيد من يقبل به كوسيلة للوصول لرضوانه وانفتاح حنانه وان لايكون مفروضا على الله سبحانه من قبل الجهلة باسم الالهة، وان لايكون بمسمى الهة مع الالاه او من دونه، وان لايكون بمسمى انه ولد له او والد لجنابه سبحانه وتعالى، ولا ان يكون بصفة الندّ والكفوء لرحابة جلاله ...، وعندها واذا لم يكن الشفيع للسيد الاّعبدا لديه وتحت امره وطاعته وفي خدمته ومن المقرين بسيادته فلاضير عرفا اجتماعيا عربيا بهذه الصورة وشرعا بسبب ان الاسلام والقرءان جاء وفق الطبيعة والعرف واللغة العربية الفطرية من ان يلتمس الانسان له وسيلة للوصول الى رضوان الله وقبوله من قبل السيد المصمود سبحانه وتعالى بالاعتبار هذا نفسه !.

نعم ( الله الصمد ) في هذا المعنى كان مفهوما لدى الاجتماع العربي، وانه هو هو الله سبحانه الذي توّحد في ذاته وتوحّد ايضا في صفاته وعطاءه وسيادته !.

************

( لم يلد )

( ولم يولد )

( ولم يكن له كفؤا أحد )

نترك هذه المعاني لمناسبة اخرى لعدم الاطالة على القارئ اكثر من ذالك في مثل هذه العروض الهادفة

للاختصار كي نتناولها حسب اتجاه المحاكاة القرءانية الذي ادخلنا في فضاء القرءان الاجتماعي بلا ان يهدم من اسوار السور، ولا ان يعيش داخل هذه الاسوار بلا منفذ يسلط ضوء شمس المعاني القرءانية على افكارنا لنعتقد ان جميع السور القرءانية ماهي الا صورة واحدة ميتة وليس فيها اي افاق متعددة ومتنوعة وثرية اجتماعيا وفكريا وثقافيا ايضا وبالله التوفيق.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com