|
علي الشبيبي شاعرا ومناضلا وإنسانا
محمد علي محيي الدين كانت النجف الأشرف وما تزال مدينة حاضنة للشعر والأدب ،وعاشت أحلا سنيها بين التراث والمعاصرة، ينهل أبناؤها من نمير الشعر وسائغه ما شاء لهم لما احتوت من أعلام الشعر ،ومنها انطلقت بواكير النهضة الأدبية قبل غيرها من مدن العلم في العراق وسبقت بنهضتها النهضة الحديثة على أثر المعركة الكبيرة التي خاضها الفقهاء العرب وسميت بمعركة الخميس فاحيي هؤلاء سوق الشعر وتحولت المدينة إلى حلبة أدبية يتبارى فيها الشعراء أعذب الشعر وأرقه،وعلى أثر ذلك أنتعش سوق الشعر وراجت بضاعته،فكانت الأندية والمحافل الأدبية تعج بعشرات الشعراء المجودين ممن كان لهم الفضل الأول في أذكاء شعلته ونشر ألويته بعد أن هيمن الأعاجم على مقاليد الزعامة الدينية ودروس الفقه،فكانت توجهاتهم العلمية وبعدهم عن فهم دقائق العمل الأدبي وعدم قدرة ألسنتهم على النطق من عوامل عزوفهم عن الشعر وقرضه مما دفعهم للوقوف بوجه قالته من رجال الدين وعدوه من النقائص التي تزري بطالب العلم مما أدى لضياع الكثير من المواهب لشعراء صرفهم الترقب للزعامة الدينية عن قول الشعر وقرضه ،فكانت معركة الخميس التي شارك فيها عشرات الشعراء البداية الأولى لانطلاق الحركة الشعرية والأدبية وعلى أثرها بدأت المواهب الشعرية تأخذ طريقها للظهور فبرز على أثرها العديد من الشعراء الذين أصبحوا من دعامات الشعر العراقي الحديث وفي المقدمة منهم السيد محمد سعيد الحبوبي والشيخ جواد الشبيبي وآل الأعسم والنحوي وآل كاشف الغطاء وبحر العلوم وآل محيي الدين وغيرهم من الأسر العلمية التي لها أثرها في بعث الشعر وإغنائه بالجديد من الصور والأخيلة والفنون. وامتدادا لهؤلاء راجت سوق الشعر من جديد ،وبدأت بواكير التجديد تأخذ مدياتها في إنهاض الشعر ألنجفي فكان للشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ باقر الشبيبي والشيخ علي الشرقي أثرهم في بروز جيل مجدد من الشعراء كان في مقدمته الجواهري الكبير وأحمد الصافي ألنجفي اللذين نهلا من هذا النبع الصافي فجادا بالروائع التي سارت بها الركبان، مما أنشأ جيلا جديدا سار بالأدب العربي أشواطا بعيدة ألى أمام. وظهر معاصرا لهؤلاء شعراء شباب حذوا حذوهم وساروا مسيرهم فكانت المواجهة الكبرى بين الشعراء الشيوخ الذين حاولوا أبقاء الشعر على ما هو عليه من أخيلة وصور وتعكز على القديم البالي ،والشعراء الشباب الذين أخذوا بناصية التقدم واستلهام ما أستجد على الساحة الشعرية من جديد بهر الطامحين بارتقاء مراقي التقدم والتطور فشهدت محافل النجف الأدبية معارك أدبية طاحنة خاضها الشيوخ والشباب وكان في مقدمة الشباب ألجواهري الكبير يلوذ به من هم دونه سنا كصالح الجعفري ومحمود الحبوبي وعبد الرزاق محيي الدين وعلي الشبيبي ومن ظهر في تلك الفترة من الشعراء المجيدين وتزعم الشيوخ الشيخ كاظم السوداني ومهدي الحجار ولولا الإطالة لأوردنا نماذج لتلك المناظرات وما قيل فيها من رائع الشعر،وكان لاندفاع الشباب أثره في نهضة الشعر وخلاصه من أسر القديم البالي،وقاموا بإنشاء الرابطة الأدبية في النجف التي أخذت على عاتقها رفع ألوية التجديد،ونحت بالشعر ألنجفي منحى جعله في مقدمة الشعر العراقي وأسهم إلى حد كبير في إرساء تقاليد جديدة وحرر الشعر من أسره فانطلق إلى عوالم اتسمت بالجدة والإبداع،وكان للرابطة أثرها في بناء جيل جديد كان له دوره في إعادة الروح للشعر العربي وتخليصه مما علق به من أوضار الفترة المظلمة وكان أشهر شعراء العراق من هذه المدينة التي كانت ولا تزال حاضنة للتجديد والحضارة رغم ما يلوح من غيوم في سمائها سرعان ما تتحول إلى جهام لتعود من جديد حاضرة للعلم والأدب الحي العصري،وحاملة لمشاعل التنوير التي خرجت من رحم العمامة لتبدد الظلمة وتعيد النور ليأخذ طريقه إلى الأذهان،ولعل الأعوام القادمة ستشهد تطورا واضحا برغم السلوكيات المنفرة لمدعي العلم والتدين،وستظهر من بين الحجب الكثيفة بوادر النهضة العراقية لتعود النجف لسالف عهدها مدينة الحضارة والتقدم والانفتاح . في هذه الأجواء ولد الشيخ على أبن الشيخ محمد الشبيبي سنة 1913،وهو يتفيأ ظلال دوحة وارفة الظلال كان لها أثرها في المحيط ألنجفي،فاقرب المقربين إليه الشيخ جواد الشبيبي أديب عصره وشيخ الشعراء المجودين وكما يذكر علي الشبيبي في مذكراته كان يقوم بخدمة جده الشيخ جواد الذي أولاه رعاية خاصة وأفاد كثيراً من مكتبته،وكان لابنه الشيخ محمد رضا الشبيبي أثره الأدبي والسياسي على توجهات الشباب آنذاك،ووالده العلامة الشيخ محمد الشبيبي خطيب عصره وأشهر من ارتقى المنبر الحسيني فكان لكلامه فعل السحر في النفوس وطالما أرهب الحكام بمقوله الرائع وكلامه البليغ،وشقيقه الخالد حسين محمد الشبيبي من أوائل المربين وفي مقدمة السياسيين الذين خاضوا مجال النضال ،وارسوا دعائمه الوطنية في النجف والعراق على أسس قويمة،لذلك أدخله والده أول مدرسة أسست في سوق الشيوخ سنة 1919 وبعد شهور عادت أسرته الى النجف فدخل المدرسة الأميرية الابتدائية وبعد نجاحه في الصف الخامس الابتدائي فاجأه والده باصطحابه إلى أحد العلماء ليعممه ويسلك الوليد الجديد مسلك آبائه فارتدى العمة وهو برم بها لثقلها ولأنها تعيقه عن ما يمارسه أقرانه من العاب وما تفرض عليه من قيود تثقل كاهله ،فسار مسيرة طلاب العلم في النجف ودرس المقدمات على علمائها الأعلام ،واختلط بطلاب العلم واختار لنفسه صحبة من تحلوا بالأدب أو قرضوا الشعر فكانوا يتطارحون الشعر في أوقات السمر،ويتبارون بالتقفية في أوقات فراغهم فكان عليه أن يحفظ الشعر العربي فانتهل الكثير منه وحفظ روائع شعر المتنبي وأبي فراس الحمداني وأبي تمام والبحتري وغيره من أعلام الشعر العربي فكانت حصيلته اللغوية منهم خير معين له في توجهاته الأدبية وعند أنشاء جمعية الرابطة الأدبية والعلمية في النجف كان في مقدمة المساهمين فيها فاشترك في أمسياتها وحفلاتها ومهرجاناتها الكثيرة فصقلت موهبته وظهر أسمه بين شعراء النجف ،وفي تلك الفترة كان العراق بحاجة الى المعلمين فاختير من بين الشباب المتعلمين من يصلح للتدريس فكان في المقدمة منهم لدخوله المدارس النظامية ،وعند أجراء الاختبار المقرر كان في مقدمة الناجحين،فعين معلما تحت التجربة أوائل عام 1934 وفي العام ذاته ثبت على الملاك الدائم بعد نجاحه في الاختبار وممارسته التعليم وعمل في مدرسة الفيصلية والمشخاب التابعتين للواء الديوانية(محافظة القادسية) ثم نقل إلى قضاء الكوفة ومنها الى مدينته النجف،وفصل في عام 1946لنشاطه السياسي ليعود معلما من جديد نهاية عام 1947 ولكن في الناصرية التي بقي فيها حتى عام 1955 أنتقل بعدها الى مدينة كربلاء لتكون مستقره وسكنه حتى آخر أيامه،ولنشاطه السياسي والمهني المعروف فقد أنتخب رئيسا لجمعية المعلمين في كربلاء عام 1958،وانتخب عضوا في نقابة المعلمين في كربلاء ونائبا لرئيس الفرع عام 1959 وأصبح رئيسا لمجلس أنصار السلام في كربلاء وسحبت يده عن التدريس بعد انقلاب شباط الاسود1963وفصل عام 1964 لصدور حكم عليه لمدة سنتين في(21-1-1964) وعاد الى التعليم في 28-9-1968 معلما في الرمادي ثم نقل الى الحلة عن طريق التبادل مع معلم من أهالي الرمادي ثم انتقل الى كربلاء. بدأ نشاطه السياسي المنظم عام 1941 حيث انتمى للحزب الشيوعي العراقي عن طريق شقيقه الشهيد الخالد حسين الشبيبي ،وبإشراف شقيقه تم بناء أول تنظيم للحزب في مدينة النجف،وتولى مسئولية محلية النجف عام 1943 حتى عام 1947 وأصبح ارتباطه بالشهيد زكي بسيم (حازم)،وساهمت محلية النجف في نشر الوعي الوطني والثوري بين النجفيين وكسب العناصر الوطنية للعمل الحزبي وحضر الكونفرنس الأول للحزب في آذار 1944 وكذلك المؤتمر الأول للحزب الذي عقد في آذار 1945،ونشطت منظمة النجف بقيادته في كشف الفساد الذي ينخر المؤسسة الحكومية في النجف،وقيام الإدارة بنهب المواد الغذائية فشنت السلطة بواسطة ضابط شرطة النجف عبد الرحمن دربندي وبالتعاون مع مدير معارف لواء كربلاء عبد الوهاب الركابي حملة لمطاردة الوطنيين وفي مقدمتهم أعضاء الحزب الشيوعي العراقي،وكان الفقيد من بينهم ففصل من التعليم لمدة ستة أشهر امتدت الى ثلاثة عشر شهرا. وترك التنظيم عام 1947ومارس نشاطه السياسي كشخصية يسارية وطنية محسوبا على الحزب رغم عدم انتمائه إليه حتى وفاته،وقد ناله ما ناله من توقيف وسجن ومطاردة وإبعاد فقد أعتقل عام 1946 وفصل من وظيفته وبعد أطلاق سراحه أعيد اعتقاله عام 1948 لأكثر من شهرين،وأحيل الى المجلس العرفي عام 1949 ليمكث ما يزيد على الشهرين رهن الاعتقال ونفي الى لواء ديالى قضاء الخالص عام 1961 ،واعتقل في 10-2-1963 وأطلق سراحه في 8-6-1963 ،وحكم عليه بالحبس لعامين في 21-1-1964 وأطلق سراحه في 29-7-1965 وتذكر كريمته "كانت والدتي رحمها الله (أم كفاح) أو كما كان يسميها والدي (علي الشبيبي) طيب الله ثراه في أشعاره وقصائده كان يسميها (ليلاي).. كانت له نعم الصديقة والرفيقة والزوجة المحبة الوفية، تمكنت بوعيها وهي المرأة الأمية أن تحتوي حياته الصعبة وتقاسمه شظف العيش بحلوه ومره بصبر وقناعة.. كافحت (أم كفاح) من أجل أن يبقى زوجها وأبناؤها صامدين مرفوعي الرأس ليواصلوا مسيرتهم النضالية، فكانت فعلا اسما على مسمى... وبالرغم من بساطتها وعدم اهتمامها بالسياسة لأنها (أمية) كانت ذات قدرة على قراءة المستقبل السياسي ولها وجهة نظرها في الأمور الاجتماعية والسياسية وغالبا ما كانت تتحقق توقعاتها فتبتسم وتقول: ألم أقل لكم ذلك؟ مع الأسف علي ما أعرف أقرأ وأكتب.. مذ كنت صغيرة عرفت والدتي إنسانة قوية ذات كبرياء، ولها قدرة عجيبة على احتواء الحدث والتفاعل معه حسب الزمان والمكان، ترفض الشكوى في كل الحالات بل وتعتبرها ضعفا وثرثرة ليس إلا.. الاعتماد على النفس كان شعارها في الحياة، فكانت تواصل زيارة والدي (علي الشبيبي) وإخوتي في السجون مابين كربلاء والحلة ونقرة السلمان وتشد من عزائمهم، وتدبر أمور البيت المعاشية وترعى بناتها بحرص شديد لينشأن كريمات عزيزات وبما يليق بإسم الأسرة جدا وأبا وعما، بل كانت تعتبر الموروث العائلي بثقله هو الثروة الكبرى لها ولبناتها فحافظت عليه بكل فخر.. أتذكر جيدا عام 1963 وفي شباط الأسود ورغم صغر سني ولكن تلك الفترة لا تمحى من ذاكرتي حيث كنت دون سن المدرسة، حينها خلا بيتنا من الرجال الأربعة وهم والدي وإخوتي الثلاثة، فقد ألقي القبض على شقيقي (محمد علي الشبيبي) صباح 9/ شباط/1963 وكان في ذلك الوقت لا يتجاوز الثامنة عشر أو أصغر، فكانت صدمة قوية لي لأني كنت شديدة التعلق به، في نفس اليوم بلغنا خبر اعتقال والدي من قبل الحرس القومي حيث كان متوجها إلى (الخالص) ليلتحق بعمله.. ثم أعتقل شقيقي الأكبر (كفاح).. وقد أتخذ الحرس القومي المكتبة العامة في كربلاء مقرا لتجميع المعتقلين، وهي تقع في مركز مدينة كربلاء، ولذلك كان صراخ المعتقلين وهم يعذبون مسموعا من قبل المارة والبيوت المجاورة، وهكذا تحولت المكتبة العامة من مؤسسة ثقافية إلى مؤسسة لممارسة الهمجية وانتهاك حقوق الإنسان واغتصاب النساء. أتذكر كيف كنا نذهب بالطعام لوالدي وأشقائي في المكتبة فتوصيني جدتي أن لا أتفوه بكلمة (زايدة) كي لا أتسبب بأذى العائلة أكثر، فكانوا يستغلون شقاوتي ويمزحون معي ويتركوني أتسلل لعناق والدي ليتولى إخراج الرسائل المخفية بطيات ملابسي والتي كان علي إيصالها لبعض المعتقلين من عوائلهم.. وعلي أيضا أن أعود بالردود التي غالبا ما تكون شفوية وقد لا أدرك مضمونها المهم إني أنقلها نصا إلى ذوي الشأن.. كانت زيارات السجن هذه نزهة ممتعة لطفلة لم تكمل السادسة من عمرها. كان والدي يعاني من الضغط النفسي بسبب تواجده في مركز حضاري أحيل إلى مركز لتعذيب الشباب والنساء، فكان يفضفض عن همومه بكتابة الشعر على الورق الرقيق الذي يحصل عليه من علب السكائر! في ذلك الوقت انقطعت أخبار أخي (همام)، الذي كان وجها معروفا ونشطا في كلية التربية، لن أنسى تلك الفترة وحالة الحصار والحيرة والقلق الذي عاشته العائلة خاصة الوالدة مع سبع بنات ولا من سبيل أمامها إلا الصمود والصبر خاصة بعد مشاهدتها وسماعها عن حملات الاعتقالات والتعذيب والاغتصاب فالتزمت الهدوء وعدم البحث عن ابنها دفعا للأخبار المفجعة التي ستزيد من مآسي العائلة . الآن بعد هذا العمر الطويل اسأل نفسي، كم كانت والدتي تتحلى بالحكمة والصبر، ولم تمنح الجزع فرصة ليتمكن منها في أحلك الظروف !! قلما كنت أراها تبكي رغم ما بها من ألم وهم، كانت فعلا مثالا للقوة والتماسك، وكلما سئلت عن أخبار شقيقي (همام) أجابت بدون تلكؤ (أنها لا تعرف عنه شيء، أن كان حيا فالله يحميه وأن لم يكن فهذا طريقهم، قبله كان عمه صارم) . وحينما تشعر بخبث سائلها رجلا كان أو امرأة تهمزه بطريقة تجبره على السكوت، بأن ابنها يحمل فكرا نظيفا وليس تهمه أخلاقية وهي فخورة بزوجها وأبنائها . أزداد قلق الوالد بسبب ضياع أخبار ابنه في وقت كثرت فيه الإشاعات والروايات حول استشهاد الآلاف في التظاهرات وفي مقاومة الانقلابيين، وقد أوحى هذا القلق للوالد أبياتا من الشعر فكتبها في السجن وبعثها للوالدة، أذكر منها: بني لقد أمسى فؤادي مقسما فعندكمو شطر وعندي هنا شطر وفي كل شطر يوغل الداء إنمــا يصارع هذا الداء في محنتي الصبر أقول لدهري : كف يا ويك وارتدع وحسبك إني ليس يثنيني الذعر ويكفيك إنا قد تشتت شملنا وأن دجانا غاب عن أفقه بدر ولا تنتظر منا أنينا وأدمعا وأن نزلت فالحر أدمعه جمر بني تحمل ما تلاقيه باسما فأنت فتى فيما توارثته حر رغم إني كنت في سن لا يسمح بفهم الأحداث وأبعادها ولكني لاحظت إن معظم الأقارب والأصدقاء قد انفضوا عنا إلا القليل منهم والذين لا يتجاوزون عدد أصابع اليد أو اقل.. وقد حزت هذه الحالة في نفسي كثيرا خاصة حينما كنت اشعر ان والدتي كربان سفينة وفي خضم بحر هائج لا قرار له فكانت تكافح مابين زيارات السجن وتوفير احتياجات زوجها وأبنائها، وحرصها على ان تجعل بناتها الأحسن في كل الجوانب.. وغالبا ما كانت تلجأ إلى رهن (مصوغاتها) لتبديد الضائقة المالية التي كانت تعاني منها، بدون تذمر ولم تشرك أحدا سوى أختها (خالتي) والتي كانت تتحلى بالجرأة والشجاعة، وكانت تبعد بناتها قدر الإمكان عن المسؤولية وما يشغلهن بقولها : (هديتي الوحيدة منكم هي دراستكم تنجحون وتبيضون وجهي وتفرحون أبوكم بسجنه..) وفي أحد الأيام ابلغها البقال قرب بيتنا وكان رجلا وطنيا رغم بساطته، ابلغها بأن رجلا من بغداد جاء ويحمل لها أخبار من طرف أخي (همام) !! تحركت بهدوء واحتوت الخبر المفرح بكل صمت، وفيما بعد فهمت أن أخي (همام) نجا من محاولة القبض عليه في شقته، وكان معه رفيقه الشهيد (فاضل وتوت) حيث تمكنا من الهرب عبر السطوح كل واحد في اتجاه، وكان أخي (بالبجامه) واضطر للبقاء طول تلك الليلة الباردة من ليالي شباط فوق أحد السطوح، وفي الصباح سمع أهل البيت يتحدثون عن المآسي التي حلت وجرائم الحرس القومي فاطمأن إليهم وكشف نفسه حيث ساعدوه فأعطوه مبلغا وملابس تساعده على إخفاء أو تغيير هيأته، وبذلك أستطاع التحرك في أكثر مناطق بغداد زحمة وهي الباب الشرقي ليصل إلى المدرسة التي كان يعمل بها وهناك ساعده بعض المدرسين الذين كانوا من العناصر الوطنية الشريفة مما سهل عليه أمر المبيت في غرفة الرياضة.. وقد طلب رحمه الله من والدتي أن تبعث له خالتي لتستأجر بيتا صغيرا وتعيش معه حتى تنقضي تلك الفترة المظلمة.. كثيرة هي الصور الصعبة والمؤلمة التي تقبع في ذاكرتي، فلا زلت أتذكر كيف عاد والدي في أحد الأيام وآثار اللكمات على وجهه وبقع الدم لونت قميصه، حتى أزراره قد تقطعت، وتبين أن عناصر الحرس القومي قد أنزلوه من السيارة أثناء عودته من بغداد وانهالوا عليه بالضرب واللكمات والشتائم، وبعد أن تعبت أيديهم من الضرب تركوه يعود إلى بيته.. كان الحذر يسود بيتنا لأن شبح شباط الدامي لم يزل مسيطرا على الذاكرة، وفي نهاية ربيع عام 1966جاء أخي (محمد) فزعا من خارج البيت ليعلن إن الأمن أخذوا والدي من المقهى لأن عليه أمر إلقاء قبض، سيطر الوجوم على وجوه الجميع، أما أنا صغيرتهم فقد صعقت يومها بكيت بحرقه ولوعة لا توصف، لأن تشتت الشمل وفراق الوالد المتواصل بدا يحز بنفسي كطفلة فتحت عينيها لا تعرف غير السجون والمآسي، وزاد في الطين بله أن عقلي الصغير أختلط عليه الأمر فلم أكن أميز بين أمر إلقاء القبض وحكم الإعدام!! بقي والدي على هذا الحال لأشهر وكانت التهمة مختلقة ومقصودة الهدف منها الإيذاء والخباثه حيث كانت التهمة - على أثر اعترافات لأحد كوادر الحزب –هو ساجت عبد حمادة من الديوانية- وقد ذكر أن مسئول كربلاء المعلم علي محمد الهندي الأصل، والمقصود هو الشهيد علي محمد النوري ولكن ألأمن تمسكوا بوالدي! وبقي الوالد في مراجعة يومية لدائرة الأمن في كربلاء للتحقيق معه بناء على طلبهم حتى بعد براءته وعدم تشخيصه من قبل ساجت أُحيل إلى المجلس العرفي للمحاكمة مما أثار استغراب الحاكم لإصرار أمن كربلاء على أحالته. -وكان في حينها يقول (أنا اعلم ماذا يريدون سأصبر مهما فعلوا ولن امنحهم فرصة لتحقيق مآربهم). أما بعد قرار إعادة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم فقد تم تعيين والدي في إحدى مدارس الرمادي ولم تقدر خدمته الطويلة في التعليم ولا حتى عمره، وبعد سنة من التشتت والمعاناة، نقل إلى إحدى قرى كربلاء وكان الوصول لمدرسة القرية يتطلب المشي على الأقدام لمسافة طويلة ثم التنقل على الدابة لأنها وسيلة النقل الوحيدة في تلك المنطقة التي بقي بها حتى حصل على التقاعد.. ولم يسلم بعدها من مضايقات الأمن ومداهمات البيت خاصة بعد عام 1979، ففرض على نفسه طوقا بتحديد علاقاته بأصدقائه المقربين جدا وهم قلة ليعيش سنواته الأخيرة بين الكتاب والقلم وأشعاره ظلت حبيسة الورق.. بعد عودتي من الخارج طلب ذات مرة مني أن أغلق باب الغرفة ليسرني بشيء ضاق صدره به، حدثني بأنهم يلحون عليه ليكتب قصيدة أو كلمة بحق (القائد والثورة) وأن هذا السكوت والانعزال ليس في صالحه وهو في هذا السن، قال فكتبت المطلع وهذا الشطر الأول منها ثم دس ورقة في يدي قائلا (احفظيها كي احرقها قبل أن يحرقوني إذا وقعت في أيديهم) وكان الشطر الأول : (كلّلك الغار بلا نقطة) كانت إلتماعة نظرته الصادقة وابتسامته الواثقة المحببة إلى روحي جوابا لمخاوف في داخلي وكأنه فهم ما دار في رأسي فسحب يدي بين يديه وهو يقول : أنت صاحبة قلم قد يأتي اليوم الذي تحققين فيه أمنيات لي لم أجد فرصة لتحقيقها.. لن أكمل هذه القصيدة وسأحرق الورقة لأنها خطر علينا جميعا وخاصة والدتك التي أتعبتها معي.. أمنية أخرى كانت لديه وهي أن يطيل الله بعمره كي يشهد نهاية نظام صدام للأسف لم تتحقق حيث رحل عام 1997 ليودع حياة مضنية وعمرا متعبا.." ويذكر نجله الأستاذ محمد علي الشبيبي شيئا عن جلده وصبره وتحمله وبعض من وصاياه التي كان يخصه بها: عاش رحمه الله سنواته الأخيرة في كربلاء بعزلة تامة عن العالم وكأنه يريد بذلك أن يحتج على ما يجري في عراقه الحبيب من ظلم واستبداد، وهو يرى ويتابع ردود فعل الرأي العام العربي والدولي المتجاهلة على ما يجري في الوطن من إرهاب وقتل وتدمير لكل المثل الأخلاقية والوطنية والإنسانية، وأصبحت الساحة العراقية خالية من كل صوت وطني مخلص وصادق وقد سيطر الإعلام البعثفاشي على الساحة العراقية، ففضل الصمت والاعتكاف في البيت محاولا تناسي الواقع المر بعد إن وجد الهوة أصبحت كبيرة، بسبب ممارسات النظام المخابراتية. وكانت رسائله في غربتي بالجزائر أو في بولونية تعكس معاناته وتصور لي ما يعانيه الشعب من ظلم وقهر في ظل نظام صدام الدكتاتوري. كان يتحدى في تلك الرسائل أساليب النظام المخابراتية ويكتب لي بأسم مستعار وبلغة مبطنه ليشكو لي من القهر الذي يعيشه أسوة بكل الشعب. وبعض ما جاء في رسائله: ( .... أما اليوم فقد اجتمعت علي المحن والأمراض فلم اعد ذاك المرح، للقلق الذي يلفنا لفاً وأنت على علم به وعنه. لذا أنا ألازم البيت فلا اخرج إلا للحاجة الملحة. ومن الطريف أن اذكر لك إن بيت شعر كنت أحفظه حيث يذكر المؤلف إن قائله هو أبونا المرحوم ادم لما قتل قابيل أخاه هابيل: تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح الجمعة 1979/11/09). وفي رسالة أخرى: (.... كما إني أتحرز فلا أحب أن ارسم كل ما نعانيه وما نجده لأن هذا غير ميسور أولا، ولأنا نود أن تعيش هادئا....1980/01/02). وأحيانا يشد من عزائمنا فيكتب: (..... لا تأس ، كما يتساقط شعر الرأس، وكما يقص –ظفر طال- وكما تيبس شجرة بعد أن مرت عليها سنون تزهر وتثمر، كذلك الإنسان.... 1987/05/03). ورغم الإرهاب ورقابة الرسائل يحثنا في رسائله على الصبر ومواصلة الكفاح: (....أرجو أن تكونوا –بحكم كونكم شبابا!- أكثر صبرا وأدق نظرا، واشد كفاحا وثباتا أمام المحن والأزمات ....... تحملوا الغربة ولا تبتئسوا مادامت لكم غاية جليلة-هي طلب العلم- وترحموا على من يموت منا حسب. 1987/07/21) يلاحظ قدرته على تصوير الوضع بجمل مختصرة وكم كان يهمه أن نستمر في النضال والصمود مادامت لنا غاية جليلة، وكان مؤمنا بحتمية التغيير نحو الأفضل. أما بيت الشعر التالي: كن وردة طيبها حتى لسارقها لا دمنة خبثها حتى لساقيها الذي كان يكرره في أكثر من رسالة، ويطالبني بالتمثل فيه يعكس الروح الإنسانية العالية التي كان يتمتع بها رحمه الله. وفي إحدى رسائله عاتب بمرارة لأننا تركنا الوطن وجماهيرنا لمجموعة من القتلة يعيثون فيه فسادا. " وله نتاج وفير نشر أغلبه في الصحف والمجلات العربية والعراقية منه"(رنة الكأس) وهي رواية غرامية نفذت نسخها من السوق، و(سوانح) عبارة عن كلمات قصيرة نشرت معظمها في مجلة الكحلاء العمارية، و(على الهامش) وهي تعليقات مختصرة على بعض الآراء ووصف بعض شخصيات خيالية تنطبق على شخصيات حقيقية نشر معظمها في جريدة الهاتف، و(عند المطاف) وهي مواضيع ناقش فيها المفاهيم التي شاعت أيام الحرب العالمية الثانية مثل الوطنية، القومية، الطائفية والإنسانية. وله (دمع ودم) وهي قصص عن حياة المرأة والتقاليد المسيطرة على حياتها، وكذلك (مجرمون في الأرض) وهي قصص عن حياة المستغلين والمستبدين بشؤون الناس، (و-السر الرهيب- وهي مجموعة قصصيةتروي معاناة القرويين، بسبب الاستغلال الطبقي بأبشع أشكاله، في ظل النظام الملكي، وذلك من خلال تعاون الإقطاع والدين والسلطة التنفيذية. و(تلميذ في العاصمة) قصة في خمس فصول تتناول حياة عمي الشهيد حسين الشبيبي (صارم) وقد تركها عام 1963 مع مجموعة من القصص عند صديق له مساح اسمه عودة مهدي السباك في قضاء الخالص مع مجموعة قصصية أخرى، وبسبب أحداث 8 شباط 1963 واعتقاله ومن ثم سجنه، فقد الاتصال بالمدعو عودة ولم يتمكن من استعادة روايته (تلميذ في العاصمة). وله ذكريات معلم تناول فيها ذكرياته خلال حياته التعليمية. وله قصص قصيرة ومقالات سياسية نشرت في المجلات والصحافة العراقية، إضافة إلى مجموعته الشعرية (أنا والعذاب).
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |