لو لم يتوعد أحمدي نجاد المفسدين لما احتجوا

 

 

د. حامد العطية

Iraq_writer@hotmail.com

لم تكن تلك أول مرة يتنافس فيها تيار المحافظين والاصلاحيين، مع التحفظ على المسميات، ولم تكن تلك أول مرة يفوز بها مرشح المحافظين، كما سبق للاصلاحين الفوز بها أكثر من مرة، وانتقاص الفريق الخاسر من نزاهة الانتخابات ظاهرة متكررة في دول العالم، ولكن من النادر جداً ان تصل الأمور إلى حد التهديد بالعنف واستعماله، كما يحدث في إيران الاسلامية عقب الانتخابات الرئاسية الاخيرة، فما هو السبب الذي حدا بالمرشح الاصلاحي الخاسر موسوي لتجاهل القواعد والاجراءات الدستورية، التي تنظم الطعون في الانتخابات واصراره على إلغاء نتائجها، وتصعيد الموقف في الشارع واستخدام العنف العشوائي.

في انتخابات 2005 م فاز الرئيس أحمدي نجاد في الجولة الثانية، وبنسبة تقارب 62 بالمائة، وفي هذه الانتخابات خرج الرئيس نجاد منتصراً بنفس النسبة تقريباً، ولكن مع فارقين مهمين، فقد جاء الفوز في الجولة الأولى، مع اقبال غير مسبوق على الاقتراع، وهي نتائج متوقعة، لو أخذنا في الاعتبار عوامل هامة، بعضها خاص بالانتخابات وآخرى بالمرشحين، فمن المعروف بأن المرشح لفترة ثانية أكثر حظاً بالفوز بالانتخابات من منافسه، ومثالان على ذلك خاتمي في إيران وبوش في أمريكا، بلا تشبيه بالطبع، ولكن توجد استثناءات بالتأكيد، ومن الأسباب التي رجحت فوز نجاد أيضاً رصيده الشعبي الضخم، وقد أعاد للأذهان نموذج القائد الكارزمي، في زمن الزعماء التافهين، من شاكلة حكام العرب والغرب، وقد استطاع نجاد التعبير بدقة عن مشاعر الإيرانيين الذين يرفضون إملاءات الغرب المهينة وتهديدهم لأمن إيران والمنطقة باحتلالهم العراق وأفغانستان وزعزعة الوضع في الباكستان.

صوت الريفيون والعمال والفلاحون والكسبة لأحمدي نجاد لأنه اعطاهم صوته، وتكلم باسمهم، وتبنى مطالبهم، وسعى جهده لرفع مستواهم المعاشي، على الرغم من كل العقبات الكأداء التي وضعها أمامه أقطاب التيار "الإصلاحي"، ولا بد بأنهم ازدادوا تعلقاً به عندما شاهدوه في مؤتمر دوربان متحدياً أنصار العنصرية الصهيونية، فأثبت بأنه ليس نصيرهم فقط بل كل المسلمين المستضعفين، أما موسوي البورجوازي فقد تجاهلهم تماماً، بل ألبهم عليه  بمطالبته بالخصصة وتحرير الاقتصاد والانفتاح على دول الغرب والتحاور مع أمريكا وانتقاده لموقف نجاد من الادعاءات اليهودية حول الهولوكست.

في الانتخابات الأخيرة كان هنالك مرشحان رئيسيان، المهندس نجاد ابن الحداد، بسيارته القديمة وملابسه المتواضعة وابتسامته الخجولة، الذي بدأ عمله السياسي محافظاً لطهران بالانتخاب ثم غدا رئيساً للجمهورية الإسلامية، ومير حسين موسوي، الذي استهل حياته السياسية وزيراً بالتعيين وانتهى رساماً باختياره، فهل من المنطق أن يختار الإيرانيون المتدينون موسوي الذي ترك السياسة والخدمة العامة ليتفرغ هو وزوجته النحاته للفن؟    

نحن العراقيون نعرف جيداً بان من يزور الكيان الصهيوني، العدو اللدود للعربة والإسلام يعاتب فقط، أما الذين ينتقدون فساد الطبقة الحاكمة فيخاطرون بحياتهم، وكلنا نتذكر القول المأثور: قطع الاعناق ولا قطع الأرزاق، وفي أيار الماضي شن أحمدي نجاد هجوما عنيفا على ما وصفه بالـ"مافيا" الاقتصادية في البلاد متهما بعض أركان السلطة  بعرقلة تنفيذ الحكومة لسياساته وبرامجها الاقتصادية، وأضاف في خطابه بمدينة قم المقدسة:   "سنقطع هذه السنة بعون الله ومساعدتكم أيادي اولئك الذين يتلاعبون باموال الدولة". عندما تجرأ أحمدي نجاد وتحدث عن الفساد، وتوعد المفسدين بالمحاسبة، لم يتحسس الفاسدون جيوبهم فقط،، وإنما أعناقهم أيضاً، وأصبح التنافس بينه وبين موسوي والواقفين خلفه صراع بقاء.

في المناظرات التي سبقت الانتخابات تحدى أحمدي نجاد منافسيه وأنصارهم وطالبهم بالكشف عن ثرواتهم الشخصية، وتبددت فرص المرشح المعمم مهدي كروبي عندما أكد استلامه مئات الألاف من الدولارات من محتال، يقبع في السجن حالياً، كما كان لرفسنجاني نصيباً وافراً من سهام احمدي نجاد المضادة للفساد، ورفسنجاني حساس جداً للانتقادات، فهو يظن نفسه محصناً، بفعل تاريخه المعروف منذ تأسيس الإمام الخميني للنظام الاسلامي ، وهو لم ينسى خسارته المذلة أمام أحمدي نجاد، في الانتخابات الرئاسية في 2005م، ويبدوا بأن مجرد التلميح لثروة رفسنجاني الضخمة يثير أعصابه، فما بالك عندما يتحدثون عن صلاته الخفية مع السعوديين، أشد الناس عداوة للإيرانيين والشيعة أجمعين، وبالتحديد رسالته إلى السعوديين التي بشرهم فيها بسقوط  حكومة نجاد.

عندما تحدث الرئيس نجاد عن الفساد أصاب قلب الهدف، فجاء الرد سريعاً من رفسنجاني، في خطاب إلى القائد خامنئي، محتجاً على اتهامات نجاد له بالفساد: "اتوقع منكم التدخل لمنع حدوث فتنة داخلية خطيرة"، وتوعد مرشد الجمهورية الإسلامية بوقاحة: " إذا واصلت التسامح في هذا الموقف فإن بعض الناس والأطراف والفصائل لن تتسامح في ذلك"، معتبراً تصريحات نجاد "تمرداً" ومطالباً بـ"إخماد الحريق الذي بدأ يتصاعد منه الدخان" على حد تعبيره.

ولا بد من التركيز هنا على بعض الكلمات الدالة في خطاب رفسنجاني: فتنة داخلية خطيرة وحريق وعدم التسامح، فهل من التدين والوطنية أن يتوعد مسئول سياسي بإحداث فتنة داخلية لمجرد اتهامه بالفساد؟ ولم يكن وعيده مجرد تهديد أجوف كما اثبتت الأحداث في شوارع طهران مؤخراً.

لم تكن تلك أول جولة في المجابهة بين رفسنجاني ونجاد، بل سبقتها جولات، فقد انتقد رفسنجاني من قبل سياسات نجاد الاقتصادية، واستبداله لبعض الوزراء والمسئولين الكبار المحسوبين على رفسنجاني وحليفه خاتمي، والموضوع المتكرر في انتقادات رفسنجاني هو التأخير في تطبيق الخصصة، وكما هو معروف فإن المستفيدين الأكبر من برامج الخصصة التي تفرضها الحكومات الغربية والبنك الدولي على الدول الآخرى هم الشركات الغربية الكبرى والرأسماليون المحليون، لذا لا غرابة أن يركز عليها الثري رفسنجاني.

والجدير بالذكر هو انضمام هاشمي شهرودي، رئيس السلطة القضائية، للفريق المعادي للرئيس أحمدي نجاد، وكان من المفترض بقاؤه على الحياد، لكنه كشف عن ميوله عندما هاجم سياسات وتصريحات أحمدي نجاد اكثر من مرة، وشهرودي لمن لا يعرف هو أول رئيس للمجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق، وكان اسمه آنذاك محمود الهاشمي، ثم تحول إلى شهرودي بعد استلامه منصب رئيس السلطة القضائية، ولن نستغرب لو تبين بأن المجلس الاعلى بقيادته العراقية الحالية منحازاً كل الانحياز لرفسنجاني وفريقه "الاصلاحي"، مما يفسر أيضاً مواقفه اللينة جداً من الاحتلال الأمريكي البريطاني، وابرامه للاتفاقية الأمنية التي أخضعت العراق للهيمنة الأمريكية على المدى الطويل.

كانت إشارة البدء بالتمرد للاصلاحيين وحلفائهم في الداخل والخارج إعلا ن المرشح موسوي  فوزه بالانتخابات مباشرة بعد إغلاق صناديق الاقتراع، وحتى في أمريكا التي تجرى فيها الانتخابات إلكترونياً وتنظم وسائل الإعلام استطلاعات للمنتخبين بعد ادلائهم بأصواتهم مباشرة لا يستطيع أحد التكهن بالنتيجة إلا بعد مرور يوم أو بضع ساعات على الأقل، لكن الخاسر موسوي أراد أن يهيأ الأجواء للتمرد والعصيان بادعاءه الفوز قبل ظهور النتائج لصالح أحمدي نجاد.

كان موسوي المحرض الرئيسي، وسارع رفسنجاني لمساعدته، فارسل ابنته المدعوة فائزة للمشاركة في التحريض، ومن ورائهم كان خاتمي يقذف بالحطب على النار، كما أعيدت للأذهان انتقادات شهرودي، ولكن تحريضهم لم يجد صدى إلا بين أعداء الجمهورية الاسلامية وقيمها ومبادئها من بقايا منافقي خلق وأنصار النظام البهلوي المنقرض والمراهقين المنحرفين والمشاغبين، وكان أخوانهم في الغي من حكومات ووسائل الإعلام الغربية والصهيونية والاعرابية يمدونهم بالعون، ولكن سرعان ما انفض الجمع ولم يبق منهم سوى المشاغبون، الذين اعتدوا على الناس، وأحرقوا الممتلكات، ودنسوا المقدسات، مما أجبر السلطات على التصدي لهم وايقافهم.

لقد صدق رفسنجاني عندما توعد بالفتنة الداخلية واشعال الحرائق، لكن أبي فائزة ورهطه خسروا الجولة، ونتمنى أن تكون خسارتهم نهائية، فما أقدموا عليه ليس مجرد احتجاج عنيف على نتائج انتخابات، بل مؤامرة خبيثة لتخريب النظام الاسلامي، وهم متهمون بتدبيرها من قبل صدور النتائج، والهدف منها ليس فرض مرشحهم الخاسر وإنما تقويض النظام الاسلامي برمته، وحرفه عن أهدافه وقيمه ومبادءه، وإعادته للتبعية للغرب سياسياً واقتصادياً.

إذا أرادت القيادة السياسية والدينية في إيران الحفاظ على نهج الإمام الخميني رضى الله عنه فإن عليها التعامل بأشد درجات الحزم مع رفسنجاني وبقية المتآمرين، وتحميلهم كامل المسئولية عن أحداث التخريب والتحقيق معهم، كما ليس من المعقول استمرا رفسنجاني في مناصبه القيادية، فأما أن يستقيل ويقبع في بيته ملوماً مدحورا أو يقال، وإن ثبت وجود مؤامرة فلابد من تقديم المتورطين فيها للمحاكمة، مهما كان تاريخهم السياسي أو مقامهم في المؤسسة الدينية.

أحمدي نجاد الكبير بتواضعه والثري براتبه القليل والقوي بمواقفه العادلة يسير على نهج الإمام الراحل الخميني، الذي انتقده إمام الحرم المكي الوهابي السعودي أمام الملك خالد بعد زيارته في الأيام الأولى بعد نجاح الثورة متندراً: "خميني ما عنده كنب"، أي ليس لديه أرائك وكراسي، وكذلك الشهيد العظيم محمد باقر الصدر، الذي روى لي إبن عم بأنه شاهده مرتدياً جوارب رثة عندما صلى على جثمان عمي، وهكذا كان الشهيد السعيد محمد الصدر، لابساً كفنه، عظماء نذروا أنفسهم لخدمة الدين وإعلاء كلمة الله، فهم القدوة لنا في مقارعة الظلم ونصرة الحق والسمو فوق الرغبات والأهواء. 

تأسست الجمهورية الإسلامية في إيران بثورة، كما أحدث الشهيد السعيد محمد الصدر ثورة في الفكر الديني الشيعي السائد عندما دعا للحوزة الناطقة، وها هو أحمدي نجاد يكمل المسيرة بثورة على رجال الدين الانتهازيين في المؤسسة الدينية الشيعية، الذين يستغلون مكانتهم الدينية لكسب الأموال والمناصب، ولا يكترثون لمعاناة المستضعفين، ولا يتبنون قضاياهم، ولا يدافعون عن مصالحهم، بل يثبطون عزائمهم، ويقتلون هممهم بدعوتهم للهدوء والصمت والسكينة والقبول بأوضاعهم المزرية.

إنها ثورة بكل المعاني، ولو استمرت فستكشف عن الوجه الناصع للمذهب، الذي لا يهادن المحتلين، ولا يقبل بذل هيمنة المستكبرين، ولا يسكت على الطغاة المتكبرين، ولا يرضى باستغلال الأثرياء للفقراء المستضعفين، ولا قيمة فيه لحسب أو نسب أو انتساب ظاهري للدين، بل هو لكل المؤمنين المخلصين لدينهم والنافعين بعلمهم وعملهم الناس أجمعين، ليعود التشيع إلى أصحابه الحقيقيين. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com