نوري السعيد باني الدولة العراقية الحديثة


كتابات - د.عادل العراقي

shehryar0@googlegroups.com

نوري السعيد باني الدولة العراقية الحديثة اثبتت الوثائق والاحداث وطنيته

قدمت على شاشة التلفزيون العراقي عام 1992 من قبل الاعلامي المعروف فيصل الياسري في برنامجه عن الكويت شهادة عن وطنية نوري السعيد. حينها قرأ علينا المذكرات التي قدمتها الحكومة العراقية برئاسة نوري السعيد مطلع عام 1958 الى الحكومة البريطانية عندما بدأ الحديث عن انسحاب القوات البريطانية من الكويت او ما سموه البريطانيون حينها الانسحاب من شرقي السويس وكانت اخرها المذكرة التي قدمها الحكومة العراقية بعد استدعاء السفير البريطاني يوم 12 تموز 1958 والتي حددت مطاليب العراق بواحد من ثلاثة :

- ضم الكويت للعراق. او

- عودة حدود الكويت الرسمية بعد انسحاب القوات البريطانية الى حدود سور مدينة الكويت القديم. أو

- انضمام الكويت الى الاتحاد العربي الهاشمي

وكانت اجابة السفير البريطاني المثبتة في وثائق الخارجية العراقية ان رد الحكومة البريطانية سيصلكم بعد يوم غد أي يوم 14 تموز وطبعا وصل الجواب يوم 14 تموز كما رأينا. يؤيد هذا الراي ما نقل عن المرحوم نوري السعيد حين علم بالانقلاب صبيحة يوم 14 تموز بقوله : سووها الانكليز!!

من خلال مطالعاتي للتأريخ العراقي اجد ان نوري السعيد هو افضل رجل دولة انجبته بلاد الرافدين ,ذلك انه بنى ورفاقه دولة من لاشيء بعد انسحاب القوات والادارة العثمانية المفاجيء للعراق واحتلاله من قبل القوات البريطانية التي قادت خرابيطها الى ثورة العشرين والتي كانت مقدمة لبديء الدولة العراقية الحديثة. بنى المرحوم نوري السعيد ورفاقه دولة قانون ومؤسسات عصرية بمعنى الكلمة. دولة وأي دولة !! لاتحمل اي مسحة طائفية. علمانية وتحترم القانون الى ابعد الحدود لاتسمح بالفساد الاداري والاختلاس والرشوة ولايستطيع الملك فيها ان يأخذ فلسا واحدا اكثر من مرتبه الشهري. ولايمكن لرئيس الوزراء ان يعين فراشا او شرطيا واحدا خارج ما تحدده وزارة المالية من درجات.

ليس هدف المقالة ان تنصف نوري السعيد والعهد الملكي ففي حكايات عامة الناس وخاصتهم عن تجاربهم الشخصية مع الباشا واقطاب العهد من الادلة مايكفي لكل من امتلك قدرة التحقيق والبحث والمقارنة والقياس ليكتشف بنفسه سمو نفوس المؤسسين للدولة العراقية الحديثة وديمقراطيتهم وايمانهم بكرامة الانسان وحقوقه واحترامهم للقوانين وحرصهم على المال العام وعلى اداء الواجبات المناطة بكل واحد منهم بدون ضجيج ولا تبجح ولا تصفيق وتمجيد بل انهم سكتوا على سخرية الكتاب والنواب والشعراء منهم وكفى بمن يسكت على قصيدة الجواهري : أي طرطرا تطرطري دليلا على احترام الرأي الاخر والحلم الواسع.

نوري السعيد وجعفر العسكري ومولود مخلص واخرون تركوا بغداد وهم مراهقون لم يتموا سن البلوغ الى الاستانة ( اسطنبول ) للالتحاق بالكليات العسكرية وشاركوا في معارك الدولة العثمانية برجولة والتزام ولكن حين حانت فرصة استقلال وطنهم ونشوء الدولة العربية لم يترددوا في ان يكون الى جانب العراق وطنهم فحسب ولم يقيموا لمصالح تركيا اي وزن.كافحوا وفاوضوا وتعنتوا ليستخلصوا الموصل من الدولة التركية الحديثة.

نعود الى المرحوم نوري السعيد ورفاقه المؤسسين للدولة العراقية الحديثة. كنت اتساءل خلال السنوات الاخيرة, ايهما افضل جعفر العسكري ام نوري السعيد واجد الجواب في رأسي بعد مقارنة سيرة وقابليات أي منهما ان جعفرا كان يحمل من المقدرة والمواهب ما يزيد عن نوري السعيد الا ان الاخير صار متمرسا أكثر في ادارة الدولة لان الاول فضل العمل الدبلوماسي وقضى اكثر من نصف فترة خدمته بعد قيام الدولة العراقية وزيرا مفوضا في لندن وطهران وربما سواهما من العواصم.لو كان جعفر العسكري مصريا لكتبت عنه المجلدات وحلف برأسه كل العرب.. لو ان ضابطا امريكيا قام بالاعمال البطولية والمغامرات الخيالية التي قام بها جعفر العسكري اثناء الحرب العالمية الاولى في البحر الابيض الذي تسيطر عليه اساطيل الحلفاء لايصال السلاح الى السنوسيين في ليبيا لانتجت هوليوود عشرات الافلام عن رامبو حقيقي لايعرف الخوف ولا المستحيل. قصة محاولة هروبه من سجن المعادي بمصر بعد ان القى البريطانيون القبض عليه بواسطة البطانيات المشدودة بعضها ببعض وتقطعها في الهواء خلال محاولة الهرب كانت ستكون فلما يحصد جوائز الاوسكار لو كان جعفر العسكري امريكيا ولكن نحن نسحل من يبني ونهجر من يخدم مرضانا وننفي المبدعين ونشتم الوطنيين ولايسلم من لساننا احد.

هل يعلم القراء العراقيون ان جعفر العسكري كان يتقن سبع لغات؟؟هؤلاء مؤسسو الجيش العراقي والدولة العراقية.

نوري السعيد اكتسب شهرة اكبر من جعفر العسكري لانه حين استشهد على يد الرعاع والسفلة من شعبنا كان في السبعين من العمر بينما استشهد جعفر العسكري قبله بعشرين عاما عن عمر يناهز 51 عاما. ومن قصة استشهاد جعفر تستنبط مدى شجاعته وثقته بنفسه وحب الجيش له. فحين علم بانقلاب بكر صدقي توجه الى قوات الانقلاب ليقنعها بالعدول عن تلك الحركة التي دشنت عصر الانقلابات العسكرية في الوطن العربي ولان بكر صدقي يعرف محبة الجيش له فقد أعد كمينا في الطريق قام بأغتياله.

اذن فحكم نوري السعيد او لنقل دوره الرئيس في الدولة العراقية دام لاكثر من سبعة وثلاثين عاما وهي كافية بسبب استمراريتها وتواصلها لان تكسبه شهرة كبيرة في تاريخ العراق تزيد على جعفر العسكري والحقيقة ان كل الحكام الذين تركوا أثرا في التأريخ العراقي هم ممن حكموا لفترة متواصلة غير قصيرة . فتذكر كتب التاريخ حكاما قادوا العراق لفترات تتراوح بين 22 و45 سنة مثل حامورابي و نبوخذنصر والمنصور وهارون الرشيد والمأمون والناصر لدين الله ونوري السعيد وصدام حسين بينما لم تلتفت كتب التأريخ لعمالقة اخرين لقصر فترة حكمهم كالمهدي والامين ومولود مخلص وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وعبدالرحمن البزاز.

ليست القيادة علما يدرس ولا شهادة يتحصل الانسان عليها بل هي موهبة تخلق مع الانسان تتكامل مع وسامة الوجه الرجولية وتناسق الجسم ونبرة الصوت المؤثرة والحضور المتميز او مايصطلح عليه بالكاريزما وتسموروح القيادة بتراكم التجارب والاطلاع على تجارب الامم والاختلاط بالقادة والمفكرين والقرب من عموم الناس. وحين يكون القائد زاهدا بالمادة لايسحره بريق الذهب وشبعان لايعاني من جوع قديم يصبح جوهرة تلمع بين المعادن الرخيصة. ولانصاف نوري السعيد ووطنيته اورد مما طالعته بعض المواقف لتخبر القاريء عن نوري السعيد القائد الذي ظلمه العراقيون

مثال اول:

ذكر الكاتب التراثي المرحوم عبدالحميد العلوجي في زاويته الاسبوعية في جريدة الجمهورية ايام كان سعد البزاز رئيس تحريرها في التسعينات الموقف التالي:

كنت طالبا في الثانوية حين رايت الباشا يتوقف بسيارته عند دكان بائع الفاكهة المعروف (كنو) الواقع قرب تمثال الرصافي الحالي. كان الموسم بداية الحر ونزول المشمش للسوق. أخذ الباشا كيسا ورقيا اسمر وجعل ( يقلب ) كوم المشمش ويلتقط الثمار الناضجة القليلة وسرعان ما أخذت ( أي عبد الحميد العلوجي) من( كنو) كيسا ورقيا وبدأت بجمع ثمار المشمش متسابقا مع الباشا التقط الثمرة الناضجة التي تظهر بعد تقليبه للكوم قبل ان يلتقطها. فتبسم نوري السعيد وردد : واي واي يتعب ابو كلاش وياكل ابو جزمة!! انتهى الموقف الاول . ولكن !! بربكم هل في كل العالم الثالث رئيس وزراء بهذا التواضع والشعبية والثقة بالنفس وبالمواطنين؟؟ قد يتصرف مثل هذا التصرف قائد او ملك او وزير من الدول الاسكندنافية اما في غير تلك الدول فلا وجود لقائد بهذه البساطة

مثال ثان:

منقول من مقابلة اجراها السيد قحطان جاسم جواد مع الفنان الراحل عزيز علي عام 1995 ونشرت في جريدة الصوت الاخر العدد 57 في 27 تموز 2005 وانقلها بنصها لطرافتها ومدلولها العميق عن شخصية نوري السعيد

*ماذا حدث بينك وبين نوري السعيد في استديو الاذاعة عام 1956؟

-في يوم اربعاء من اربعاءات عام 1956 كنت استعد لدخول الاســتديو لانشاد مقال (السفينة) و(صل عالنبي) واثناء الانشاد فوجئت بوجود (نوري السعيد) -باشا- وراء زجاج غرفة مراقبة الاستديو ينظر اليَّ مع بعض موظفي الاذاعة وقد خيل اليَّ انه سيكرمني فأنسجمت مع المقال وبعد فترة ترك غرفة المراقبة وعاد بعد قليل وهو يحدق بي ويطيل النظر نحوي وبعد لحظات دخل مهندس الاذاعة (ناجي صالح) واسر في اذني (هل تحمل معك مجموعة اشعارك لان الباشا يريد ان يراها) فسلمته اياها وهي بخط يدي وكان الباشا قد سأله (لك هذا شنودا يحجي من كلبه) فأجابوه (لاباشا هذا هو ينظم ها الاشياء وحافظها ويقرأها على الغيب ومدير الاذاعة موافق عليها) فطار صواب الباشا وقال وين مدير الاذاعة فأجابوه (طلع قبل شيويه) فقال (لعد جيبولي الاشعار اللي دايكولهه هذا- يقصد عزيز).

بعد حين عاد المهندس ناجي ليقول لي (الباشا يريدك) فذهبت اليه وانا اجهل ماقاله للموظفين.. فقال الباشا وبشكل يوحي بعدم الرضا) انت شدعوه هلكد متشائم.. وداتبجي الناس بها الحجايات ييزي تتشاؤم... ييزي مضت علينه اربعميت سنة واحنا نبجي)) ثم اردف قائلاً:

(انت شنو شغلك)؟ فقلت اني موظف بالكمرك فقال (واي واي.. جمالة موظف بالحكومة) فقلت لنفسي (اكلها عزيز افندي خوش تكريم راح يكرمني الباشا).

ثم قال الباشا شنو(جي) وشتقصد بعبارة (اخر كل علاج الجي) فقلت باشا انت باشا تعرف الجي فقال الباشا(المن تريد الجي) فأجبته لم اقصد ناساً معينين.

فدس المجموعة في جيبه وقال بسيطة وغادر المكان فخفت في حينها ولم انم في تلك الليلة وفي اليوم التالي ذهبت الى كمرك بغداد حيث كنت اعمل مخمناً فرن جرس الهاتف وحدثني الاستاذ|(خليل ابراهمي) مدير الدعاية العام وقال الباشا يريدك ويبدو انه كان يظن انك شيوعي.

فذهبنا سوية الى مجلس الوزراء في القشلة واستقبلنا الباشا قائلا (شتشربون) فاعتذرنا كلانا عن طلب شيء ثم قال (انته يا اخي الله ناطيك هالموهبة تسفط الكلام مثل ماتريد فليش دا تفزز الناس واتبجيهم كول البلد بخير وبيه رجال مخلصين يكدرون يقضون على هالعيوب والافات.. ليش تلزم الجوانب السلبية وماتذكر الايجابية ثم توقف عند كلمة في مقال (حبسونا) اقول فيها (مجلسكم مجلس اشرار) وقال بالله هذا اشلون حجي فأجبته بانني اقصد مجلس الامن وليس مجلس الامة فقال ليش اني غشيم هذا الحجي مايعبر عليَّ. فسكت ثم اعاد اليَّ المجموعة وغادرت بدون ان يعاقبني الباشا لكن (خليل ابراهيم) الذي بقي في غرفته بعد خروجي وبعد ذلك قال خليل ابراهيم (الباشا تأكد انت موشيوعي وصار معجب بيك هواية) فقلت له ارجوك ان تشطب اسمي من برامج الاذاعة وقد خفت على نفسي كثيراً وفعلاً لم اذهب الى الاذاعة في الاربعاء الذي تلا الحادثة رغم اذاعة اسمي وموعد برنامجي في ذلك اليوم لكن جريدة الاهالي هاجمت الباشا في اليوم التالي وقالت انه ذهب الى الاذاعة لاسكات اصوات الحق المتمثلة بالادباء والشعراء.. فأزددت خوفاً وشعرت ان عدم ذهابي هو السبب في ذلك وكي لاتتطور الامور اكثر ذهبت في الاسبوع التالي وانشدت مقال (انعل ابو الفن لابو ابو الفن).

وبعد ثورة 1958 حدثني د. (مصطفى جواد) قائلاً (كنت عند نوري باشا في احد الايام ومصادفة ادار مؤشر الاذاعة فسمع مقالك (الفن) وتابعه بكامله لكنه قال عندما انتهيت- شوف شوف ابن الـ... دايشتمني)

وضحكت كما ضحك د. مصطفى جواد والاستاذ عبد الحميد العلوجي الذي كان يشغل معي نفس الغرفة في وزارة الارشاد.

مرة اخرى في اي دولة في العالم يعاتب رئيس الوزراء بنفسه شاعرا او فنانا مناهضا له وينتهي الامر دون عقوبة؟؟.لاحظ مدى احترام نوري السعيد لقوانين الوظيفة وحرية التعبير

المثال الثالث:

أورده الدكتور علاء بشير في كتابه كنت طبيبا لصدام وهو الكتاب الذي جلب للدكتور علاء الازدراء من قبل زملائه الاطباء لانه حنث بالقسم الطبي بعدم التحدث عن خصوصيات مرضاهم فقد جاء فيه انه كان وزملاؤه من طلاب الاعدادية المركزية في بغداد يرمون سيارة رئيس الوزراء نوري السعيد بالحجارة من على سطح المدرسة حين يمر في طريقه للبرلمان .

فأذكروا لي سياسيا ديمقراطيا واحد متسامحا الى هذا لحد وحريصا على نشر روح الديمقراطية والتسامح ليس في العالم الثالث بل وفي كل العالم !! واكثر من ذلك ان علاء بشير يقول في كتابه ماياتي:

"ومرة زرته لعلاجه وكان يقرأ كتابا عن تاريخ العراق الحديث فطلب مني الانتظار حتى ينتهي من قراءة الصفحة، بعدها سألني عن نوري السعيد فقلت له مرة انا رميت الحجر على سيارة نوري السعيد عندما كنت طالبا في الاعدادية المركزية وأنا اليوم نادم جدا على فعلتي هذه، فقال لو عاد التاريخ نفسه وقابلت نوري السعيد لأنصفته."

أتساءل هل من المصادفة ان يطالب بالكويت كل من الملك غازي ونوري السعيد وصدام حسين وهل ان لعنة الكويت ادركت كل واحد منهم؟

ارجو ان اكون بهذا العرض البسيط قد وفيت رجلا فذا مثل نوري السعيد بعض حقه لعل هذا الشعب ان ينصفه.

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com