لماذا "تمغربها" يا شاعري الكريم؟

 

 

الوزيرة خديجة حمدي

bithani2008@gmail.com 

قبل أن أكتب، فكرت كثيرا في ثقل الكتابة إلى أديب وشاعر بحجم احمد ولد عبد القادر من موريتانيا الشقيقة، شاعر شكل لي ولجيلي صحوة الكلمة الموزونة عندما تتمرد وتحتقن بكل أسباب التحدي والعناد لتكون رصاصة وتكون وعيا يفجر أعماق البركان، وعندما تكون - وهذا هو الأهم - عامل وحدة لنا نحن العرب في قضية لم نختلف عليها أبدا وهي حرية فلسطين. غنيت: في الجماهير تكمن المعجزات ومن الظلم تولد الحريات، ليس بصوت الفنانة ديمي مثلا، ولكن بروح أدماها ظلم الأشقاء وتسلقت كل حرف منها على أوتار دموع شابة صحراوية تبحث عن مغزى أو مبرر لغزو المغرب للصحراء الغربية، وكلما إستنجدت فلسطين الجريحة بعزة وأنفة الشاعر احمد ولد عبد القادر قلت لصحرائي مهلا: هو ذا الرجل الأبي الذي قد ينصفك عندما جفاك العرب الآخرون، وأفاجأ به عبر حديثه الشيق مع قناة الجزيرة مساء الجمعة 19/06/2009 "يعلن مغربة العيون" بهدوء الشاعر وصدقيته دون أن يدرك أن الآلاف من الصحراويين في مخيمات العزة والكرامة وفي الأراضي الصحراوية المحتلة وفي مهجرهم المتناثر هنا وهناك، يتابعون إطلالة الشاعر الذي أحبوه وآمنوا بأن شعره لفلسطين هو لهم، وأن حبه للحرية قادر على جعله يفهم ما يجري بيننا والمغرب، وأن يتريث بحكمته المعهودة كي لايساهم في استفزاز الجرح النازف.

 

 

لقد زار الشاعر القدير والأديب المحترم "العيون المحتلة"، وكانت بالنسبة لي خطوة تكسر الجمود والحواجز بين الأدباء والمفكرين الموريتانيين والصحراويين، وتعطيهم فرصة اللقاء الحميمي عن قرب، ورغم أن "العيون" تحت إدارة الاحتلال المغربي، فإن ذلك لم يمنع من أن تسعد باستقبال شاعر الجماهير، وقد كنت متأكدة أنه يزور العيون ليرى عن قرب كل شيء يدور هناك، وأنه يأتيها شاعرا من صنف المنزهين عن الابتذال، الواعين بنكد الشعوب المكبلة بقيود الاستعمار، المدركين لنوايا السلاطين الجشعين الذين يلتهمون الأرض والإنسان وكرامة المبدعين، حاشا لله يا شاعري الكريم. لقد استقبلكم أهل الصحراء الغربية بحرارة خاصة، ربما لن تجدها إن كان الاستقبال في الرباط أو اڨادير أو الدار البيضاء أو مراكش مع كامل التقدير لكرم الشعب المغربي العزيز، فالشاي المنعنع في العيون له نكهة لا يتذوقها إلا البيظان عندما تتداعى الحوارات باللهجة الحسانية التي لا يستطيع سبر أغوارها إلا أنت وأهل العيون، وجلسة حميمية مع الأهل هناك حول "قصعة" الكسكسي المتقى برمته يد بدوية نقية لا تعوضه "البصطيلا" ولا طواجين اسلاوي المتنوعة.

فمن المؤكد أن أبهة الاستقبال وأنت تستحقها علينا جميعا لم تخف عنك غضب أهل الصحراء الغربية، وأن عيونهم العميقة نقلت لك لغة خاصة لا يفهمها إلا الشعراء في أرقى لحظات التزامهم. فتحت كل ملحفة- ياسيدي – جسد امرأة أكلته السياط، وفي ملحفة كل امرأة هيكل عظمي أحرقته الزنازن المغربية في قلعة مڨونة الرهيبة وفي القنيطرة وتازمامارت والسجن لكحل وآيت ملول وغيرها من قلاع الموت التي تفنن الغزو المغربي في جعلها مساكن خاصة للصحراويين، تعبر عن "رغبته" الواضحة في التنمية لهذه الأرض تحت كل ملحفة حزمة أحزان وبقايا ذكريات للهروات عندما تنهش جسد "امرأة بيظانية" كريمة عزيزة فتحوله إلى خارطة للإغتصاب والحط بالكرامة الإنسانية، لقد سمعت نساؤنا كل الكلام البذئ الذي تقشعر له أبدانهن المحطمة وتجرعن أنواع الشتم والسب.

تحت كل دراعة يا سيدي بقايا رجل يرفض الموت الممنهج رغم تجواله لسنوات وسنوات في القلاع السالفة الذكر، ليخرج مهوسا أو محروقا بالبنزين وهو حي أو مشلولا مدى الحياة لا تتحرك منه إلا عيناه. وتحت كل دراعة يضمحل رجل ليخرج منها طفل يصنع البقاء والتواصل، وينمو كبذرة عصية على الذوبان يحبو وينطق بلا بديل، لابديل عن تقرير المصير. آه – يا شاعري الكريم – لو سألتهم لحكوا لك حكايات يندى لها الجبين ولتكررت لك آلاف الحكايا كتلك التي تكلمت عنها في "ليلة عند الدرك". الدرك، كلمة قاسية، هي عنوان السلطة والأمن الذي هو حق المواطن على الدولة لكنها تفقد معناها الحضاري عندما يسخر أصحابها لتعذيب الناس وتشويه أجسامهم، وإقصاء أفكارهم وانتشال الحرية من حناجرهم وقلوبهم، وتكبل أياديهم لأنها تأبى التصفيق لغير الحق.

هل نسيت يا سيدي حكايات الزنازن، عندما كانت السلطات الموريتانية في أزمنة معينة تجعل منها ساحة ضيقة تخنق فيها رغبتك الجامحة للانطلاق. لقد قلت أنك صحراوي لا تقبل الجدران ولا المسافات المحددة قهرا لأنها تشوش على نظرتك لعالم شاسع بلا قيود ولا حدود؟ أنت مثلنا نقرأ الأفق الممتد بشكل لا متناهي الأبعاد، الأمر الذي يجعل الزنزانة مقصلة الإعدام بلا رحمة. ربما كانت الزنزانة في موريتانيا من "نوع راق" ولا أظن، فكل الزنازن هي وعد لإيقاف الحياة وتسلط على إرادة الله الذي يحي ويميت لكن تأكد أن الزنزانة في المملكة المغربية هي مكان لتأليف الموت في أساليب عدة، وهي مخبر يتفنن فيه السجانون المغاربة لاستئصال الكرامة، كأن تغتصب شابة أمام أبيها، أو يجعل من هذا الأب الهرم حمارا يرغم شاب على إمتطاء ظهره المقوس ونتف لحيته البيضاء تمريغا لوقاره في وحل النذل والجبن، أو كأن تجبر أم على التفرج على دورة تعذيب لأبنها الذي يسلم الروح أمام عينيها الباكيتين. لا، لا، أنا متأكدة أنك لم تسمع عن هذا أو غيره، ولو سمعت لأعدت النظر في "هوية العيون" ولصغت من جديد جل قصائدك لتصنف أهلك وذويك في الصحراء الغربية، فالمغربة لكل شيء هي من شيم النظام التوسعي في المملكة المغربية التي يطال جشعها المتمطط كل مرة جزاء من المحيط حولها، فالنظام المغربي قد جبل- للأسف- على فلسفة الاستعمار والاحتواء ألقسري وانتهاك حقوق الشعوب والإنسان، وهي كلها" مفاهيم ضالة متعفنة"، تسلح بها لمغربة موريتانيا تارة، وتارة أخرى لمغربة الجنوب الجزائري، وهاهو يحاول مغربتنا بالقوة اليوم. والمغربة هاته لاتفرض بانتهاك الشرعية الدولية وتجاهل مطلب شعب، لان الصحراء الغربية انتماء وهوية وتاريخ يرفض التبعية والولاء. إن شعبنا ينتفض، كما تنبأت عن أهلنا في فلسطين، هلا سألت عن حي معطلا وحي السكيكيمة وشارع نڨجير، هلا سألت عن انتفاضة الاستقلال 2005؟ عن غضب السمارة وبوجدور والداخلة بل وڭولميم والطنطان وآسا ومحاميد الغزلان والزاك وغيرها؟ هلا سألت عن امنتو حيدار والغالية جيمي وسيدي محمد ددش واحمد حماد ومحمد الحافظ اعزة ومصطفى عبدالدائم وغيرهم من الشهداء الأحياء الذين إنبلجوا من ليل القهر ليؤكدوا عزيمة شعبنا التي لا تلين؟ هل سمعت عن معاناة سلطانة خيا الشابة الجامعية التي فقا البوليس المغربي عينها الجميلة في جامعة مراكش، وهل تتصور معنى أن تفقد شابة في العقد الثاني من عمرها عينها سر جمالها، عين اختفت وهي مكلسة اليوم في زجاجة ليس للحور فيها لغة ولا للبصر فيها نور.

كل هؤلاء والآلاف من الناشطين الحقوقيين يصنعون ملاحم الكفاح السلمي في وقت أسكتت مدافعنا بشكل مؤقت. إنهم يختزلون كل مرة الموت المتعدد الأشكال ليحللوه إلى حياة ، إنهم كما قلت في القصيدة العصماء: ونغني للموت بل و نراها في سبيل الحياة هي الحياة نعم – لازال الشعب الصحراوي يمتشق الموت من أجل الحياة، يدفع الثمن كل لحظة رغم صدود العرب وقصورهم عن تحديد رؤيا موضوعية ووقفة للتأمل للحكم لنا أو ضدنا.. لكن مالا نفهمه بل يوجعنا هو أن يجهلنا الموريتانيون خاصة أطرهم ومثقفوهم ومناضلوهم الذين عايشوا فترات الفعل الثوري في الوطن العربي وفي موريتانيا بعد مناضلين صحراويين ممن عاشوا في بلدكم الحبيب ودرسوا وحملوا مثلكم نفس المبادئ والقيم التي لا يزالون يكافحون من اجلها.

فالثورة لم تمت وستظل تحيا مادام القهر المتعدد الأشكال يستأسد هنا وهناك، والثورة هي بؤرة الحياة في كل واحد منا كي نتميز بكوننا بشر، الثورة هي الهوية الفكرية والسياسية والإنسانية التي تجعلنا نختلف عن أولئك الذين تجمدت قلوبهم وأحاسيسهم في قصور وفيلات لا تعرف من الحياة إلا اللذات المتآكلة في أجسامهم. كم كنت رائعا بأبهة موريتانيا الحضارية وشاعريتها، تخفي وراء نظارتك السميكة جراح امة يرفض حكامها لم شملها، ويرفضون وحدتها لأنها سر قوتها للانتفاضة ضدهم، هكذا فهم يأبون عن الاستماع إلينا كصحراويين لأننا من طينة أخرى، طينة عجنتها المآسي والمحن، نحن "قنبلة موقوتة" ملأى ببارود الكرامة الذي يخافونه إذا ما انفجرت، فنحن مثلكم لا نقبل الأيادي السليطة ولا نسجد لغير الله سبحانه وتعالى. نحن وإياكم ننعم بكبرياء الصحراء، وقلوبنا بشساعتها لا تضيق إلا بظلم ظالم أو سلطة جبار. ننتظر إبداعاتك دائما فأنت شاعرنا حتى وإن زل اللسان، فأنت أمير الكلمة المدفع التي أقضت مضجع الصهاينة، وهي قادرة اليوم على إحياء الضمير العربي بمافيه المغربي كي يعرف من جديد انه: في الجماهير تكمن المعجزات ومن الظلم تولد الحريات هاته القصيدة التي شخصت انتماءك الفكري إلى جانب الثوريين والمضطهدين، نرجو أن لاتكون قد "عڨرت" العطاء السياسي الناضج لكم كشاعر ملتزم يخشاه الساسة الجبناء.

بقلم: خديجة حمدي

وزيرة الثقافة في حكومة الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com