|
ملاحظات سلوكية بين الجذر التربوي والأداء السياسي .. "إشكالية المركز والأطراف بين رؤيتين"
الأستاذ الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي رئيس جامعة ابن رشد في هولندا -1- الرأس والأطراف كينونة متكافلة في جسد بيولوجي أو اجتماعي واحد \ البعد التربوي فلسفة المركز والأطراف ومبدأ المساواة بين جميع الأفراد أهي مساواة مشروطة أم مطلقة مفتوحة فوضويا؟ ومبدأ تبادل التفاعل النقدي أهو إيجاب النقد الموضوعي والقبول المنطقي أم استخدام لمعول الهدم لعوامل الغيرة والمنافسة العبثية بمقابل رفض الاستهانة والإهانة والتكبر الفارغ وقمع حرية الرأي ومصادرة حرية التعبير عنه؟ أسئلة نتعلم من إجابتها موضوعيا سلوكيات تمثل علامة صحتنا وصوابنا وحكمتنا... فيما جهلنا بها علامة تخلف وأمية ونكوص... فإذا أخذنا الموضوع بدءا من زاوية اجتماعية محددة مع الإشارة إلى زوايا التناول والنظر الأخرى؛ فإنَّ لكل عائلة تولد لابد من بذرة أو فسيلة هي الأب والأم ومن ثمَّ الأبناء والأحفاد ولابد لكل سفينة من ربان يدير الدفة ولكل شركة أو مشروع من مدير مسؤول.. ولابد لكل دائرة من نقطة مركز يمر بها وجوبا كل قطر نرسمه لتلك الدائرة.. ولابد لكل قامة تنتصب من نقطة ارتكاز أو مركز للتوازن وإلا سقطت تلك القامة أو انهدت البناية أو وقع العمود... لا يمكن لأية كتلة جامدة إلا أن تتشكل من مركز وأطراف أو امتدادات بأي شكل وتركيب منتظم (أو غير منتظم).. ولابد لكل كائن حي أو مجموعة بشرية أو غير بشرية من نقطة مركز وتركيبة لأطراف... بلا هذه الحقيقة سنبقى في ضياع خارج إدراك الحقيقة المادية وغير المادية... والحديث عن المركز والأطراف يمكن أن يشقلبه الخطاب السفسطائي ويبدأ بأسئلة عن فرص جعل طرف هو المركز وجعل المركز طرفا... وتصير المطالبات الفوضوية بقلب الأمور ((تبريريا)).. فعلى المستوى السلوكي العائلي؛ يتمادى الطفل بناء على خطأ تربوي فادح عندما يحظى بدلع (دلال مبالغ فيه) وانفلات بما يظنه بعض الآباء أو الأمهات محض الطفل الثقة بالنفس. حيث يستشيرونه فيما يريد ولا يريد وفيما يرغب ويهوى ولا يرغب أو لا يهوى [وقد يكون بعض هذا مبدئيا صحيحا بحدود حجم ووضع نوعي بعينه]، ولكن أن يرافق أمر (الاستشارة) استجابة لتمادي الطفل في مطالبه معتقدين أن ذلك هو ما يمنحه (حقوقه) و (ثقته بنفسه) ويقوّي (شخصيته) فالأمر هنا يكون بممارسته متجها اتجاها لا مغلوطا حسب بل يمثل خطيئة بحق الطفل والعائلة والمجتمع... إنَّ فكرة لاحقة تتداعى في مثل هذه العوائل هي فكرة المساواة الكمية الرياضية بين أطرافها ويتعادل وجود الأطفال وآبائهم في اتخاذ القرار وفي توجيه الأمور.. والسؤال البسيط هنا لمثل هؤلاء من الآباء والأمهات: هل سيطبقون في إدارة معمل حال المساواة بين طرف قليل الخبرة وآخر لا يكتفي بالخبرة بل ويضيف الإبداع والتطوير؟ وهل يجوز أن نساوي بين عالم مختص في إدارة تجربة علمية متقدمة وبين غير عارف من الأمر غير مسميات أولية؟ هل سيتمكن جاهل أن يحل محل العارف الخبير؟ وهل يمتلك الطفل قدرات المعالجة واتخاذ القرار المناسب في كل شيء تماما كما الكبار أو كما لو اعتقدنا أنه يمتلك معرفة أسباب طلبه ونتائج تنفيذه؟ وعند الإجابة عن هذه الأسئلة يلزم أن يجيب مثل هؤلاء الآباء والأمهات عن إمكان أن يتخذ الطفل قرارات مصيرية أو غيرها بدلا عنهم تحت ذريعة تدريب الطفل ومنحه مسؤوليات أو واجبات ومهام.. فيما هم لا يزيدون على تركه بلا تشذيب ولا مساعدة حقة لتكوين شخصيته البناءة.. فالكارثة أن حال التربية هذه لا يشمل [في جوهره] تكليف الطفل بواجبات عائلية أو دفعه للمشاركة فيها وتفعيل الإحساس بالمسؤولية بقدر ما يمنحه فرص الانفلات والتمادي.. كما أن مثل هؤلاء يظنون أنهم يركبون مركب "التربية الحديثة" بتجنبهم فكرة وجود سلطة ونظام محدد يحتل فيه كل طرف مكانه ويتحمل مسؤوليته بدراية وفاعلية تتطلب بالتأكيد نسبا من الدعم والمؤازرة من الأبوين تزيد كلما كان الطفل أصغر عمرا، ولكل مرحلة خصوصيتها في التعامل... كارثة أخرى عند تعلق الأمر بأبوين يتباريان [عن عناد واختلاف أو عن لا أبالية أو حتى بروح ودي] في هذي المنح من التخريب التربوي وهدم بناء الشخصية الإيجابية.. وأكثر سلبية مع تعزز فكرة: سأدع ابني وابنتي يمارسان ما حُرِمتُ منه في ظل مركزية أبوية تقليدية... وهكذا ينزل الهدم والتخريب في نظام العائلة وبنيتها ونظامها بلا بدائل موضوعية مناسبة... سيبقى أيتها السيدات وأيها السادة عنصر توزيع المهام والمسؤوليات تراتبيا ولا مجال للامتداد الأفقي والمساواة الرياضية الكمية المجردة بين آباء وأبناء فالمساواة في مفهومها الصائب تظل إنسانية القيمة والجوهر وهي تعني تلبية حقوق كل مرحلة عمرية. فلا مساواة كمية أي لا مماثلة بين مطالب إنسان بعمر السنة وآخر بعمر الثلاث سنوات أو السبع سنوات أو العشر أو الـ 14، 16، 18 سنة والثلاثين والخمسين والسبعين وهكذا؛ فكل مرحلة عمرية لها مطالبها ولا تمتلك أكثر من خبراتها المشروطة بظرفها في اتخاذ قرار يتجاوز العلاقة بين أبوين وأبناء، بين رئيس مسؤول ومرؤوس مسؤول عنه، مركز وأطراف. وبناء على هذا ينبغي التفكير في مشكلة خطيرة تهدد مصير الأبناء والآباء ومن ثم العائلة. تلكم هي صواب الأداء التربوي و أيّ المفردات نختارها.. وليس صحيحا أن نتعالم وأن ندعي وأن نمضي في تصرفاتنا وكأننا في عالم مقطوع منعزل وأننا نمتلك حرية الخيار في ركوب موجة الفوضى والانفلات.. فتأثيرات ما نفعل تنتشر كعدوى... لابد من وجود مركز عائلي في إطار نظام تعاوني تكافلي يتحمل كلّ واجبه ويرتقي بمسؤولياته ولابد من استخدام مفردة الاحترام لهذا النظام ولهذه التراتبية ليس من باب تقليل شأن صغير أو إهمال مطالبه أو تقريعه وتوليد الرقيب الداخلي فيه بل من باب زرع سمة سلوكية مهمة سيكون لها مدلولها وأهميتها في الحياة العامة ممثلة في تبادل الاحترام مع الآخر وتبادل التأثير إيجابا معه وقطع الطريق على أفكار الانفلات والتجاوز على القانون والنظام ومعنى التخصص في المسؤولية وفي أداء المهمة الوظيفية العامة في إطار نظام مقنن مشروط بقبول الآخر وموضعه في سلم العلاقات... -2- الرأس والأطراف كينونة متكافلة في وجود اجتماعي وسياسي واحد \ البعد الاجتماعي العام (السياسي) وكما ترون اليوم تعلو فكرة المساواة بين المركز والأطراف بطريقة كمية لا تنظر إلى توزيع المسؤوليات وإنَّما تتحدث عن شبيه الديموقراطية المباشرة التي يجلس فيها الجميع بنظام ينص على أنّ كل مشارك يقول ويقرر ويفعل و\أو ينفذ ما يريد.. ومن دون النظر إلى القواسم المشتركة مع الآخر فكل شيء مخصوص بالذات وبالأنا بالفرد وبمطالبه اللانهائية واللامحدودة سامحا أن تكون على حساب الآخرين جميعا ورافضا أن يكون من طرفه أي واجب ينهض به!! [بعض الكهول في واقعنا الشعبي يسمون هذي السمة رويسية أو ما يشير إلى أن كل فرد يريد أن يكون رئيسا عن كفاءة أو عن غيرها]. إنَّ الحياة الإنسانية لا تستقيم من دون مشتركات وتفاعل بين الأنا والآخر وتبادل احترام وتبادل المصالح والعمل الجمعي من أجل الوجود المشترك والفردي.. وهذا يوجب توزيعا للمسؤوليات وتقسيما للعمل والمهام ومن ثمَّ تراتبية رأسية إلى جانب التوزيع الأفقي. ومن هنا جاءت فكرة وجود مركز في الجسم يمثله الرأس والدماغ الذي يشتغل فيه وتمثله عاصمة البلاد لا كونها خاصة بساكنيها بل [المركز] العاصمة التي لا توجد إلا من خلال المجموع وبوجود الأطراف.. ووجود مركز لا ينفي الأطراف ويهمشها أو يهملها ويجعلها مسلوبة بل مثلما يقال العقل السليم في الجسم السليم ومثلما قوة وجود بعينه تأتي من قوة مكوناته كافة ولا يكون المركز قويا من دون قوة الأطراف كافة ومن دون تطورها وتفاعلها بنيويا وبطريقة بناءة تكاملية تكافلية.. في ضوء هذا لا يستقيم الحديث عن فكرة هدم المركز وإضعافه وكأن البديل للمركزية هو الهبش والتهديم والنبش في مبدأ وجود مركز مشترك.. إن نظام اللامركزية ومنح صلاحيات للأطراف لا يتعارض مع أهمية بل وجوب وجود مركز قوي بالتفاعل والتعاضد بين جميع المكونات والأطراف.. و جد طبيعي [ورئيس ومهم] أن تكون صلاحيات الجميع محترمة غير مسلوبة مثلما يصب الجميع في قاسمهم المشترك صلاحيات ومسؤوليات ومهاما لصالح تعزيز وجودهم الاتحادي التعاضدي المشترك... اللامركزية ليست فوضى الصلاحيات والانفلات من القواسم المشتركة ومن تنسيق مركزي يتفاعل فيه الجميع ويظهر للجميع أدوارهم في القرار وفي آليات التنفيذ والعمل.. اللامركزية ليست انقسامات وتشظي وتشرذم والعيش في "حارة كل من إيدو إلو" وكل حزب بما لديهم فرحون! اللامركزية لا تعني ضياع الوحدة وتبادل الرؤية والمعالجات المشتركة المتفق عليها بين الجميع.. اللامركزية لا تعني تعدد الرؤوس وتعدد المراكز وتعدد العواصم. واللامركزية ليست الانقسام والانفصال والتعارض بين وجودنا الوطني الواحد وبين أشكال وجودنا الإنساني هويةَ َ َ قومية أو دينية أو عرقية أو شكلَ سلطةِ ِ أو آليات عمل.. اللامركزية نظام لا انفلات.. وهي تتضمن الوحدة وتتضمن التنسيق وتتضمن العمل المشترك والتفاهم على آليات العمل وعلى خططه وعلى أهدافه وعلى توزيع الواجبات وعلى توزيع الصلاحيات بآلية منظمة وبطريقة لا تتقاطع مع النظام والترتيب والتفاعل ومع وجود رأس ومركز ولكن بصفات مشروطة بالتكافل مع الأطراف لا بعلاقة فوقية ولا باستلاب صلاحيات ولا بمصادرة حقوق؛ ولكن بكينونة قصديتها اختزال الجهد والكلفة بأشكالها ومضامينها لصالح تحقق مطالب الجميع على وفق مبدأ العدالة التامة بكل تفاصيلها... أيها السادة إنَّ العيش بطريقة فردية انفصالية أو أحادية انقسامية وعمل ما يحلو للذات والأنا والجهة أو الطرف المعني لأمر [بفتح اللام] لا يؤدي إلا لضرب كل قيمة إيجابية في حيواتنا الإنسانية وكل مصلحة عليا لوجودنا الإنساني الحق... وفي ضوء منطق شموخنا بما نملك من عقل كبير وحكمته، وفي ضوء شموخنا بما لدينا من إيقونة تمثلنا رمزا لجميع مكونات بلاد أو مجتمع؛ نكون أسمى وأرقى وأقوى وأفضل في امتلاك حقوقنا ومصالحنا جميعا بلا استثناء... فهلا توجهنا إلى ما يعني خدمة وجودنا ومصالحنا.. وأوقفنا حكاية أوهام الأطراف التي تتحدث عن حصة مادية مالية في ثروة وعن حصة في تراب وعن حصة في هواء أو ماء.. وهذا ليس خرافة فقد كان في يوم قريب من يتحدث عن قسمة مياه الشط بين أهالي ضفتيه وها هم يتحدثون عن أمتار أو كيلومترات تريدها محافظة من أخرى [حكاية ترسيم حدود المحافظات الوسطى والغربية والجنوبية] وعن حصة من براميل البترول للمحافظة التي تنتجه وهلم جرا.. أليس أجدى أن نحترم وجودنا الوطني في مجتمع واحد ودولة واحدة ونرسم الوصف الذي نريده لها ممثلا في المجتمع الواحد الذي يحترم تنوعه، تحقيقا لوحدته ويحترم أطرافه تحقيقا لقوة مركزه... ثم أليس أجدى أن نحترم وجودنا في دولة واحدة تتمسك بقوانين البلاد التي تحترم مكوناتها كافة وتتسامى بتعدديتها وثراء تكامل هذه التعددية... ؟ إنه لأجدى أن نتحدث عن عراق تعددي تداولي موحد من عراق مقسم مجزأ مبعثر بين صلاحيات متعارضة متقاطعة، بين مركز ما زال مفتونا برؤية القوة على حساب الأطراف وبين أطراف ما فتئت ترى انتلاك قوتها بصلاحيات على حساب مركز قوي بمشاركتها فيه.. وهكذا نجد في أصحاب الرؤية المركزية المستبدة بحثهم عن قوة المركز التي تقوم على مصادرة الأطراف وهذه في الحقيقة قوة مزيفة وهي في جوهرها ضعف وهزيمة فلا قوة في مركز لا يحترم الأطراف ويشاركها في وجوده.. وبالمقابل نرى رؤية قاصرة في ممارسة أطراف منفلتة متطرفة في ردّ فعلها [ولا نقول تفاعلها] حيث تعمل على التشطير والانقسام حيثما وجدت في نهش الصلاحيات بالتعارض مع المركز قوة لها ومصلحة وفائدة؛ وذلكم هو الآخر الضعف والهزيمة بعينها، لأنه لا تتحقق مصلحة أو منفعة في التشظي والتمزق كما يفهم بعض من أتيحت لهم اليوم فرصة الحديث بصوت عال.. فارضين أنفسهم قسرا كممثلين عن محافظات الوسط والجنوب وفارضين رؤاهم الساذجة التخريبية والمرضية تلك حلا لإشكاليةِ ِ لا يجد المنطق السليم حلَّها إلا بخلاف توجهاتهم المرضية الانقسامية.. وكيما يكون الحل واضحا عسانا سقنا موضوعا تمهيديا مناسبا يحكي قضايا التربية كأساس تنزرع فيه وعبره رؤى ينتظرها العمل [والتفاعل] مع المجتمع والشأن العام. فما سقناه لا يريد التوقف عند إشكالية تربوية فردية أو عائلية بل يريد الانتقال بالإشارة إلى قضايا المجتمع وثقافته الجمعية المؤسساتية (الاجتماعية) بالمعنى الواسع أي بالمعنى السياسي. وللمجتمع الإنساني من بعدُ أن يمضي للتنظيم وللتنسيق وللاتحاد والوحدة وليس للتشظي والتشطير.. وقد يكون هذا مدخلا لدراسات بالخصوص وقراءات نقدية تطبيقية بالخصوص.. مباركة جهود العراقيين في وحدتهم الوطنية وفي تعاضد أنشطتهم وتفاعلها وتكافلها بما يرفض التقاطع والصراع المفتعل. ولكنه في بحثه عن قوة مركز جمعي مشترك لا ينفي حقوق الجميع وصلاحياتهم كاملة تامة في كل مفاصل المجتمع وحركته.. فهلا أمعنا الملاحظة مركـِّزين على الأنضج والأكثر صوابا أم سنسمح لبعض من واتتهم الفرص ليكونوا في دست الصوت العالي في محافظة أو أخرى يريدون التجارة بنا وسوسنا لمصالح أو أهداف لا ناقة لمجتمعنا الوطني فيها ولا جمل..؟ فكرة مجرد فكرة للجدل والحوار وعساني أثرتها من حيث يدريها أهلنا وينتظرون إعلاء صوتها.. لكن قصدية الفكرة كيما تُفهم بدقة وموضوعية، لا تخرج بالمرة عن اعتراف أكيد بأهمية المسار الاتحادي الديموقراطي من جهة وبالحذر من احتمالات التضليل في توسيع دائرة الاتحاد خارج إطارها وخارج قوانينها الحقة الصريحة... وبئس (مركزية) قاتمة لا تجد حياتها إلا على حساب محيطها وأطراف وجودها وبئس (لامركزية) لا ترى وجودها إلا بانفلاتية تدميرية لا تقود إلا إلى هلاك. والعاقل من اتعظ واحتكم لمنطق العقل وقوانين البشرية وتجاريبها وما يصلح لبلادنا وأبنائنا وبناتنا في حاضرهم ومستقبلهم.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |