|
اجوبة على أسئلة حميد الشاكر حول الدين والدولة
أ. سعيد الصرفندي عندما قرأت المقال المنشور على صفحات دنيا الوطن بعنوان " من يجيب على اسألتي في قصة الدين والدولة" للكاتب حميد الشاكر ايقنت أن هناك من يطرح قضايا جدية تحتاج الى جواب مقنع، وأن كثيراً من الإنحرافات الفكرية عند جيل الشباب سببها عدم اتساع عقول وقلوب الشيوخ للإجابة عنها؛ ذلك أن هناك من يعتقد أن ما أقنعه في زمانه يجب أن يقنع الآخرين بالضرورة ، وأن ما قاله العلماء السابقون يجب أن يكون مسلمات عند الجيل الحاضر، وأن السلف افقه وأتقى من جيلنا الحاضر...الخ هناك فرق بين الدين وبين الفكر الديني، فالدين هو النصوص المنزلة من عند الله سبحانه وتعالى، والفكر الديني هو الفهم البشري لتلك النصوص، وهذا الفهم يتغير ويتبدل بسبب جملة من العوامل منها: المصالح الشخصية لمن يفسر النص الديني، فالأمويون ومن بعدهم العباسيون مثلاً كان علمائهم يفسرون كثيراً من النصوص لتصب في خانة "القدرية" التي تؤمن بأن أفعال الإنسان موافقة لقدر الله، في محاولة لإثبات أن الظلم والبغي والعدوان من حكامهم وولاتهم مكتوبٌ عليهم من الله وموافق لما أراده الله، في محاولة لإسقاط العقوبة عن جرائمهم وظلمهم، فالله هو الذي يخلق أفعال الإنسان ويجبره على أفعاله فهو مسير لا مخير، وما دام الله هو الذي يسيرنا كما يشاء فلا اعتراض على أفعالهم لأنها من خلق الله وكل اعتراض من الناس على أفعالهم هو بمثابة اعتراض على الله، فكان هذا الفهم يحقق مصلحة للحكام. وعندما أراد المعتزلة أن يكشفوا الغطاء الشرعي عن الحكام، قالوا أن أفعال الإنسان لا يخلقها الله ؛ ولكن الإنسان نفسه هو الذي يخلق أفعاله واذا كان هو الذي يخلق هذه الأفعال بمحض اختياره فهو معاقب على فعله إن كان شراً ويثاب على فعله إن كان خيراً، فالحاكم الظالم الذي يأكل أموال الناس ويجلد ظهورهم لا يعفى عن أفعاله . وفي كل الأحوال ليس هذا هو الدين ولكنه فهم للدين يحقق مصلحة لأصحابه أو منظريهم. كذلك من عوامل اختلاف الفهم للنص الديني هو التعصب المذهبي، فقد يتم لَيّ ٌ عنق النص ليوافق ما تقرر عند أصحاب هذا المذهب أو ذاك، وتفصل النصوص أحيانا عن بعضها البعض ليستخرج منها مجتزأة ما يوافق المذهب . كذلك من اسباب الاختلاف في فهم النص الديني الزمان والمكان، فقد يفهم الناس نصاً على وجه ما بسبب عدم الاحاطة بالواقع الذي يتناوله النص ثم يتغير هذا الفهم بسبب تراكم المعرفة البشرية التي استطاعت استكشاف الواقع بشكل أفضل. هذه المقدمة اردت أن اسوقها قبل البدء بالإجابة على أسئلة حميد الشاكر، الذي بدأ بالتساؤل عن علاقة الدين بالدولة، ولأن السائل لم يحدد أي دين يقصد فإنني اجيب من باب إجابة السائل الى ما قد يحتاج اليه عملاً بمنهج النبي صلى الله عليه وآله المأخوذ من جوابه للسائل الذي سأل : يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل القليل من الماء فإن توضئنا منه عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال عليه السلام : هو الطهور ماءه الحل ميتته" فالسائل يسأل عن ماء البحر ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبه عن ما يؤكل لأنه قد يسأل عنه ما دام يركب البحر. أفترض أنه يسأل في البداية عن الدين بشكل مطلق وعن الدولة كذلك بشكل مطلق، فأقول : أن الدين فطري في الانسان باعتباره إنساناً ، فلا تجد أثراً لتجمع بشري الا وفيه آثار لأماكن عبادة أو أدوات عبادة، ولقد عرف التاريخ البشري شعوبا ليس لها علاقة بالفلسفة أو الفن أو الموسيقى ، ولكننا لا نعرف شعباً لم يعرف الدين. ومن الملفت للنظر أن القرآن خلا من التركيز على أدلة وجود الله ولكنه ركّز على فكرة التوحيد؛ ذلك أن توضيح الواضحات من المشكلات، إضافة الى أن انكار وجود الله لم يكن موجوداً في الأمم السابقة، فلم تحتج الاديان لإثبات فكرة الألوهية عند من لا ينكرها . أما حقيقة الفكرة التي يتدين بها الناس فهي مسألة أخرى،فلا يمكن أن نحكم على دين الا من خلال أمرين : ابتناؤه على العقل ، أي تم التوصل الى فكرته الاساسية من خلال العقل، كوجود خالق لهذا الكون، وبما ان حكم العقل قد لا يكون مطلقاً لاعتبارات كثيرة ، فكان لا بد من مصدر آخر يصادق على صحة الفكرة : وهي كونها موافقة لفطرة الإنسان، ومن هنا يحكم على الدين وفق المعيارين السابقين . هل هناك من تدين بدون التحقق من صدق الفكرة الدينية ؟ نعم حصل هناك انحراف في التصور الديني والفكر الديني عن الكون والانسان والحياة ، نتيجة عوامل كثيرة أهمها وجود فئة تقوم على خدمة الدين وتعليم الشعائر الدينة، هذه الفئة ظهرت لها مع الزمن مصالح ارادت الحفاظ عليها من خلال تشويه الفكر الجمعي حتى يكون خاضعاً لهم ويحقق مصالحهم ،وطبيعي أن قيام مناسك دينية جماعية يعني وصول هذا المجتمع الى مستوى من التطور التنظيمي والسياسي الذي يفترض وجود قوة تحافظ على توازن المصالح في هذا التجمع الانساني،وهي نواة الدولة، فكانت الدولة والدين تعيشان علاقة جدلية، فلا يمكن وجود الدولة الا في ظل وجود فكرة التدين ، وكذلك الحفاظ على مصالح الفئة المنتفعة التي شوهت الدين وحرفته لمصالحها يقتضي وجود آله قمع إذا لم يستجب الناس طواعية فيؤدوا ما عليهم من التزامات مادية تجاه سدنة الدين. بقي هذا الأمر حتى اعتنقت أوروبا الديانة المسيحية فقويت أواصر العلاقة بين المؤسسة السياسية" الدولة" وبين المؤسسة الدينية. ويمكن القول باختصار أن الدولة والدين كانتا من مقتضيات بقاء اوروبا على ما هي عليه. عندما انتصرت الثورة الصناعية في اوروبا الاقطاعية التي كانت ذات علاقة وطيدة بالمؤسسة الدينية، بدأت تتضارب المصالح بين الفئة الرأسمالية الصاعدة التي تريد التخلص من سلطان الكنيسة لسن قوانين تحقق مصالح هذه الفئة الناشئة ، وبين المؤسسة الدينية التي تحافظ على مصالح دولة الاقطاع، ومن هنا كانت سمة مفكري ومنظري الثورة الصناعية أنهم ملحدون، حتى أن المنصفين في علم الاجتماع قالوا ان نظرية داروين " النشوء والإرتقاء" لم تكن نظرية علمية بقدر ما كانت نظرية سياسية ، فقد أرادت الطبقة الرأسمالية الناشئة أن تنهي سيطرة الكنيسة على الانسان من خلال اثبات أن هذا الانسان ليس مخلوقاً لله، وبالتالي ليس من حق ممثليه " الكنيسة" أن تسيطر على القوانين التي يخضع لها الانسان. وانتهي النزاع بين الكنيسة باعتبارها ممثلة للطبقة الاقطاعية وبين الطبقة الرأسمالية بفصل الدين عن الدولة، وكان هذا الأمر مقبولاً في اوروبا لأن الدين المسيحي لا يشتمل على فكرة الدولة وإن كان هذا الدين قد تحالف مع الدولة. الناس في أوروبا لم يكونوا بحاجة الى الدين لأنه لا يشتمل على تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها من الأنظمة المتحكمة في حياة المجتمع. إذن حينما نتحدث عن الدولة والدين في اروبا ، فإن ما تقدم يبين طبيعة العلاقة بينهما. أما عند الحديث عن الاسلام باعتباره ديناً وبين الدولة،فإن الحديث مختلف ، فالدين الاسلامي تناول كل جوانب الحياة، وطلب من الناس أن يحكموا بشرع الله، وهذا لا يكون الا من خلال دولة؛ الا أن الاسلام لم يحدد في نصوصه تفاصيل الدولة الاسلامية، وكل ما يقال في هذا السياق هو جزء من الفكر الديني وليس من الدين، حتى أنني بذلت جهداً في محاولة التعرف الى تعريف الفقاء والعلماء للدولة الاسلامية فغلم أجد شيئاً متفقاً عليه مما يدل على أن تعريف الدولة الاسلامية يخضع في التفاصيل لوجهه نظر هذه الجماعة او الحزب أو ذاك. الدولة مصطلح متغير في دلالته، فالدولة التي اقامها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست هي الدولة التي يريدها المسلمون اليوم، فقد كانت دولة النبي عليه الصلاة والسلام دولة تتناسب مع الزمن الذي نشأت فيه، دولة بسيطة تتناسب مع بساطة المهمات التي كانت تطلب منها. ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقيت الدولة مشابهة لدولته بسبب التغيرات البطيئة ليس فقط في الدولة الاسلامية وإنما على مستوى كافة الدول في ذلك الزمان، اما بعد خلافة الخلفاء الاربعة بدأت الدولة علاقة جديدة مع الدين؛ إذ تم توظيف الدين لخدمة الدولة ، فتم تغيير شكل النظام السياسي من نظام يعتمد على الشورى الى نظام ملكي، يشابه الدول العظمى في ذلك الزمان، وأوجد علماء السلاطين فهما دينياً بعيد في بعض الاحيان عن الدين. لمصلحة الدولة . وبقي ذلك حتى نهاية الدولة العثمانية. الدولة تستغل الفكر الديني لتحقيق مصالح الفئة الحاكمة. لذلك إذا اردنا الحديث عن الدولة الاسلامية الآن فهي دولة حديثة ، يتفق الناس على آليات انتخاب الحاكم ومدة حكمه، فلا يجوز أن يحكم الحاكم مدى الحياة لأنه ثبت أن طول البقاء في السلطة يخلق مصالح للحاكم تخلق الاستعداد للقمع والقهر للدفاع عنها. كذلك فإن الطريق الى إقامتها ليست من الدين وإنما من الفكر الديني، فلا يوجد نص على كيفية اقامة الدولة وهيكلها الاداري؛ لذلك نحن مطالبون بإقامة دولة تطبق من الاسلام ما تستطيع دون تهاون منها في تطبيق ما لا تستطيع ، فإن الدولة أو المجتمع المسلم ليست نسخة واحدة، قد تفقد الدولة والمجتمع المسلم اليوم بعض الصفات التي كانت ملازمة لدولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، ولكنها تبقى دولة اسلامية. هذا ما حضر في الذهن سريعا للرد على تساؤلات الاخ حميد الشاكر على أمل أن تكون هناك ردود اوسع لاحقا .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |