|
شاعرالحلة الظريف الملا محمد علي القصاب
رحيم الحلي الحلة مدينة الحضارة والادب، شربت من الفرات طيب ماءه، واكتست بخضرةٍ زاهية، فكانت غوطة العراق، امتدت جذور ثقافتها في عمق الارض، واتصلت بحضارة بابل رغم قرون الظلام الطويلة، ورغم هجمات اقوام الصحراء الخشنة، بقت الحلة حاضرة للثقافة ولم تستطع الظلمة ان تكتسحها حتى في احلك هجماتها، نشأ فيها الكثير من الشعراء في عصور شتى، مر على هذه المدينة المتحضرة شاعرُ أثار انتباه الناس لظرافته وامتلاكه روح الدعابة والطرافة وسرعة البديهة التي وهبته روح النكتة غير المتكلفة انه الملا محمد علي القصاب الذي ولد في اواسط الثلاثينات في احدى حاراتها القديمة وهي محلة المهدية التي تقع داخل سور الحلة القديم الذي احتوى على ابواب تنغلق عندما يغشى المساء هذه المدينة الوادعة . كانت مدينة الحلة بمثابة الرئة الحضارية وعاصمة الثقافة لمدن الفرات الاوسط، وخرج منها كثير من الكتاب والادباء في القرن العشرين منهم الشاعر محمد مهدي البصير والباحث في التاريخ القديم طه باقر والناقد الدكتور علي جواد الطاهر والناقد عبد الجبار عباس والكاتب الشهيد علي عبد الامير عجام، عندما تدخل الى شوارع هذه المدينة تعطرك انسام حضارتها و ثقافتها، حيث يكثر فيها ناشطوا الثقافة وطلاب العلوم، وتكثر الكتب في مكتباتها العامة والمختصة ببيعها وفي المكتبات العامرة في بيوت المثقفين الحليين، رغم فقر اغلبهم ورغم ظلم الحكام وكرههم للثقافة واضطهادهم لعشاق الثقافة، وفي مقاهي الحلة كانت تصدح الاغاني الشعبية التي تنطلق من المسجلات الصوتية التي تفتخر بها تلك المقاهي وهي احد مصادر الجذب للزبائن والترفيه عنهم، بعد عناء الحياة اليومية المليئة بمظاهر الظلم السياسي والطبقي، كانت تلك الاجواء الحضارية لهذه المدينة هي احد الروافد الروحية التي غذت الحس الفني والغنائي للشاعر محمد علي القصاب الذي ترك عمله كقصاب، فهو كثيراً ما يترك بضاعته حين يذهب لاحدى الحفلات وهذا ما تسبب في اضمحلال حرفته التي كان يعيش منها، وكلنا يعلم ان الغناء بكل ابوابه واركانه لم يكن ليُغني صاحبه من الفقر والحاجة الا حين يحقق المغني شهرة كبيرة تملأ الافاق حين ذلك تمده بموردٍ مالي يكفيه حاجته، اما الشاعر فيضيق عيشه ويتسع على قدر كرم المطرب الذي يعطيه ثمن النص الشعري، وفي احيان كثيرة ينكر عليه المطرب هذا الحق فتضيق عليه الحال وتكون حياته ضنكاً وعسراً، وهذه كانت حالة هذا الشاعر المبدع محمد علي القصاب الذي تعلم القراءة والكتابة في الكتاتيب، واحب الشعر الشعبي وتأثر بشعر حسن العذاري وملا منفي عبد العباس، ابتدأ حياته في نظم الشعر الحسيني، فقد اعتلا المنبر في مناسبات العزاء وذاع صيته لامتلاكه صوتاً جميلاً وموهبة نظم الشعر ولذا حمل لقب الملا، لكنه لم يستطع ان يحصر موهبته في اطار القصيدة الحسينية، بل انطلقت موهبته الشعرية في سماء القصيدة العاطفية، وكتب الشعر الغزلي وبرع في الشعر الغنائي واول من تنباً له بهذا التوجه الشاعر عبد الصاحب عبيد الحلي قائلاً : بان محمد علي القصاب لن يستمر في استئثاره في المنبر الحسيني في الحلة فهو صاحب مزاج شفاف وسيتجه لميدان الغناء وهذا ماحصل واشتهر كشاعر غنائي . امتلك صوتاً شجياً بمساحة عريضة وغنى في حفلات الزواج والختان، قدم الابوذيات لحضيري ابو عزيز وداخل حسن وجعفوري وعبد الزهرة الفراتي، ارتبط بعلاقة مميزة بالمطرب الراحل محسن الكوفي الذي ذاع صيته انذاك، وكتب له الابوذية والاغاني وحتى الصياغة اللحنية، فكان صانعاً ماهراً لتلك الاشرطة الغنائية التي لاقت نجاحاً شعبياً عكست مهارته كشاعر وكصانع للسيناريو اللحني للشريط، شكلا ثنائياً تنقل بين المدن والقصبات يقدما الحفلات الغنائية حتى اصاب المرض المطرب الشاب محسن الكوفي، حين تعرضت رئتاه لمرض التدرن وتوفى في مشفى مرجان في الحلة في اواخر الستينات، فكانت وفاته صدمة لعشاقه، وصدمة مؤلمة للشاعر محمد علي القصاب، فكان يبكيه ويرثيه كلما مر بالكوفة التي كان يزورها كل يوم وهو يعود صديقه وعزيزه المطرب محسن الكوفي المكنى ابو ظاهر يقول القصاب في احدى ابو ذياته : بعد بيه لسه روحي شوف املها ولا ملت صبرهه شوف املها الكوفة اخلاف محسن شوفه ملها اثاري جانت ابمحسن زهيه وفي ابوذية اخرى كتب هذه البكائية بدليلي النار سعرها ووجهه هذاك المبتلى ابطوله ووجهه مومسجون (ابو ظاهر) ووجهه يواجهنه الهوه حدر الوطيه تعرف الشاعر محمد علي القصاب على المطرب سعدي الحلي والاثنان ولدا وترعرعا في محلة المهدية في الثلاثينات من القرن النصرم، وكتب له شريطه الاول يخمري ووضع قالبه اللحني وحقق نجاحاً وشهرة كبيرة، عرف الناس من خلاله المطرب سعدي الحلي، ثم كتب له اغنية اريدك دوم تدلل التي سجلت في اذاعة بغداد في اواخر الستينات وووضع الشاعر القصاب الاقتباس اللحني مطابقاً لاغنية خدك المياس للفنان السوري صباح فخري وهي من القدود الحلبية وهي مجموعة قوالب ومقامات لحنية يشتهر بها الحلبيون مثلما يشتهر البغداديون بالمقام البغدادي، وهذا يوضح سعة رصيد الاستماع للشاعر القصاب ثم توالت الاشرطة التي صار الجمهور ينتظرها ويتلاقفها، ولثقافة الشاعر القصاب الموسيقية واتساع خبرته فقد استعان بالعازف الفنان فالح حسن للعزف في اشرطة سعدي الحلي حيث كان يأتي للحلة ويسجل الشريط الغنائي في تسجيلات مهدي الوادي ابو عامر الذي كان يمتلك مقهى معروف في شارع المكتبات كما كان يسمى ائنذاك، حيث توزعت بعض المكتبات على بعض جوانبه التي تنتهي بسينما الفرات وتتخلله اسواق الحلة المتخصصة وبعض المقاهي الشهيرة منها مقهى ابو سراج ومقهى ام كلثوم، كانت مساهمة العازف المبدع فالح حسن نقلة نوعية في المستوى الفني للشريط الغنائي، وحقق له نجاحاً مؤكداً حيث تكاملت عناصر نجاح الشريط وتوفرت اركان نجاحه وهي الملكة الشعرية الرقيقة للشاعر القصاب والصوت الشجي لسعدي الحلي والعزف الذهبي لفالح حسن على الة الكمان التي كانت تثير شجن المستمع الامر الذي زاد من نجاح اشرطته، في هذه الاجواء فأن سعدي الحلي ومحمد علي القصاب شكلا ثنائياً وذاع صيتهما وازدادت الطلبات عليهما لاحياء الحفلات الغنائية في الاعراس والمناسبات الاخرى وصارت اغاني وابوذيات محمد علي القصاب التي غناها سعدي الحلي اشبه بمحفوظات يرددها الناس في انحاء العراق، ثم بدأت تذهب خارج حدود الوطن لعذوبتها وطرافتها الفنية، كانت كلمات كثير من اغاني الاشرطة الاولى لسعدي الحلي والتي كتبها الشاعر القصاب تعبر عن حلة الوجع والخيبة التي مر بها المطرب سعدي الحلي، حين خسر حبيبة صباه وهي احدى قريباته التي زوجها اهلها على طريقة زواج البدائل وسكنت البصرة ولم يزوجوها له بسبب فقر حاله، واستطاعت تلك الاغاني ان تفرغ من قلب سعدي الحلي شحنة الالم والمرارة، واستطاع بريق النجاح والشهرة ان يخفف عنه ألم خسارته لمحبوبة الصبا، وان يوصله الى شريكة حياته التي هدأت احزانه، واستطاع الشاعر المبدع القصاب بتلك الاغاني والابوذيات ان يرسم احاسيس غيره كما يرسم الرسام الماهر تعابير وجه البورتريت، وابرز مثال لاغاني تلك المرحلة كانت اغنية يمدلولة التي عبرت عن حالة سعدي الحلي العاطفية ومشاعره تجاه حبيبة الصبا، الا ان المطرب سعدي الحلي لم يكن وفياً للشاعر الفنان محمد علي القصاب الذي اكتشفه وصنع منه مطرباً شعبياً مشهوراً واطلقه الى عالم النجومية حيث دربه وثقفه موسيقياً وأعد اجمل اشرطته الموسيقية التي حققت له الشهرة الواسعة، الفنان سعدي الحلي تنكر لكل ذلك الجهد بل زاد على ذلك ان نسب لنفسه كثير من اشعار الشاعر محمد على القصاب رفيق انطلاقته الفنية وصانعها، وذاعت في الافاق كثير من الاغاني التي كتبها القصاب لسعدي الحلي مثل اغنية يمدلولة التي رسمت بصدق احاسيس ومشاعر سعدي الحلي تجاه حبيبة صباه التي خسرها مكرهاً يمدلولة شبكة بعمري غير الالم والحسرة جسمي عايش بغداد وروحي مكابلة البصرة يمدلولة ولاسألتي ولا كلتي شجرى بية اذوبن وحدي بعلتي لجل عيناك يبنية حملت الاه والحسرة خو ندري الطريق بعيد والفركة غصب صارت شنون نهيد دنياي وعلي دارت العليل شلون شيصبرة وكتب لسعدي الحلي اغنية خذني يالسريع بليل للبصرة، وشكثر عندي صدقان، حبيب امك، انا وحيد، وين نروح، واحب من يكعد كبالي، وكلهة منك زاد همي وكثر، هلة هلة وشجاني، ماشافت عيوني النوم، واغنية مابدلك للنبي التي كتبها الشاعر كاظم الركابي ولحنها الملحن كمال السيد حيث اضاف بعض الجمل الشعرية واعاد تشكيل بعضها وهي جزء من كلمات اوبريت بيادر خير . حيث كتب الشاعر كاظم الركابي ياهيل تبقى بوفه ياهيل هيجي وياليكبحون بذاك الوجه والحسن والدلة والجانون ياهيل طعمك يظل بكليبي مهما يكون أنا مابدلك والنبي ماطول عندي عيون . اما الشاعر محمد علي القصاب فقد كتب مابدلك والنبي ماطول عندي عيون ياما كعدنة سوة بالعجل ليش تخون شفت مني ذنب عل الهجر من دلاك وكلما تعذب الكلب لاتعتقد ينساك وروحي بهواك خلصت تنسى الغرام شلون خليت نجم العمر يسمر بدربك ضوة ردتك تجيني بحلم بس نكعد سوة وخل اهلك وكل هلي شما رادو يكولون وجهج يحلوة ضوة نور علة الصوبين وياحيف عمري انكضة مابين زين وشين مابدلك والنبي ماطول عندي عيون قدم القصاب للمطرب سعدي الحلي نصوصاً حققت نجاحاً منقطع النظير مثل اغنية تناشدني عليك الناس التي سجلت في اذاعة بغداد بداية السبعينات، واغنية عيوني مساهرات النوم، واغاني كثيرة سجلت على الاشرطة، حيث لم يكن من السهل الحصول على الموافقة على تسجيل الاغاني في اذاعة بغداد الابعد موافقة لجنة رقابة النص واللحن وهي لجان لم تكن سهلة في اعطاء الموافقة وهذا مما ساهم في تطوير الاغنية العراقية وفي ظلمها بعض الاحيان . لابد من الاشارة الى ان المطرب سعدي الحلي قد تعرض للتشهير بعض الاحيان بسبب الغزل الذكوري الذي اتسم به النص الشعري للشاعر محمد علي القصاب، وهو ليس بالامر الجديد في الميدان الشعري حيث اشتهر بهذا الاسلوب كثير من شعراء العصر العباسي مثل ابو نؤاس، وكما يقال يجوز للشاعر مالايجوز لغيره، حيث يبحر الشاعر في عالم الشعر وفي وحي احلامه وخيالاته ليعجن كلماته ضمن ايقاع القصيدة، وفي بعض الاحيان يكون الوزن وسهولة النظم سبباً لجر الشاعر لتكرار هذا السياق في النص الشعري حين تضطره القافية او الوزن وايقاع القصيدة، ولااريد ان اتدخل في خصوصيات الشاعر القصاب ونوازعه الداخلية التي تتأثر بظروف الحرمان والكبت التي يعيشها الانسان في ظروف الفقر، وما تتسبب في توجهات وميول شخصية قد لايتقبلها الواقع والعرف الاجتماعي، مع احترامي الشديد لذكرى الشاعر القصاب الذي قدم للجمهور اغاني واشعار افرحت الناس وخففت من همومهم وحققت لهم السعادة والسرور وهذا ما يعجز عن تحقيقه الكثيرين . بقي الشاعر القصاب فقيراً بينما انطلق سعدي الحلي واطبقت شهرته الافاق واستقرت احواله المادية، من ذكرياتي العزيزة انني كنت ذات يوم اجلس في مقهى ام كلثوم التي انشأها رشيد التكريتي قرب شارع المكتبات وحيث كنت مشغولاً بقراءة جريدة طريق الشعب على صوت ام كلثوم الذي يصدح في هذه المقهى، وكانت اغنية اسال روحك تخرج من المسجلة الكروندك البديعة ومكروفوناتها الحساسة التي تجعلك تتجاوز حاجز الزمن والمكان لتجعلك في مواجهة المغنية القديرة وصوتها الباذخ وهي تترنم باغنيتها، وصل الى اذني تحليلاً شعرياً لكلمات الاغنية وصورها حتى اعتقدت ان استاذاً جامعياً يجلس على الاريكة المجاورة وحين سألت الجالس قربي عن هذا الاستاذ قال لي انه الشاعر محمد علي القصاب، كان الشاعر القصاب يحب بشدة اغاني ام كلثوم ويحفظ الكثير منها وكتب لها قصيدتان ارسلها لها عبر البريد، ولابد من التنويه الى ان الاحاطة بكل اشعار القصاب امر لم استطع الاقتراب منه لكثرة نتاجه التي توزعت في مئات الاشرطة الغنائية، الشاعر القصاب كان علماً حلياً ظريفاً سيتذكره الحليون سنوات طويلة وسيذكرون تراثه الشعري الشفاف، لكن المحزن ان حياة هذا الشاعر هي مجموعة خيبات فقد رافقه الفقر وعسر الحال، وحتى رحيله كان مؤلماً للغاية، فقد رحل في فترة حزينة اطبقت بظلامها على هذا الانسان المبدع، فاصابه المرض في وقت لم تلتفت وسائل اعلام الى هذا الشاعر المهم والفنان القدير الذي اشاع الفرح في قلوب الناس بكلماته وصوته الشجي وصياغاته واقتباساته اللحنية، وتم تجاهله اكثر مع انتشار القوى والافكار التي لاتنظر بارتياح للشعر الغنائي، لكن الطيبين من ابناء الحلة النجباء لن يبخلوا عليه رغم قسوة الايام وفقر الحال، فرحل في صيف عام 2003 تاركاً منجزه اشعاره الغنائية وذكرياته الظريفة في قلوب الناس . من ابوذياته المشهورة حبيبي دموعي لغيرك مصابين وسهاماتك لعد غيري مصابين بشهر واحد لفن منك مصابين جفاك وفرحة الشمات بية ******************* ذلولي الشوك بارض الشوك نخلة ولاساعة من الحسرات نخلة صرت مثل الالة بالشام نخلة الثمر للغير واني النار الية ********************* شبدة مني وشخصك علي ماطل وحبل مواصلك وياي ماطل ودليلي من الصبر بجفاك ماطل مثل روح التماطل بالمنية ********************** عكب النغم وشبكالي حبيبي راح مني وشبكالي يصاحب صيد كلبي وشبكالي ترى ترفرف جناحة لعم علية ******************** الشمس كلي يصاحب شعلة منهة وترى وجنة حبيبي شعلة منهة ثاري العين تكره شعلة منهة مثل ماتكره الروح المنية ******************* خزرني وصد حبيبي وكلت والناس متكرب يل الي بدنياي وناس كلتلة ارد ابوسك كال وناس اخ كلهم يريد يحب اخية وبعد اشهر عديدة توفى المطرب سعدي الحلي، ربما اراد ان يرافق شاعره وصانعه وصديقه في رحلته الابدية كما رافقه في تلك الايام الجميلة من ايام الصبا حيث العشق والحب والفقر وخسارة الحبيب، ثم النجاح والشهرة والتنكر ربما احس بالندم وربما سيحضنه ويقبل رأسه اعتذاراً وعرفاناً .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |