تأملات في أجوبة سعيد الصرفندي حول الدين والدولة: الحلقة الاولى

 

حميد الشاكر

al_shaker@maktoob.com

كنّا قد طرحنا بعض الاسألة حول قصة الدين والدولة، وماهية العلاقة القائمة بينهما ؟، ولماذية ظاهرة التنافر او التجاذب بين هذين التوئمين ؟، وكيف يمكننا تصوّر صيغة التعايش بين الدين والدولة ؟......الى أخره من هذه الاسألة التي تعتبر اليوم وبحق من أهم الاسألة التي تشغل بال الانسانية وليس شعب من الشعوب البشرية فحسب بقلقها بصورة عامة !.

وكنّا قد نوهنا ايضا الى إننا نضع هذه الاسألة بين يدي اصحاب القلم المُفكر والواعي وصاحب القدرة الثقافية على الاجابة لمثل هذه الزوايا الفكرية الخطيرة في عالم التفكير من منطلق ادراكنا : إن من يتمكن مِن استيعاب وادراك وأجابة هذه الاسألة في قصة الدين والدولة هم الاقلّ من القليل في عالم الكتابة، والأندر من اللُجين في عالم الفكر والقلم اليوم، ولهذا نصحنا بعدم تسييس هذه الاسألة لانها اسألة فكرية اولا واخيرا وليس هي صاحبت أهداف سياسية لاغير !!.

أنبري الاستاذ المفكر سعيد الصرفندي مشكورا لتلبية الدعوة ليناقش هذه الاسألة، ولمجرد انه شمّ رائحة الفكر في هذه الاسألة وليس بسبب ان طارحها هذا الكاتب او ذاك القلم من هذه الملة او تلك كما هو معهود اصحاب الفكر المنغلق برؤيتهم الى الرجال كأصحاب الحق المطلق وليس رؤية الحق الذي يعرف به الرجال (( أعرف الحق تعرف اهله ))، بل كان فكر الاستاذ الصرفندي اسلاميا لاغير في منهجية ( الحكمة ضالة المؤمن اخذها أنّى وجدها ) فحسب، راح يناقش ويجادل الاسألة المطروحة حول الدين والدولة بصورة تنمُّ عن انسان مختلف يحمل بين طيّات عقله مثقف متسع الافق بالاضافة الى مفكر حاد الفكرة وقوي الاستيعاب وعميق التصّور، ولهذا رأينا وزيادة في التعميق الثقافي لجدلية الدين والدولة أن نتناول ماطرحه الاستاذ سعيد الصرفندي من تاملات فكرية في اجابته على اسألتنا الانفة الذكر باعتبار ان الاستاذ الصرفندي لم يطرح اجابة لاسألة لاغير من وجهة نظرنا المتواضعة، وإنما هو طرح تصوّرا متكاملا وتطبيقا مُجاوبا انزله للواقع التاريخي الاسلامي والاوربي في اجابته تلك، مما وهب رؤية الاستاذ الصرفندي الكثير من العمق من جهة !.

ولتدللّ رؤية هذا الاستاذ أننا أمام عقل وهب الايجاز في العبارة مع الايفاء بمعنى الفكرة وايصالها باجمل اسلوب من جانب آخر !.

نعم نحن أمام كاتب من النادر وجوده لاسيما ان ادركنا الواقع والمحيط المرير والمنغلق الذي يعيش داخله هذا الاستاذ، وكيف ان هذا المحيط الاجتماعي الذي نبغ منه هذا الكاتب بفكر ثاقب هو محيط اجتماعي ضد كل ماهو مفكر وكل ماهو منفتح وكل ماهو علمي ومتأمل ومتفقه في الدين، وكل ماهو انساني وليس طائفي، إنه وبالفعل المحيط السلفي المتحجر والمعادي لكل ماهو عقلي في الاسلام ودينه !..

ومن هنا تأتي وتكون ميزة الاستاذ الصرفندي الذي تخطى الحواجز الكبيرة جدا كأنسان مفكر انتصر على محيطه الاجتماعي المنغلق بفكره المنفتح من جهة، وميزته ايضا كصاحب رؤية نوعية هادئة ومتسقة وغير مضطربة، بل ونظامية وواضحة الهدف ومستنيرة الغايات، مما يدفعني وربما غيري ان يرى في هذا الكاتب شيئ هو اكثر قيمة من مجرد القراءة له بل هو قلم بحاجة الى ملاحقته فكريا ومجادلته ثقافيا باعتبار ان هناك من الكتّاب من تكتفي بالقراءة له فحسب، ولكن هناك من الكتّاب المفكرين من تقرأ له وتشعر انك بحاجة اكثر للتعرف عليه ومناقشة فكره واستيحاء مفرداته التي تحمل خلفية فكرية بالاضافة الى واجهتها العلمية ايضا، وهذا ماسنقوم به على الفور في ملاحقتنا الفكرية هذه لما طرحه أ : سعيد الصرفندي في رؤيته حول الدين والدولة، واجوبته حول أسألة : كيف ولماذا ومتى في نفس هذا الاطار الاشكالي الثقافي !.

**************

اولا : سعيد الصرفندي راصدا .

عندما يرصد اي انسان منّا الاسألة الحيوية جدا في حياة اي مجتمع، ويشير الى اهميتها وحاجة المجتمع الفكرية والثقافية لها ولاجوبتها ايضا نكون بذالك أمام حالة تشخيص فكرية طبيعية، بل وطبّية علاجية ثقافية لحالات المرض التي تنتاب هذا المجتمع او ذاك ثقافيا وعقليا وفكريا وعقديا ايضا !.

اي ان مفكري اي مجتمع او امة يجب ان يبدأوا دائما من البحث عن السؤال الذي يختصر كل مآزقهم الفكرية وامراضهم العقدية وانحرافاتهم الثقافية ليطرحوه بقوّة، وليكون من ثم هذا السؤال هو محور او محاور الاجابة التي تحاول انتشال المجتمع من مرضه الثقافي او العقدي او الفكري الذي يعاني منه ويسبب له في نفس الوقت مآزق سلوكية واجتماعية وسياسية واقتصادية واخلاقية عديدة في ممارسة حياته الاجتماعية الانسانية !.

ومجتمع كمجتمعنا الاسلامي اليوم اذا ذهبنا او اتينا للبحث عن اهم سؤال في حياته العقلية، والذي ربما يكون هو السبب في كل الاشكاليات الفكرية والعقدية والثقافية الاسلامية التي تنتج الصراع والتخلف والدكتاتورية والتفرقة في هذا المجتمع في التاريخ وحتى اليوم فأننا لانجد سؤالا يفتح لنا جميع الابواب ويبين لنا جميع الاشكالات مثل سؤال : ماهي قصة الدين والدولة ؟!..

نعم ربما هناك من يطرح سؤال : العلم والمجتمع ؟، او هناك من يطرح سؤال : التكنلوجيا والتقدم ؟، او هناك من يرى الاشكالية من زاوية : العلمانية والمجتمع ؟..... وهكذا في باقي المناحي والاتجاهات التي تحاول معرفة الاتجاه الفعلي لاشكاليات مجتمعاتنا الاسلامية في وقتها الحاضر وصراعها مع حالات التخلف والتراجعية والانحصار والتقوقع والضعف .........الخ وغير ذالك من أزمات فكرية اذا استطعنا اختصارها بسؤال ما ليكون محور اهتمامنا الفكري والثقافي، فاننا سنكون قد حددنا المشكلة لنبدأ رحلة اكتشاف الاجوبة الصحيحة التي تستطيع انتشال هذا المجتمع الاسلامي او ذاك من ازماته الواقعية !!.

إلاّ ان كل ماتقدم من اسألة وطرحها، بالاضافة الى تنوع رؤاها واختلافها لاينفي ان اشكالية ( الدين والدولة ) في عالمنا الاسلامي تبقى لها الاولية المطلقة على جميع تلكم الاشكاليات التي نرى انها لاتحلّ الا من خلال هذه الاشكالية بالذات، وهذا لاعتبارات كثيرة جدا من اهمها ان المجتمع الاسلامي يرى في الدين شيئ اكبر من جميع الاشياء التي تحيط بحياته الشرقية الانسانية، ومن هنا كان الانسان ولم يزل في هذه البقعة الجغرافية من العالم البشري يرى انه هو مهبط الوحي وحركة الاديان وقصص التدين .... الخ، وليس عبثا تاريخيا وحاضرا ان يكون الانسان هنا في الشرق هو مُنتِج او مُنَتج الاديان ومبتكر النبوات وسيد الالهام والوحي والتعلق بالسماء، فكل هذا يدلل على ان هذا الانسان ينظر للدين بشكل مختلف عن الانسان في الغرب وفي الشرق، وإن الدين هو محور حياة وثقافة وفطرة وشعور وادب وسلوك هذا الانسان في هذه الحياة !.

ومن هنا نحن عندما نقول ان سؤال (الدين والدولة) له اهمية خاصة جدا لانسان الشرق في القديم وللانسان الاسلامي اليوم بصورة خاصة مضغوطة فأننا نكون قد شخصنا الاشكالية العربية والاسلامية الاولى والصحيحة لهذا العالم، وكذالك عندما نصيغ اشكالية هذا الانسان العربي الاسلامي وعالمه الممتد الجغرافية الواسعة على اساس انها اشكالية سؤال بين دين ودولة فاننا نكون بذالك قد وضعنا اصبعنا على المفتاح الثقافي والفكري والعقائدي الصحيح الذي سوف يفتح لنا مصاريع ومغاليق الكثير من التراكمات التي تثقل من حركة الانسان الاسلامي بل وتعيقه في احيان كثيرة من تقدمه او تطلعه للمستقبل او التفكير للبناء لهذا المستقبل وغير ذالك الكثير الذي يشكل فيها الدين من هنا وهناك عوامل سلبية تعيق من تطوّر هذا الانسان ولحوقه بركب الحضارة الانسانية وتنافسه فيما بعد على هذه الحضارة او عوامل ايجابية تنتج العكس من ذالك في انتاجه للحضارة والمساهمة في بنائها !.

ان الاستاذ سعيد الصرفندي وفي معرض اجابته على اسألتنا في ( قصة الدين والدولة ) قد رصد بذكاء فطري حاد معنى اهمية هذا السؤال في عالمنا اليوم، كما انه لم يكتفي في انه رأى في هذا السؤال انه السؤال الاهم في عالمنا العربي والاسلامي بل انه عرّج كذالك على اشكالية عجز وعاظ الدين لهذا العصر ثقافيا من امكانية الجواب على هذا السؤال الحيوي، مما يدفع شيوخ الدين وتجاره الى صدّ الناس عن التفكير والجواب لهذا السؤال الحيوي جدا في عالمنا الاسلامي المليئ بالاشكاليات كذالك، ممايضع رجال وشيوخ الدين هؤلاء في موضع العقبة الكأداء التي تقف في فم النهر العلمي لالتشرب الماء وتنتفع به ولا لتترك الماء والفكر والعقيدة والثقافة تصل الى باقي الناس ليستفيدوا منه باستقلالية!.

يقول الكاتب المفكر سعيد الصرفندي بهذا الصدد: (عندما قرأت المقال المنشور على صفحات دنيا الوطن بعنوان " من يجيب على اسألتي في قصة الدين والدولة" للكاتب حميد الشاكر ايقنت أن هناك من يطرح قضايا جدية تحتاج الى جواب مقنع، وأن كثيراً من الإنحرافات الفكرية عند جيل الشباب سببها عدم اتساع عقول وقلوب الشيوخ للإجابة عنها؛ ذلك أن هناك من يعتقد أن ما أقنعه في زمانه يجب أن يقنع الآخرين بالضرورة، وأن ما قاله العلماء السابقون يجب أن يكون مسلمات عند الجيل الحاضر، وأن السلف افقه وأتقى من جيلنا الحاضر...الخ ))

فالاستاذ سعيد الصرفندي يبدأ في مقدمته هذه الى الاشارة الى الكثير من النقاط التي هي بحاجة الى اثارة وتناول فكري دقيق وبحث متأد وعميق مثل :

اولا : ان هناك قضايا جدّية وحيوية وواقعية قد تطرح هنا وهناك في محاولة مناقشة ازمة الامة الثقافية والعقدية والفكرية، كما ان هناك بالمقابل قضايا غير جدّية ولاهي ثقافية او ايجابية ايضا تطرح ولكن بهدف اشغال الامة فكريا وثقافيا والذهاب بذاكرتها الثقافية والفكرية بعيدا عن همومها ومشاكلها الواقعية التي هي بحاجة الى معالجة وسؤال حولها للبحث عن مخرج من حالة الازمة والاختناق التي يعيشها الانسان الاسلامي هذا اليوم سياسيا وفكريا وحضاريا ....، واهم هذه القضايا الجدّية حسب مايرى سعيد الصرفندي هو سؤال :(( ماهي قصة الدين والدولة ؟.)).

ثانيا: لايغفل الاستاذ سعيد الصرفندي في مقدمته هذه انه مع ان سؤال قصة الدين والدولة هو المحور الذي من بابه تكون البداية في ثقافة وعقيدة وفكر الانسان الاسلامي، الا انه ومع ذالك توجد لدينا اشكالية بعيدة عن اجابة هذا السؤال، الا وهي اشكالية المتصدّين الى تفسير الدين وتبيينه للناس، وكيف ان اولئك المشايخ والوعاظ بدلا من ان يقودوا الامة من البداية والسؤال بين الدين والدولة والوصول بهم الى النهاية لبناء عقيدة وثقافة وفكر واضح ونظيف وعميق، بدلا من ذالك فإن هؤلاء المشايخ يساهمون بشكل حقيقي في الانحرافات الفكرية التي تزيد من ظلمة الشباب المسلم الثقافية والفكرية بهذا الصدد، مما يدفع هذا الشباب المتطلّع لفكر اسلامي ينتشله من غربته وتيهه، وبسبب عدم اتساع قلوب وعقول أولئك المشايخ للاجابة عنها، الى المزيد من التيه والغربة والضياع لهذه الشريحة الاسلامية الفاعلة !..

ثالثا : قد اشار الاستاذ الصرفندي بنفس المقدمة الى السبب الحقيقي لتلك الاشكالية في وعاظ الدين وحقارة ثقافتهم وتعملق انغلاقهم على انفسهم بفحوى القول : ان هؤلاء المشايخ الذي قدموا انفسهم على اساس انهم حماة الدين ومبينيه للامة وحاملي راياته .... والذين من المفروض ان يجيبوا عن قصة الدين والدولة بشكل عصري واسلامي حقيقي ومقبول ومنسجم مع العقل البشري هؤلاء ومع الاسف لديهم عقبات وعقبات فكرية وثقافية ومصلحية تمنعهم او تدفعهم من تزوير رؤية الدين والاسلام والدولة بصورها العصرية، وهذا هو السبب الاصيل الذي جعل من هؤلاء الوعاظ من نوافذ نور وشواطئ امان للامة الى امواج وظلمات في بحر لجيّ اسود يزيد من حالة الضياع الفكري لهذه الامة ويعمق من ازماتها بدلا من حلها على الحقيقة، وكل ذالك منتجه ان هؤلاء المشايخ الدينيين النفعيين يحملون عقلية القديم الذي يصلح لكل زمان ومكان والسلف الذي لم ياتي الزمان باحسن من تفكيره، مما جعل الفكر السلفي مسيطرا تماما على عقول هذه المشايخ التي تعيش في الماضي وعقلية الماضي لتوفير بعض المصالح لهم اكثر من عيشها في الحاضر واشكالية الحاضر وهمومه وباقي اسألته وابتكار الاجوبة لمستجداته !.

******************

ثانيا : الصرفندي مفكرا

وبعد هذه المقدمة للاستاذ الصرفندي يتحول الى مناقشةٍ هي ليست بعيدة عن نقد الفكر السلفي الماضوي المعتمد على الفهم القديم بالاسلوب القديم في تقديس القديم، ولكن من زاوية التفريق كمقدمة توضّح مراد الاستاذ من عملية النقد هذه بين ماهو من صلب الدين واساس الاسلام، وهذا الجانب لايقترب منه الاستاذ الصرفندي باي نقد او تجريح او ..... باعتبار ان الاستاذ مؤمن بان اصل الدين ونصوصه هي وحي الهي مقدس ومتقن ومعصوم من اي انحراف وخطأ، بل هو لايمكن له ان يتناقض مع فطرة البشر وصحيح عقولهم، وماهو فهم بشري ايدلوجي او سياسي او طبقي او .....غير ذالك لهذا النص الديني المقدس والذي يعتبره المفكر سعيد الصرفندي انه مجرد اجتهاد بشري يختلف بين شخص واخر وجيل وسواه وحقبة زمنية واخرى ليقول :(( هناك فرق بين الدين وبين الفكر الديني، فالدين هو النصوص المنزلة من عند الله سبحانه وتعالى، والفكر الديني هو الفهم البشري لتلك النصوص، وهذا الفهم يتغير ويتبدل بسبب جملة من العوامل منها: )).

والحقيقة ان مثل هذا الفهم والقاعدة في الفكر الانساني لايحملها دعاة السلفية والرجعية الدينية اليوم من منطلق ان هناك تناقض واضح وصريح بين منهجيتين في الفهم الاسلامي وعلى مدى التارخ وحتى اليوم وهما :

اولا : المنهجية السلفية .

وهي المنهجية التي بدأت بالاساس من تقديس الاشخاص سياسيا من السلف وخاصة منهم اصحاب السلطة والحكم لتتطور هذه الحالة الى تقديس افكار وتصورات وفهومات هذا السلف، واعتباره المنتج الارقى في الحياة البشرية لفهم الاسلام بصورة خاصة والدين بصورة عامة ومهما كان متناقضا مع المنطق البشري او العقل الانساني او حتى الفهم الاخر السلفي ايضا، ثم لتتطور المنهجية اكثر فاكثر ليجرّم ويحرّم دعاة السلفية اي تفكير جديد في قبالة هذا التفكير السلفي القديم !.

والحقيقة ان هذه المنهجية هي ليست اسلامية في الاساس بقدر ماهي منهجية فكرية سياسية قديمة ايضا كانت موجوده في اليهودية والنصرانية كذالك من خلال تحريم المسيحية مثلا الاجتهاد في الاناجيل الاربعة مع فهم كتابها القدماء وفي الكيفية الجديدة في الفهم والادراك، فهي منهجية لاتصلح اساسا مع روح وحياة الاسلام الفكرية المتجددة بطبيعتها في عطائها الزمني الثري حتى وان انسجمت مع باقي الاديان التي هي روحية اكثر منها اجتماعية او سياسية كالاسلام، ولاتنسجم في كون الاسلام هو خاتم الاديان ومن مميزاته انه دين يعتمد على الاجتهاد في النص وليس معه ويقول بعملية ضرورة التأويل العقلي في بعض الاحيان لاستخراج كل ماهو جديد ومطلوب في حاجات المجتمع المتجددة، ولهذا فالدعوة السلفية على هذا المنحى هي روح انغلاق وقتل لروح النصوص الاسلامية التي جاءت لتنفتح على الحياة وتعطي هذه الحياة كل ماتحتاجه في حركتها وتجددها الزمني الدائم !.

ولهذا كان الاستاذ الصرفندي دقيقا جدا في لفت انتباه القارئ وقبل ان يناقش اي شيئ في الموضوع الى القول بالفحوى : انه يناقش الفكر الديني هنا او المنتوج العقلي الانساني الذي يحاول فهم النصوص الدينية ولم يناقش ثوابت الدين ونصوصه الواضحة ليعترض عليها او ينال من توجهاتها الفكرية السليمة باعتبار ان كل ماجاء به الدين لايمكن الاعتراض عليه لانه منسجم مع الفطرة الانسانية والعقل السليم !.

ثانيا : المنهجية الاسلامية العقلية .

وهي المنهجية التي تبدو واضحة في تبني الاستاذ الصرفندي لكل معطياتها الاسلامية، والتي هي عبارة عن اسلام منفتح وقابل للاجتهاد ومحترم للعقل وراضي بكل عمله التأويلي للنص الذي اضاف للاسلام رؤية انسانية متجددة ومتطورة ومواكبة وقابلة للتعايش مع الحياة بكافة مستجداتها العصرية، بلا ان تقيد نفسها الى منهجية ولغة سلفية ماضوية منغلقة !.

طبعاً العارف بالمدارك الفكرية للاسلام والاسلاميين في التاريخ وحتى اليوم يدرك ويفهم معنى اختلاف المناهج الفكرية في هذه المدرسة الاسلامية او تلك وكيفية انعكاس كلا المنهجيتين على استنتاجات وعقائد الناس في هذه المدرسة او تلك، فمدرسة الاعتزال الاسلامية مثلا من المدارس الاسلامية التي تعتبر العقل الانساني احد اهم الركائز والمرجعيات في فهم الاسلام بصورته الشاملة، بعكس المدرسة السلفية القدرية وغيرها من المدارس الاشعرية في العقيدة والفكر الاسلامي التي ترى من العقل كتلة الياف عضوية لافائدة منها لافي عمل ولافي دين، فالعقل حسب مناهج المدارس الجبرية او القدرية السلفية كما تشارك في التسمية هي من المدارس التي ترى في العقل كائن حقير لايستطيع حتى التمييز بين الحسن والقبح العقليين بين الاشياء العالمية، وليس العقل في منهاج هذه المدارس سوى شيطان يدعو للزندقة لاغير في الدين وفي الفكر وفي الحياة، ولهذا قالت المدارس السلفية الجبرية وغيرها بأنه : (لاحسن الا ماحسنه الشرع حتى وان كان العقل البشري يراه قبيحا، ولا قبح الا ماقبحه الشرع حتى وان كان العقل البشري متكاتف على ان هذا الشيئ حسن)، مع العلم ان للمدرسة السلفية حتى في قضية حسن الشرع وتقبيحه رؤية ترى الشرع كيفما تراه هي وليس كما يراه الشرع الاسلامي على الحقيقة، او مايرى انه قبيح او انه حسن مثل قول الشرع ان الظلم والجور من اقبح القبائح الا ان السلفية الماضوية ولارتباطاتها المشبوهة مع السلطان دائما لاترى ان الشرع قبح ظلم ولاة الامر ولا قبح من اجرامهم وهكذا !.

وهذه المنهجية هي بالعكس تماما من منهجية مدرسة العقل الاسلامي وحتى نصوص الاسلام الصريحة التي تدعو لاحترام العقل البشري بل وتحرّم تعطيله عن العمل في مثل قوله سبحانه عندما حكى عن اصحاب جهنم والعياذ بالله ولماذا هم من اصحابها بقوله :(( وقالوا لوكنّا نسمع أو نعقل ماكنّا في اصحاب السعير / الملك )) فان النص القرءاني يؤكد في هذا المعنى ان هؤلاء المجرمين اصحاب السعير يعترفون ان سبب دخولهم لجهنم هي انهم امتنعوا عن عقل الاشياء والاستماع اليها بتفكير وتدبر، ولهذا كان موردهم النار لانهم لم يستعملوا عقولهم في النظر الى الشرائع وسدّوا اذانهم عن الوعي العقلي في هذا الاستماع فكبوا في نار جهنم من جريرة سوء عملهم واتباع شهواتهم وما الفوا عليه ابائهم حتى وان كان ابائهم لايعقلون شيئا ولا يدركون !.

ولهذا كله قال استاذنا المحترم سعيد الصرفندي بالتفريق بين ماهو ديني نصي محترم ومقدس، وبين ماهو عقلي فكري تأملي لهذا العقل العامل في اطر النص وجوانبه وايحاءاته !.

*************************

ثالثا : الصرفندي ناقدا وباحثا .

في هذه الاطلالة الثالثة من طرح الاستاذ سعيد الصرفندي نكتشف عالما اخر في فكر هذا الملهم المبدع، وهو عالم النقد والبحث، او عالم يتحرك فيه الصرفندي بقدم ثابتة ليدرك ماهو الفرق بين انتاج العقل الانساني الفكري الاسلامي، وبين ماهو منتج وحي الاهي مقدس عام، وهذه المعلومة خبرناها من اول كلمة ذكرها هذا الاستاذ عندما ربط جميع انتاج المدارس الفكرية الاسلامية بمنتجها المذهبي القدري او الجبري الاشعري او السلفي وكذا المعتزلي ..... او غير ذالك على اعتبار انه : منتج فكر انساني اسلامي للنصوص الاسلامية المقدسة، وانه منتج خاضع للمصالح والتقلبات والتعصبات والتشنجات والسياسيات والاقتصاديا .... وباقي المحيط الذي يتاثر به الانسان كيفما كان وليؤثر الانسان فيما بعد بفكره ومنتوجه وتصوراته الاسلامية للاسلام ونصوصه !.

يقول الكاتب سعيد الصرفندي معللا اختلاف وجهات النظر الاسلامية لكافة المدارس والمذاهب العلمية بالقول :(( وهذا الفهم يتغير ويتبدل بسبب جملة من العوامل منها: المصالح الشخصية لمن يفسر النص الديني، فالأمويون ومن بعدهم العباسيون مثلاً كان علمائهم يفسرون كثيراً من النصوص لتصب في خانة "القدرية" التي تؤمن بأن أفعال الإنسان موافقة لقدر الله، في محاولة لإثبات أن الظلم والبغي والعدوان من حكامهم وولاتهم مكتوبٌ عليهم من الله وموافق لما أراده الله، في محاولة لإسقاط العقوبة عن جرائمهم وظلمهم، فالله هو الذي يخلق أفعال الإنسان ويجبره على أفعاله فهو مسير لا مخير، وما دام الله هو الذي يسيرنا كما يشاء فلا اعتراض على أفعالهم لأنها من خلق الله وكل اعتراض من الناس على أفعالهم هو بمثابة اعتراض على الله، فكان هذا الفهم يحقق مصلحة للحكام. وعندما أراد المعتزلة أن يكشفوا الغطاء الشرعي عن الحكام، قالوا أن أفعال الإنسان لا يخلقها الله ؛ ولكن الإنسان نفسه هو الذي يخلق أفعاله واذا كان هو الذي يخلق هذه الأفعال بمحض اختياره فهو معاقب على فعله إن كان شراً ويثاب على فعله إن كان خيراً، فالحاكم الظالم الذي يأكل أموال الناس ويجلد ظهورهم لا يعفى عن أفعاله . وفي كل الأحوال ليس هذا هو الدين ولكنه فهم للدين يحقق مصلحة لأصحابه أو منظريهم. كذلك من عوامل اختلاف الفهم للنص الديني هو التعصب المذهبي، فقد يتم لَيّ ٌ عنق النص ليوافق ما تقرر عند أصحاب هذا المذهب أو ذاك، وتفصل النصوص أحيانا عن بعضها البعض ليستخرج منها مجتزأة ما يوافق المذهب . كذلك من اسباب الاختلاف في فهم النص الديني الزمان والمكان، فقد يفهم الناس نصاً على وجه ما بسبب عدم الاحاطة بالواقع الذي يتناوله النص ثم يتغير هذا الفهم بسبب تراكم المعرفة البشرية التي استطاعت استكشاف الواقع بشكل أفضل.)).

ان الاستاذ الصرفندي بهذا الوعي قد وضع اناملنا على حقيقتين :

الاولى : هي كيفية نمطية فكر الاستاذ الصرفندي بتناول الحدث الفكري في التاريخ وحتى اليوم !.

الثاني : حقيقة ان كل مايسمى بمنتوج الفرق والمذاهب الاسلامية في التاريخ وحتى اليوم هو عبارة عن فهم خاص لجماعة معينة لايحاء النص الاسلامي وليس هو النص الاسلامي بحد ذاته او هو الحقيقة المطلقة لهذا النص بصورة اكثر دقة في اللغة والمضمون !.

نعم هو كون الاستاذ الصرفندي يمتلك رؤية متحررة من وهم القداسة لما يطرح باسم الدين وبأسم السلف وبأسم التوحيد وبأسم ......... الخ فهذا مميز كبير لهذه الشخصية التي لم تخدع كباقي المخدوعين بوهم القداسات المفتعلة لاغلاق الفكر الانساني عن التفكير وهذا من جهة !.
ومن جهة اخرى ان الاستاذ الصرفندي واعٍ شخصيا لمسألة ان هناك خلفية سياسية تقف خلف المنتوج الفكري لبعض المذاهب الاسلامية كالقدرية الجبرية التي ابتدعتها الملكية العربية الاموية لترويض الدين لمصالحها السياسية الطاغوتية وتثبيت حكمها السياسي باسم الطاعة وولي الامر الواجب الانقياد اليه، وحرمة الخروج عليه وان كان مجرما او حتى غير محترم لكل الاسلام ما دام عليه اربع ركعات باليوم يقيمها بين المسلمين كيفما اتفق وكفى !.

فمثل هذه الرؤية للاستاذ الصرفندي لايمكن لاي حيلة سياسية ان تعبر من تحتها باسم الاسلام، كما ان أسلام الاستاذ الصرفندي يبقى اسلاما اصيلا وفهمه فهما عميقا للدين والاسلام اذ استطاع ان يجعل الميزان الاعلى لفكره وعقله ولكل الفكر المذهبي في الاسلام هو النص الاسلامي مجردا عن كل مايطرح فكريا باسمه وتحت يافطته والعقل الانساني باعتباره المتلقي للنص الاسلامي قرءان وسنة، ليكتشف ماهو مرّوض باسم الاسلام للدولة، وماهو غير مرّوض باسم الاسلام لهذه الدولة !.

ولهذا راينا كيف ان خدعة حركة مذهب الجبرية والذي اكثر من ثلثي العالم الاسلامي مؤمن باسلاميتها الاصيلة اليوم مع الاسف على اعتبار انه دين الله في هذه الارض هو ومن خلال رؤية الاستاذ الصرفندي لتقييمه ماهو الا انتاج سياسي كانت ولم تزل غايته الاولى والاخيرة هو تثبيت سلطة الطغاة في الحكم وتكبيل الناس وعامة المسلمين من المطالبة بابسط حقوقهم السياسية والانسانية تجاه هذا الطغيان والظلم السياسي الواقع عليهم باسم الاسلام المذهبي !.

هنا يظهر الاستاذ الصرفندي على اساس انه الثائر الذي لايقبل عقله واسلامه ان يكون الاسلام مطية للظلم والطغيان وجسرا للمصالح السياسية باستعباد الناس وقهر ارادتهم، بل ان الاستاذ يرى في الاسلام ثورة تحرّر وكرامة انسانية وشورى سياسية وعدالة اجتماعية لاغير، ولهذا هو قال بعدم دينية واسلامية مذهب الجبر او القدرية الاموية السلفية اليوم، وانما هي اطروحة سياسية ويجب ان ينظر لهذه المذاهب على اساس انها بدع سياسية او فكر انساني اسلامي على احسن النوايا الحسنة وليس دين الهي مقدس ومنزه عن الاخطاء وواجب الاتباع والتقديس كما يرغب اصحاب نظرية السلف الصالح اصباغها على هذه الافكار السياسية !.
نعم ربما نختلف مع الاستاذ الصرفندي في رؤيته لفكر المدرسة الاعتزالية الاسلامية من منطلق اختلاف تفسير الظاهرة التاريخية وليس من منطلق اختلاف النتيجة في الرؤية، لنقول : ان ظهور المدرسة الاعتزالية في التاريخ الاسلامي لمناهظة المدرسة الجبرية القدرية السلفية هو بسبب ان الملكية العباسية التي اتت على انقاض الملكية الاموية كثورة حاولت الاطاحة سياسيا بنظام الحكم الاموي، هي التي تبنت افكار المدرسة الاعتزالية في ايام الثورة والنضال ضد النظام السياسي الاموي، وهي التي وضعت البذور الاولية لمدرسة الاعتزال الاسلامية لتكون وجهة نظر دينية مناهضة ومحررة للانسان الاسلامي من هيمنة فكر الاستبداد القدري الذي تبنته الملكية الاموية انذاك لاخضاع العالم الاسلامي باسم الدين لحكمها الاستبدادي، ولهذا جاءت المدرسة الاعتزالية لتحرر الانسان من قيد ووهم وغلّ وقداسة المقدس الديني الجبري، ولتطرح مشروع ان الاسلام لايقول بان الله سبحانه وتعالى هو الخالق لجميع افعال الانسان وحتى الاجرامية الظالمة منها، وان الله سبحانه لم يأمر بطاعة اولي الامر حتى وان كانوا هم بالضد من شرع الله سبحانه واوامره بالعدل ونواهيه عن الجور، وان الاسلام ترك فسحة من حرية الارادة للانسان يقيم فيهاحركته وعمله ويتحمل مسؤولية هذا العمل ويجني ثمار هذا العمل في الدنيا والاخرة ايضا كمبرر عباسي اعتزالي لدفع الناس على اتخاذ قرار الثورة بانفسهم ولاينتظرون الغيب واذنه لهذه الثورة !.

وهكذا نشأت وازدهرت المدرسة الاعتزالية في زمن الحكومة العباسية لاسيما منها فترة حكم المامون العباسي الذي دعم هذه المدرسة العقلية الفكرية المنفتحة، وإن لم يستمر هذا الدعم الى النهاية من حكم العباسيين الا ان بداية حكومة العباسيين قد دعمت بشكل كبير و بكل ما اوتيت هذه الحكومة من قوّة الاتجاه الاعتزالي الفكري لينتعش العقل والفلسفة والحكمة في حكمهم وليبني من ثم الاسلام حضارة العقل والفلسفة والعلم الاسلامية كمنعكس طبيعي لتبني الامة هذا التوجه الفكري العقلي في فهم الاسلام وافكاره ونصوصه، بعكس ماكانت تروّج له المدرسة القدرية الاموية التي انعكس انتاجها على بقاء العالم الاسلامي اكثر من قرن كامل في عملية الغزو والنهب والتوسع والتعرب واخلاق البادية لاغير، والابتعاد عن بناء الحضارة العقلية وانتاجها الفني المتجدد واستقرارها والنظر نحو المستقبل والتسابق مع الامم الباقية في الانتاج الابداعي وهكذا، وهذا مايفسر لماذا انتقلت العاصمة الاسلامية من الشام قاعدة الفكر الجبري المعادي للعقل الى بغداد قاعدة الفكر الاسلامي العقلي وكيف اختلفت معطيات الاسلام الحضارية في بغداد عن المعطيات البدوية في الغزو والخشونة في الشام !.

وهكذا قد اصاب بالفعل من وجهة نظرنا استاذنا الصرفندي عندما اشار لمنشأ المذاهب الاسلامية، وانها انعكاس طبيعي لحركات سياسية منها حاكمة واخرى ثورية تحاول الصراع مع الوضع القائم، كما ان الاستاذ ابدع حقيقة في حصر العوامل التي تؤثر بافكار هذه المدارس والمذاهب الاسلامية عندما ذكر العوامل الثلاثة الاتية :

الاول : العامل المصلحي الشخصي السياسي لمفسري النص الديني من وعاظ سلاطنة ..

الثاني : عامل التعصب المذهبي والديني، وعادة مايكون هذا في جمهور المسلمين .

الثالث : عامل الزمان والمكان باعتبار قصور وتراكم المعرفة الانسانية زمانيا ومكانيا وانعكاس ذالك على قدرة فهم النص واستيعاب عطاءاته المختلفة .

نعم يبقى هناك مدارس فكرية اسلامية اخرى اتخذت بين كلا التوجهين الجبري والمعتزلي طريقا وسطا، لتكون مذاهبهم وافكارهم أقرب الى الدين ابعد من السياسة، وحتى هذه المدارس والمذاهب ايضا لم تخلو من الدسّ والتشويه والتشويش على رؤيتها وتصوراتها للاسلام من قبل باقي المدارس الاخرى السلفية والاعتزالية، مما يدفع اي انسان منّا ليتحصن بعد كتاب الله وسنة نبيه الكريم محمد ص الصحيحة ان يعتصم بالجوهرة التي وهبها الله سبحانه لاي انسان منّا وهي العقل !.

روى صاحب الكافي الكليني في كتاب العقل والجهل قال: (أخبرنا ابو جعفر محمد بن يعقوب قال: حدثني عدة من اصحابنا منهم محمد بن يحيى العطار، عن احمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السلام قال: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال : وعزتي وجلالي ماخلقت خلقا هو احب إليّ منك ولا أكملتك الا فيمن أحب، أما إني اياك آمر وإياك أنهى وإياك اعاقب، وأياك أثيب.))

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com