|
الخــــــلافـة "البابوية الإسلامــــية"
تعتبر الخلافة بمفهومها السني "ولاية الفقيه حسب المفهوم الشيعي" ترجمة من نمط مختلف شكليا عن مسألة البابوية في عالم الكثلكة، فقد كان البابا يمثل خليفة المسيح وكان يمتلك صلاحيات هي أقرب إلى صلاحيات الآلهة فكان بإمكان البابا ومن يخوله حق المباركة وحرمان الأفراد والجماعات من النعمة الإلهية وكان للبابا سلطات مدنية زمنية ضخمة إلى أن بدأ الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر في القرن 16 م فبدأ الدين ينسحب شيئا فشيئا من هيمنته على السلطة إلا أنه بقي قائما في الحياة الفردية حتى بعد القضاء التام على هيمنة رجال الدين على الحكومات والأنظمة، من هنا نجد أن الخليفة في التصور الذي بدأ يسود أيام بني أمية ومن ثم بني العباس كان أشبه بالبابوية حيث يعتبر الخليفة "ظل الله في الأرض"، يقول الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ويرجى ملاحظة أنني استخدمت النسخة التي حققها محمد عمارة والصادرة عام 2000 م عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر: فالخليفة عندهم ـ أي فقهاء السنة ـ ينزل من أمته بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، له عليهم الولاية العامة، والطاعة التامة، والسلطان الشامل، وله حق القيام على دينهم، فيقيم فيهم حدوده، وينفذ شرائعه، وله بالأولى حق القيام على شؤون دنياهم أيضا، وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها لأنه نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند المسلمين مقام أشرف من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن سمى إلى مقامه فقد بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر، عليهم أن يحترموه لإظافته إلى رسول الله، ولأنه القائم على دين الله، والمهيمن عليه، والأمين على حفظه. والدين عند المسلمين هوأعز ما يعرفون في هذا الكون، فمن ولي أمره فقد ولي أعز شيء في الحياة وأشرفه." صفحة 114 ـ 115 فمن الملاحظ أن هذه النظرية الفقهية لها من العمق التاريخي ما كان له وقع الزلزال الفكري والنفسي حينما قام مصطفى كمال بإلغاء الخلافة وأعلن الجمهورية العلمانية، بالتالي فإن فكرة الخلافة ذات الصيت السيء ـ كما كانت البابوية ـ تمتلك رغم كل إرثها المشين فكرة يستلهمها الإسلام السياسي في مواجهته مع التنوير والحداثة والتجديد، كما أن فقهاء السعودية الذين ينظرون الآن للحكم الإلهي لآل سعود يستندون على شرعية التغلب بالقوة مستمدين الفكرة من إرث عريق في الطاعة والخنوع لسلطة حكمت باسم الله والتوكيل الإلهي، ويضيف الشيخ علي عبد الرزاق أن على المسلمين أن يسمعوا له ويطيعوا "ظاهرا وباطنا" كما نقل عن حاشية الباجوري على الجوهرة ولأن طاعتهم من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله كما نقله من رواية أبي هريرة. بل إن هذه الولاية المطلقة والمقيدة بالشريعة ـ إسميا وإعلاميا حسب المصطلح المعاصر ـ لا تقتصر عليه بل هي في تنازل هرمي حتى تصل إلى أصغر العمال والولاة وجباة الضرائب، وهذا التحالف بين الفقيه والسلطان بدأ بأبي هريرة وانتهى بشيوخ الإسلام في إستانبول، على مدى 1300 عام، بل إن صفات هذا الحاكم (الخليفة) تشبه صفات الله من جهة أنه ليس للخليفة شريك في ولايته، إلا ولاية مستمدة من الخلافة، وبطريق الوكالة عن الخليفة، فعمال الدولة الإسلامية وككل من يلي شيئا من أمر المسلمين في دينهم ودنياهم من وزير وقاض ووال ومحتسب وغيرهم، كل أؤلئك وكلاء للسلطان ونواب عنه. وهووحده صاحب الرأي في إختيارهم وعزلهم، وفي إفاضة الولاية عليهم، وإعطائهم من السلطة بالقدر الذي يرى، وفي الحد الذي يختار" ـ الإسلام وأصول الحكم ص 116 من هنا كان حقا للشيخ على عبد الرزاق ومن حق كل مفكر حر أن يسأل فقهاء السلطة ذلك السؤال الذي جعل لكتابه ذلك الصدى الكبير والذي لوصادف وحصل على من يتبناه لكان حال هذه البلدان غير الحال والسؤال هو: أنه قد كان واجبا عليهم ـ أي الفقهاء ـ إذ أفاضوا كل تلك القوة على الخليفة ورفعوه إلى ذلك المقام وخصوه بكل هذه السلطات والصلاحيات أن يذكروا لنا مصدر تلك القوة والسلطة التي زعموها للخليفة، أنى جاءته؟ ومن الذي حباه بها؟ وأفاضها عليه وبالتالي صار أكبر موقعا من النبي نفسه. لقد كان إنجازا تاريخيا حقيقيا ذلك الذي قام به مصطفى كمال والذي خطى بالعالم الإسلامي ـ السني خصوصا ـ الخطوة الأولى في فصل مفهوم الشرعية عن الحكومة ليصبح مفهوما عقليا بحتا قائما على البحث العقلاني دون مراعاة لمعايير الحاكم الشكلية من تقوى وطول لحية وإقامة صلاة ووقار تجاه الكهنة المسلمين (الملالي)، وبالتالي الدخول بالإنسان المسلم إلى عالم العقل الرحب بدلا من العقل الساذج الخرافي والذي يلغي دور الإنسان في المعادلة لصالح الأقدار والحتميات التي جعلت من المسلمين من التخلف بحيث ينسبون كل تخلفهم وكوارثهم إلى الله والغيب وقد كان بنوأمية أول من روج لهذه العقيدة الجبرية والتي ترى في الإنسان جزءا لا قيمة له في فوضى القدر الإلهي. يورد الشيخ علي عبد الرزاق رأيين في إسناد السنة لكل هذه السلطة للحاكم والخليفة: الأول يزعم أن الخليفة يستمد سلطاته من الله ويورد على ذلك نماذج تاريخية فيقول: ذلك رأي تجد روحه سارية بين عامة العلماء وعامة المسلمين ـ كان عليه أن يحدد أهل السنة بهذا الموقف اللهم إلا إن كان يقصد أن السنة هم وحدهم المسلمون!! ـ أيضا. وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحوذلك النحو، وتشير إلى هذه العقيدة. وقد رأيت فيما نقلنا لك آنفا أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى، وأن أبى جعفر المنصور زعم أنه إنما هوسلطان الله في أرضه. كذلك شاع هذا الرأي وتحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الأولى. فتراهم يذهبون دائما إلى أن الله جل شأنه هوالذي يختار الخليفة ويسوق إليه الخلافة، على نحوما ترى في قوله: جــاء الخلافة وكانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر وقول الآخر: ولقد أراد الله إذ ولاكـــــــها من أمة إصـلاحها وإرشادها وقال الفرزدق: هــــــشام خيار الله للناس والذي به ينجلي عن كل أرض ظلامهــا وأنت لهذا الناس بعد نبيهــــــــم سماء يرجى للمحول غـــــــمامها ولقد كان شيوع هذا الرأي وجريانه على الألسنة مما سهل على الشعراء أن يصلوا في مبالغتهم إلى وضع الخلفاء في مواضع العزة القدسية وقريبا منها حتى قال قائلهم: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار ...(الإسلام وأصول الحكم ص 117 ـ 118 ) وهكذا تحول المسلمون من عبيد للثقافات الصنمية القديمة "الوثنية" إلى عبادة أنواع أخرى من الوثنية وهوعبادة الحاكم وجعله وكيل الله على الأرض، من هنا تحولت المجتمعات الإسلامية وبعد هيمنة المنطق الأرثودوكسي السني السلفي إلى ثقافة اليقين المطلق وطبقية فاحشة هيمن عليها الحلف السلطاني الكهنوتي، وكما يحدثنا التاريخ فإن حكم الخلفاء الأربعة الذين خلفوا النبي كان رغم قصوره وبساطته من حيث أنه كان نظام غير دستوري دقيق، أشبه بأنظمة أثينا والمدن الرومانية القائمة على الانتخاب، غير أن العيب الكبير في نظام الشورى المدني هوأن الخليفة لم يكن تحت سلطة برلمان شوروي يمكنه أن يطيح بالحكم إذا أخل بمباديء دستور مكتوب، بل إن أبى بكر بدأ حكمه بتصرف كان له أثره السلبي على طول الخط التاريخي الذي تلاه، وهوأنه جابه معارضيه بالسيف ولم يكن كل معارضي أبي بكر من مدعي النبوة كما هورائج الآن، بل لا نستبعد أن قصص مدعي النبوة من مسيلمة وسجاح وغيرها ليست إلا من مختلقات الرواة حالها حال أسطورة عبد الله بن سبأ (اليهودي) الذي دفع الناس إلى الثورة على خلافة عثمان وأيده كبار الصحابة. نقارن ما فعله أبوبكر مع معارضيه بما فعله علي بن أبي طالب مع من خالفه بل وبلغ به الأمر أن كفره، فعلي تعامل مع الخوارج بمنتهى الديمقراطية ـ نسبة إلى ذلك العصر طبعا ـ حيث تركهم يروجون لأفكارهم ومعتقداتهم كما يشاؤون وكان أن اشترط عليهم أن لا يخلوا بالأمن وأن لا يعتدوا على أحد، غير أنهم بدأوا بقتل الناس وتعذيبهم على الأفكار فما كان منه إلا أن طلب منهم تسليمه القتلة والمخلين بالأمن، فرفضوا، فكان أن قاتلهم، وهذه سيرة مختلفة بالتأكيد عن سيرة أبي بكر الذي لم يخير معارضيه إلا بين الطاعة المطلقة والقتال، وهكذا فإن الأمور في الدولة الإسلامية الشاسعة لم يكن لها أن تستمر على هذه الديمقراطية الضبابية وفي ظل هيمنة عقل العروبة البدوي العشائري فكان أن استلم الأمويون الحكم بالمكر تارة وبالقوة تارة أخرى، وجيلا بعد جيل ترسخ التحالف الشرير بين رجال الدين والمحدثين من جهة والخلفاء وأرباب الحكم والأغنياء من جهة أخرى.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |