|
سلسلة: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ" .. الحلقة الخامسة/الجزء الخامس/القسم الثاني
نذير علي القرشي الشعب الثائر والمثبطون حلقات كشفية لواقع المسلمين في العراق وفلسطين وأحرار العالم, ومحاولة لتحفيز الهمم واتخاذ المواقف ضد الاستكبار والصهيونية العالمية, مستندين في ذلك على الكتاب الحكيم الذي فيه تبيان لكل شيء. بسم الله الرحمن الرحيم {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} سورة التوبة الآية 46 سوف نتناول في هذا الجزء مراحل العقود الأربعة الأخيرة التي مرت على العراق بصورة مختصرة وسريعة ونلاحظ مدى هول المعاناة التي تعرض لها هذا الشعب الثائر وحجم تآمر المثبطون عليه واستمرارهم في نهجهم التآمري عليه. قبل الولوج في حلقة اليوم أود التذكير بملخص ما توصلنا إليه في القسم الأول من الحلقة السابقة والتي تلخصت بالنتائج التالية: أولاً: القرآن الكريم كان السند الرئيسي الذي استندنا فيه على بحثنا الذي تطرقنا إليه, وعرفنا من خلال البحث أن القوانين والتعاليم القرآنية عبارة عن وحدة واحدة تدور في حلقة التوحيد للخالق ولا يمكن اخذ جزء وترك البقية ونقول بعد ذلك إن القرآن لا يصلح لحل مشاكلنا. ثانياً: من خلال ذلك تطرقنا لأحد المفاهيم التي تعاملنا معها بصورة خاطئة, هي فكرة الشهادة والتي تتزاوج معها فكرة الجهاد, فالرؤية الإسلامية لفكرة الجهاد تستند على دعامتين رئيسيتين هما النصر و الشهادة, هاتان الدعامتان غير منفكتين عن بعضهما البعض في عمق التفكير عند المسلمين قاطبة, وهي الركيزة الصلبة التي يتحرك على ضوئها المؤمنون المجاهدون, فالمسلمون الأوائل كانوا يندفعون في القتال للفوز بإحدى الْحُسْنَيَيْنِ من دون التفريط بالنصر, فالنصر لهم هو الأساس, أما الشهادة أذا جاءت بالعرض أثناء القتال فهذا هو الفوز بالجنة التي وعد الله بها المقاتلين في سبيله . ثالثاً: حصلنا على درس من سيرة وجهاد علي (عليه السلام) فهو رغم تمنيه للشهادة وأنسه بالموت, تراه يأخذ بكل الأسباب الطبيعة التي تمنع من الوصول إليه وقتله, وهذا الأمر أعترف به خصومه الذين أرادوا قتله, وعجزهم عن تحقيق ذلك في الحروب التي خاضوها معه, فالحقيقة الوحيدة التي كان يدافع عنها هي تطبيق الحكم الإلهي. رابعاً: وقوع الحركات السياسية الدينية العراقية في شبهة نور الشهادة, وقدسية الشهيد, فقد غطت هذه الشبهة على أغلب أفعال ومنهجية أعمال هذه الحركات السياسية الشعبية الدينية, وحتى القيادات لم تستطع التخلص من هذه الشبهة وانساقت إلى العقل الجمعي الذي عليه الناس, بل توقف جميع المفكرين والمصلحين عند تلك النقطة التي انتهى إليها الشهيد وأصبح الكل بين ناعي وآسي على الشهيد, وبين مستمداً من فكرته التي كان يحملها وينطلق بها لمواجهة الأعداء, من غير تطوير لأساليب المواجهة مع العدو الذي تطور وفعّل آلياته بشكل كبير. خامساً: ملاحظة وجود الأغلب الأعم ممن حمل راية الشهيدين الصدرين, قد خالفوا ما عاهدوا الله عليه وارتموا بأحضان الكفار وسفاكي دماء الشعوب من دول الاستكبار التي حاربها الشهيدين, كما لاحظنا أيضا وجود من يكمل منهج الشهيدين الصدرين في الساحة العراقية وبنفس الروح والعزم ويقاتل على نفس المبادئ التي قتل من أجلها الصدرين وهو ينتظر وما بدل تبديلا, لكننا تغاضينا عنه في متابعته والسير معه, أو جهلنا حقه فتركناه, أو نحن الذين بدلنا عهدنا وغيرنا رأينا عندما رأينا شدة بأس عدونا, والوعود والأماني التي واعدنا بها, أو لا هذا ولا ذاك وإنما تكاسلنا واتكال بعضنا على البعض عن نصرة الثوار الصادقين فصار الذي حصل في بلداننا. بعد هذا العرض السريع لِما توصلنا إليه في القسم الأول من الحلقة السابقة سوف نتناول في القسم الثاني من هذه الحلقة المفهوم الثاني من المفاهيم الملتبسة والمشوشة التي أثرت بصورة مباشرة في طريقة تفكيرنا وهذا الأخير ميزَ طريقة عملنا فكان عملنا غير دقيقاً ومفارقاً للصراط المستقيم من حيث نعلم أو لا نعلم, والنموذج الثاني الذي سنتناوله في هذه الحلقة هو: النموذج الثاني: مفهوم هجرة القيادة بين الوجوب والحرمة في وسط عالم مليء بالمتناقضات وخالي من القيم, وضياع للمبادئ وانحدار بالأخلاق إلى مستوى الحيوانية, وسيادة شرع الغاب, وسيطرة قوى الكفر على مقاليد أمور الناس في أرجاء المعمورة, وانقلاب الموازين الشرعية واستهجان للدين والتدين, ولبس الناس للدين لبس الفرو مقلوبا, والرجوع القهقري بالأفكار إلى عصور ما قبل الجاهلية واستحداث دين عالمي جديد يسير على أمم الأرض ويدبي في جسدها من حيث لا تشعر, فلا المبادئ البوذية عادت كما شرعها بوذا للوصول وبلوغ النرْفاَنَا Nirvana (وهي حالة من السعادة القصوى). ولا النصرانية التي نزلت من عند الله تعالى بقيت سالمة من التحريف والتبديل على يدي الكهنة ورجال السياسة. ولم يكن الإسلام بعيداً عن تغيير المفاهيم وتحريف القوانين والتعاليم القرآنية من قبل علماء السلاطين ورجال السياسة والحكم. والدين المشترك اليوم الذي عملت عليه دوائر الصهيونية العالمية بين شعوب العالم هو سيطرت الأفكار المادية على بني البشر والتخلي عن القيم السماوية والمعتقدات الأخلاقية والتحلي بالقوانين الوضعية التي آلت بالبشرية إلى الكوارث التي نشاهدها يومياً بين ظهرانينا. فبعد أن سيطرت قوى الكفر العالمي على شعوب العالم بالقوة عمدت إلى تحريف القيم المعنوية والدينية التي تمتلكها الشعوب وبغض النظر عن صحة المعتقد أو فساده, فبعد انهزام اليابان في الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945م عملت السياسة الأمريكية على التذويب ومن ثم القضاء على الوطنية الفائقة التي تغرسها (الشنتوية) (1) في نفوس المقاتلين اليابانيين، والتي أفرزت أثناء الحرب العالمية الفرق الانتحارية التي أنهكت الأسطول الأمريكي, وكذلك عملت على ترسيخ الطائفية بين أبناء الشعب العراقي للحد من ضربات المجاهدين وإشعال الفتنة الطائفية فيما بينهم لتتفرغ قواتها لمخططاتها الموكولة إليها. ومن هذا المنطلق عمل المحتل على اصطفاف المؤسسة الدينية معه, لتعطيل القوانين الإسلامية والتي أدت إلى ضياع البلد, وتثبيط معنويات أبناءه, وأضعاف الروح القتالية عند المجاهدين والمقاومين, وقد أستغل العدو هذا الموضوع غاية الاستغلال ووظفه لصالحه أحسن التوظيف, فقتل العلماء المجاهدين, وسجن آخرين, و كان سببا في هجرة البقية الرافضة لوجوده, بينما عمل على أعلاء شأن المصطفين معه وتسليط الأضواء عليهم وإبرازهم للعالم على أنهم الممثلون الوحيدون الشرعيون للشريعة الإسلامية. ولقد عملت هذه المؤسسة وبزعامتها المنصبة على تعطيل فرائض الله في الجهاد والقتل في سبيل الله, وتشويه وتمييع فريضة الهجرة في الله وإعلاء كلمته, والتي يعتبرها القرآن في الأساس جوهراً لوجود الحرية والرفاه كما يتبين من خلال هذه الآية {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} سورة النحل الآية41. لذا سنتناول في هذا القسم كيفية حصول هذا التشويه والتذويب لهذه الفريضة الخالدة؟ حيث يصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الحكم بقوله: أيها الناس هاجروا وتمسكوا بالإسلام، فإن الهجرة لا تنقطع مادام الجهاد. أو في حديث آخر قائلاً: لن تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار.(2) فالهجرة ذلك القانون الطبيعي الموجود منذ القدم حيث عمدت الكائنات الحية منذ بداية الوجود إلى الهجرة من مكان إلى آخر, فحينما تتعرض حياة المجموعة أو الفرد إلى الخطر, نراهم يضطرون إلى ترك مكان تواجدهم والهجرة منها إلى مأوى وملجأ آمن, وهناك شواهد كثيرة على ذلك ولا مجال لتفصيلها في هذا البحث, فحين تتعرض الحياة المعنوية للإنسان وتكون مهددة بالخطر والفناء وزوال أهدافه المقدسة التي هي أثمن وأغلى من حياته المادية, فماذا يفعل ذلك الإنسان هل يبقى متشبثاً في مكان الخطر الذي ولد وترعرع فيه متحملاً مختلف أصناف وألوان الذل والإهانة والحرمان وسلب الحرية, بالإضافة إلى ضياع وزوال أهدافه التي يعيش من أجلها, خاصة وأنه ليس له القدرة المادية على مواجهة المتسلطين من الظلمة, أو أنه يتوجب عليه أن يرضخ لقانون الطبيعة ويهاجر إلى مكان أخر يستطيع من خلاله إكمال مسيرته ونشر أفكاره ومعتقداته وتنمية أهدافه وقوته المادية والمعنوية؟ مع قادة وأئمّة مهاجري العالم : ورد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من فر بدينه من أرض إِلى أرض وإِن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنّة وكان رفيق محمّد وإِبراهيم(عليهما السلام)».(3) ففي قصّة رافع راية التوحيد ومحطم الأصنام وقاهر المستكبرين والطغاة نبي الله ابراهيم الخليل (عليهم السلام) وطريقة نجاته الإعجازية من الحريق هذه المرحلة الخطيرة في المواجهة بينه وبين أركان حكومة نمرود والتي هزت كيانه وفقد نمرود معنوياته تماماً، فلم يعد قادراً على أن يُظهر إبراهيم بمظهر الشاب المشاكس والمثير للمشاكل, فقد عُرف عن إبراهيم(عليهم السلام) بين الناس بأنّه مرشد إلهي وبطل شجاع يقدر على مواجهة جبّار ظالم ـ بكلّ إمكانياته وقدرته ـ بمفرده، وأنّه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذا الحال، ومع ذلك اللسان المتكلّم والمنطق القوي، والشهامة والشجاعة التي لا نظير لها، فمن المحتّم أنّه سيكون خطراً على تلك الحكومة الجبّارة الغاشمة، فلابدّ أن يخرج من تلك الأرض على أي حال. وبذات الوقت فأن إبراهيم(عليه السلام) كان قد أدّى رسالته في الواقع في تلك البلاد، ووجّه ضربات ماحقة إلى هيكل وبنيان الشرك، وزرع نبتة الإيمان والوعي في تلك البلاد، وبقيت المسألة مسألة وقت لتنمو هذه النبتة وتعطي ثمارها، بقلع جذور الأصنام وعبادتها، وتهشيم المستكبرين ودعاته, فكان لابدّ من الهجرة إلى موطن آخر لإيجاد المكان المناسب لإرساء دعوته وتثبيت رسالته هناك، ولذلك صمّم على الهجرة إلى الشام وبصحبة لوط ـ وكان ابن أخ إبراهيم(عليهما السلام) ـ وزوجته سارة، وربّما كان معهم جمع قليل من المؤمنين، كما يقول القرآن الكريم: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } سورة الأنبياء الآية71, ولا يبعد أن قرار الهجرة كان نتيجة عاملين اثنين أولهما أن إبراهيم (عليه السلام) كان يرى أنّ مهمته في تلك الأرض قد انتهت, وثانيهما أن البقاء في أرض بابل النمرود تشكل خطراً عليه يهدد حياته مما يعرض رسالته ودعوته العالمية للنقص, مما أضطره لاتخاذ قرار الهجرة وتركه للأرض التي ترعرع وظهرت معجزات رب العالمين على يديه فيها, لكن رسالة السماء وإنقاذ البشرية أسمى وأعز من كل ذلك. أما المسلمين فقد عينوا الهجرة النبوية أساساً ومبدأ ـ أو بداية ـ للتاريخ الإِسلامي، ولذلك فهي تعد البنية الأساسية لكل الأحداث السياسية والإعلامية والاجتماعية التي حصلت وتحصل للمسلمين, فلماذا هذا الاهتمام بحدث الهجرة دون غيره من الأحداث التي حدثت للمسلمين قبل الهجرة, مثل يوم ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو يوم البعثة المحمّدية الشريفة، أو فتح مكّة، أو وفاة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكننا نراهم لم يتخذوا أي واحد من هذه الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم، بل اعتبروا حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإِسلامي, ففي زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد الإِسلامية, بدأ المسلمون يفكرون بتعيين بداية تأريخهم الذي له أهمية عامّة وشاملة وأنّ المسلمين بعد البحث الكثير والتشاور في هذا الأمر، اختاروا رأي علي بن أبي طالب(عليه السلام) بإِتّخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإِسلامي(4). فلماذا أختار علي (عليه السلام) حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإِسلامي ؟ لأنّ الهجرة كانت أهم وأبرز حدث أو أخطر برنامج حصل في الإِسلام، حيث كانت الهجرة مبدأ وفصل جديد مهم في التاريخ الإِسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكّة لم تكن لديهم أي قدرة سياسية أو اجتماعية، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تطورت وازدهرت بسرعة فائقة في كافة المجالات ولو أنّ المسلمين حينذاك خالفوا أمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة لقبر الإِسلام في مكّة وأندثر أثره, و لما تيسر عند ذلك للإِسلام أن يمتد خارج حدود مكّة. من ذلك يتضح إن الهجرة حكم عام لا يختص بزمان دون زمان فمتى ما تحققت الظروف المشابهة للظروف التي اضطرت النبي وأصحابه(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ترك مكة والهجرة إلى المدينة, وجبت حينذاك الهجرة على المجاميع والأفراد من المسلمين إلى البلدان الآمنة التي يستطيعون فيها إكمال مسيرتهم الرسالية. وقد ذكر القرآن الكريم صفات وميزات كثيرة وكبيرة للمهاجرين وفي عدة مواقع ومختلف الحالات, إلا أنه لم يعطهم حصانة الأنبياء والأئمة من عدم الوقوع بالخطأ وهو الأساس في الامتحان والاختبار الإلهي لبني البشر, فقد هاجر السامري من مصر مع موسى عليه السلام وكان على مقدمة رهط موسى عند عبور البحر, وأمامه ملك يرشدهم. فماذا فعل السامري ذلك المهاجر؟ ألم يأخذ قبضة من أثر هذا الملك, وكانت هذه القبضة وبالا على بني إسرائيل. لقد أشترك السامري بهذه القبضة في صناعة عجل من ذهب عبده المنحرفون من بني إسرائيل وأشربوا في قلوبهم حب هذا العجل, وكان هذا الحب وبالا فيما بعد على الجنس البشري, إن السامري هاجر وبعد الهجرة أظهر ما في نفسه, قال تعالى لموسى عليه السلام عندما ذهب للقائه {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ }سورة طه الآية85 ، والفتنة هي الامتحان والاختبار. وعندما عاد موسى عليه السلام وعلم بما حدث. أخبر عنه الله تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } (سورة طه الآية 95-96) , لاحظ قوله (سولت لي نفسي) فالنفس هي الرابط مع الله . ولقد أقام الله على الإنسان الحجة فيها، فألهمها فجورها وتقواها, فمن انغمس في الشهوات ونسي ربه وسيطرت عليه نفسه الأمارة بالسوء فقد شقي وخسر, ومن قاد زمام نفسه إلى التقوى ورضوان الله فقد فاز فوزاً عظيما, ألم تسول للسامري نفسه، فما أغنت عنه هجرته {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً }سورة طه الآية97, وهذا الأمر حصل مع أغلب القيادات التي هاجرت بعد تعرضها للخطر في بلدانهم, ولكنهم بعد استقرارهم في البلد المضيف تراهم يقعون فريسة تسويل أنفسهم حينما يعرض عليهم المال المشبوه والشهرة المحرمة فيقعوا تحت تأثير شهوة المال وحب الشهرة. اليوم وقد أندرست مفاهيم إسلامية كثيرة ومن ضمن هذه المفاهيم مفهوم الهجرة, فلم يعد اهتمام المسلمون بها كما كان في صدر الإسلام, حيث تسربت روح الخمول والوهن والتثبيط والتأويل والتغيير لروح المفاهيم الإسلامية العملية التي تمسك بها المسلمون الأوائل, فانتصروا وفتحوا البلدان وانتشر دين الإسلام, فنرى حتى فقهاء الإسلام من المتقدمين منهم والمتأخرين, لم يتعرضوا لموضوع الهجرة إلا من باب الحكم الفقهي, ولم يشرعوا بتحليل الأمر وربطه بالواقع المعيش للمجاميع الرسالية في حال تعرضها لذات الظروف التي تعرض لها الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام), بل الأغرب من ذلك هو حين تتبعي لموضوع الهجرة بين أقوال الفقهاء عموماً لم أجد من تطرق من هؤلاء الفقهاء(رضوان الله عليهم) إلى الهجرة المتعلقة بالقيادة وماهية آلياتها, وكيفية الصورة التي يجب أن تكون عليها من الوجوب والحرمة في حال حصول الضرر الديني الناشيء من خطر إبادة القيادة ومحوها من قبل القوى المعادية. وقد يكون سبب عدم تعرض الفقهاء لهذا الأمر خصوصاً, كونه متعلقاً بالقيادة, والتي من المفروض أن تكون عالمة بتفصيلات هذا الموضوع وتشعباته ومدى جدواه وعدمه, ولهذا لم يخصص الفقهاء باباً متعلقاً بهذا الموضوع الخاص بالقائد أو القيادة!. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك هو ما حصل مع السيد الشهيد محمد باقر الصدر(ره) حيث أنه لم يفكر بالهجرة والمناورة مع السلطة الحاكمة كما يذكر هذا المعنى عادل رؤوف في كتابه محمد باقر الصدر بين دكتاتوريتين حيث يقول رؤوف (( والغريب في الأمر أن الشهيد الصدر لم يكن يفكر إطلاقاً بمغادرة العراق))(5) ويثبت رأيه هذا بأمثلة يختارها لذلك. ونتيجة لبقائه هذا وعدم هجرته توالت الأحداث الكبيرة عليه, والتي كانت تجبره للسير معها وليس له فعل واضح كي يؤثر بها, كما جاء في الكتاب السابق لعادل رؤوف وفي عنوان فرعي تحت اسم (قرارات مرتبكة) يقول:(( ...,وكأن الأحداث الضخمة كانت هي التي تسيِّر القيادة, وليس القيادة هي التي تصنع الأحداث, ولايمكن لهذا (الالتباس) ان يخفف إلا عبر تصور أن الشهيد الصدر كان (يراهن) ربما على حشر المرجعية الدينية في المواجهة لأنه في فترة الحجز,.. )) (6) ولمهابة وقدسية الشهيد ونور الشهادة - التي ذكرناها في القسم الأول من هذه الحلقة - للصدر الأول عند رؤوف نراه لا يذكر اسمه في هذا الصدد ويستعيض عنه بتعبير (القيادة), ولكنه عندما أراد التبرير أو التخفيف عنه كما هو تعبيره حيث يذكره بالاسم الصريح, وهنا نقول أذا كانت هذه القيادة بما تملك من بعد شعبي وأتباع مليونية في الشارع العراقي فلماذا لم تكن هي المؤثرة بالحدث وليس الحدث مؤثراً بها - كما يذكر رؤوف - هذا أولاً؟. وثانياً إذا كانت هذه القيادة عارفة بطبيعة الخصم وأجرامه وتصميمه على وأدها وتصفيتها فلماذا لم تتخذ الهجرة - والتي كانت ميسرة لها في ذلك الوقت بعد أن أصبحت المواجهة علنية ومكشوفة من كلا الجانبين - اسلوباً وقائياً أولاً وهجومياً ثانياً بعد ترتيب الأمور كلها؟ وقد عرفنا من خلال اجتهاده ذلك ونتيجة الإصرار والمواجهة غير المتكافئة التي أدت به إلى القتل, وإن كان هذا القتل في سبيل الله, وقد ربح هو بنيل هذه المرتبة وخسرته الأمة في وقت أحوج ما تكون إليه, فالطريقة التي جرت عليها الأمور في ذلك الحين كان بالإمكان السيطرة عليها والتلاعب بها, فعقلية كبيرة ومفكر عظيم مثل الصدر الأول كيف لا يتنبه لهذا الموضوع ويغلق جميع الأبواب أمام السلطة ليضطرها إلى قتله, فالأمثلة التي ذكرناها في بداية البحث لقادة المهاجرين من الأنبياء (عليهم السلام) توضح لنا بأنهم لم يعطوا الفرصة لأعدائهم للنيل منهم وتصفيتهم, وحتى سيد الشهداء لم يكن يريد أن يسلم نفسه بسهولة للعدو حينما خيرهم بأن يتركوه وأصحابه إذا هم كرهوا قدومه, حيث نلاحظ من خلال الكتاب الذي بعثه عمر ابن سعد الى عبيد الله بن زياد" بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فاني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عما أقدمه وماذا يطلب؟ فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، يسألوني القدوم إليهم ففعلت، فأما إذا كرهتموني، و بدا لهم غير ما أتتني به رسلهم، فأنا منصرف عنهم" (7). ولكن العدو رفض ذلك فاضطروه للدفاع عن نفسه . لكن الغريب أن نرى السيد الشهيد الصدر الأول(ره) قد عقد العزم ووطن نفسه وعمل على الشهادة منذ بدء المعركة كما نلاحظ ذلك من خلال هذا النص(( إذن خلفية التفكير الصدري, هي خلفية تستبطن خيار الدم والاستشهاد من أجل التغيير, من أجل الإنجاز الإسلامي ودفع عجلة المواجهة إليه, فهو في العام 1976 ورغم الأشواط الكبيرة التي قطعها في العمل, إلا أنه يعود لقراءة الواقع السياسي الذي يحيط به, فيلاحظ خللاً في توازن المواجهة لصالح السلطة, فيلجأ على التفكير بمعالجة هذا الخلل عبر الاستشهاد, استشهاد الطليعة, النخبة, القيادة, لأن له وقعاً أكبر في التعبير من استشهاد القواعد والكوادر الأخرى))(8) وهذا المنطق من مرجع وفقيه ومفكر يحتاج إلى مراجعة؟ فكيف يترك تطبيق فريضة كانت من سنن الأنبياء والقادة الربانيين وشرعها القرآن ونفذها رسول الله (ص) وأصحابه(رض) وسار عليها الإمام علي والحسين(عليهما السلام), فكيف يغيب عن هذا المفكر العظيم أن القيادة هي رأس الأمة وإذا ذهب الرأس ماتت الأمة وليس العكس, مع علم السيد الصدر بفشل فكرة القيادة النائبة التي أقترحها في حال استشهاده(9), وكذلك مقارنة الواقع مع ظرف الإمام الحسين (عليه السلام) فيه خلل كبير, وهذا الموضوع يراد له أن يفصل بصورة أكثر ليس مجاله هنا. ومن الجدير بالذكر بهذا الخصوص هو غياب فكرة ملكية القائد أو الداعية, فبعد أن يعرض القائد نفسه على الأمة وتتقبله الأمة يصبح في ذلك الوقت وفي هذا الظرف ملكا للرسالة التي يحملها وهي حق للأمة يجب الحفاظ عليه من كلا الطرفين, فمن جانب الأمة يجب عليها المحافظة على القيادة التي تحمل دعائم الرسالة, ومن جانب القيادة يجب أن تعمل جاهدة في سبيل الحفاظ على ديمومة تطبيق رسالتها التي تبنتها, وليس ألقاء نفسها في مزالق تكون نهاياتها كارثية على القيادة وعلى الأمة, لذا فتقدير الضرر يقدره القائد وحين يرى عدم جدوى بعض الحلول يجب عليه المناورة وتغيير أسلوب المواجهة مع العدو الذي لا يتوانى من سحقه وبالتالي ستسحق الأمة, ومن هنا نرى إن العظماء الذين ذكرناهم في مقدمة البحث عندما وصلوا مع العدو إلى نقطة الصفر وزمان اللاعودة تراهم تحركوا بالاتجاه الآخر وهاجروا وغيروا المكان والظروف المحيطة بهم مما جعلهم يملكون مساحة أكبر ودائرة أوسع في التحرك من أجل إحلال وتطبيق المبادئ التي يؤمنون بها. هذا المثال الواضح في تعبيراته ونتائجه وما آلت إليه الأمة من كوارث نتيجة فقدانها لرمزها كان بسبب الخلل الموجود في المنظومة المعرفية لفقهاء ومفكري الإسلام حيث لم يشبعوا أمر القيادة بالبحث والتنقيب ولم يعرضوا الملامح العريضة التي يسير عليها القائد في مثل هذه الظروف, ولذلك نجد أن أغلب القيادات التي تعمل بالعراق والتي تزامن ظهورها مع الاحتلال, وخاصة تلك التي رفضت المحتل وعملت على مناهضته ومحاربته بكل السبل, ونتيجة لعدم تطبيق أغلبهم لقانون الهجرة بعدما ضيق عليهم المحتل وأعوانه كل الطرق وأصبحت حياتهم مهددة بالخطر ونتيجة لتشبثهم بالأرض والوطن والأهل والعشيرة, تراهم قد غيروا من طريقة رفضهم للمحتل وأخذوا يحاورونه على أساس أن الحوار والضغط السياسي سوف يجدي نفعا مع هؤلاء الكفار الذين يتقنون هذا الفن وهذه اللعبة, وتبريرهم لهذه الأفكار والأعمال ناتج عن إصرارهم وبقائهم بين يدي المحتل الذي أستدرجهم وأوقعهم في حبائله وشراكه السياسية, لذا فقد انساقوا مع المحتل وغيروا أرائهم تدريجياً بوضع المحتل وطرق أخراجه من الوطن الغالي - هذا الأمر متعلق بالصادقين منهم فقط ولا ينطبق هذا الأمر على غيرهم – بينما نرى أن السيد احمد الحسني البغدادي (دام ظله) بعدما تحرك في مناهضة المحتل وفضح ألاعيبه ووقوفه إلى جانب المجاهدين والمقاومين من أبناء الأمة ومن داخل أرض المعركة نراه بعد خمس سنين حينما يضيق عليه المحتل وأعوانه ويهاجمونه في بيته ثلاث مرات وفي كل مرة يتمنى الشهادة ولكنه بذات الوقت لا يعطي نفسه بسهولة لذا نراه يقرر تطبيق قانون وفريضة الهجرة التي توجبت عليه بعدما عرف وتيقن أن المحتل وأعوانه في المرة القادمة سوف يقضون عليه وبذلك تنتهي حياته وتخسر الأمة خدماته الخالصة للوطن. فالخطأ الذي وقعت به تلك القيادات كان بسبب عدم وضوح الرؤية عند هؤلاء القادة بأمر ومكانة الهجرة في سبيل الله, فلو أنهم علموا وتيقنوا أن مكانة المهاجر عند الله عظيمة ولها مكانة خاصة كما صرح ذلك في قوله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) سورة التوبةالآية20-22, لما لاحظنا تخلي الرساليون عن هذا الأصل القرآني ولما ترك القادة العمل به, حيث نلاحظ الدرجة العظيمة والفوز الذي وعدهم به الله, والبشرى والرحمة الخاصة بهم, واصطفائهم لمقام الرضوان الذي هو مكانة ومنزلة خاصة غير الجنات والنعيم المقيم, وينهي تعالى قوله بتوكيد الخلود عنده والأجر العظيم. من خلال ذلك كله نستنتج ان القيادة ليست ملك نفسها وإنما هي ملك للرسالة التي أوكلها الله لهم وهي بالتالي ملك الأمة ولا يحق أياً كان التفريط بها سواء على مستوى الأمة أو على مستوى القيادة نفسها, لذا توجب على القيادة الهجرة متى تعرض وجودها وكيانها لخطر الزوال أو التصفية الجسدية ومتى تعسر على تلك القيادة أو القائد من أداء واجبهم وقيادة المجتمع فيلزمها في مثل تلك الأوضاع الهجرة وتغيير المكان وإلا فيطبق عليهم قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً }سورة النساء الآية97 ـــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الشنتوية ديانة وضعية اجتماعية ظهرت في اليابان منذ قرون طويلة، ولا زالت الدين الأصيل فيها، وقد بدأت بعبادة الأرواح، ثم قوى الطبيعة.. ثم تطور احترام الأجداد والزعماء والأبطال إلى عبادة الإمبراطور الميكادو الذي يعد من نسل الآلهة، كما يزعمون .{الموسوعة الميسرة في الأديان,ج2, 146}. (2) ميزان الحكمة, محمد الري شهري,باب الهجرة 530,ج11,ص13, ط1/ 1416 ه الناشر: دار الحديث/قم. (3) مجمع البيان, الطبرسي ,ج:3,ص: 100/ بحار الأنوار ,ج:19,ص:31. (4)تاريخ المدينة المنورة, أبو زيد عمر بن شبه النميري البصري, ج2, ص758, ط1 / 1410هـ, الناشر: دار الفكر - قم – إيران. (5) محمد باقر الصدر بين دكتاتوريتين, عادل رؤوف, ص 168,ط5/1426هـ - 2005م, المركز العراقي للإعلام والدراسات. (6) المصدر السابق, ص166. (7) بحار الأنوار , المجلسي, ج 44,ص 385. (8) محمد باقر الصدر بين دكتاتوريتين,ص210. (9) المصدر السابق,ص192. -------------------------------- ملاحظة: للنقد والاستفسار يرجى المراسلة على العنوان الالكتروني أعلاه
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |