|
هل أخطأنا في دعمنا للعراق الجديد؟!
د. شاكر النابلسي -1- صباح التاسع من نيسان 2003 كان نهاية تاريخ وبداية تاريخ جديد . نهاية عهد وبداية عهد. كان منظر الإطاحة بتمثال الديكتاتور الطاغية وتحطيمه في ساحة الفردوس بالنسبة للمواطن العربي من أمثالي، منظراً فريداً لا يمكن رؤيته إلا في الأحلام وفي كوابيس الحرية والعبودية، وربما في الأفلام السينمائية. وأنا شخصياً، ومن معي من الذين تحمسوا حماساً شديداً للعراق الجديد، كنا نظن أن العراق هو بداية الطريق، وليس نهاية الطريق كما أصبح الآن. كنا نظن (أن المسبحة سوف تكُرُّ ) على البقية الباقية من الأنظمة الديكتاتورية العربية. وبأن الحملة على العراق، هي للإطاحة بكل الديكتاتوريات العربية، وليس بالديكتاتورية العراقية فقط. ولذا كتبنا ما كتبناه (انظر كتابي: الزلزال.. أوراق في أحوال العراق، 2004، دار المدى) واعتبرنا أن الزلزال، الذي ضرب العراق لا بُد أن يمتد أثره إلى باقي دول العالم العربي. فهل أخطأنا في دعمنا للعراق الجديد؟ -2-
أرى أنا ومعي من يشاركني هذا الرأي، أنه رغم خيبتنا وفجيعتنا بالنخب السياسية العراقية، التي حكمت في الماضي بعد 2003، والتي ما زالت تحكم حتى الآن، إلا أننا ما زلنا نؤمن بقدرة الشعب العراقي بكافة مكوناته، على بناء العراق الجديد.. عراق الحرية والديمقراطية والحداثة. فالعراق هو أملنا الوحيد لكي يكون الأنموذج المحتذى في العالم العربي. ورغم سيول التهم وأكوام الشتائم والسباب التي انهالت على رؤوسنا، نحن من دعمنا العراق الجديد، من المثقفين العرب، إلا أننا بقينا صامدين ومتماسكين ومؤمنين أشد الإيمان بقدرة الشعب العراقي على تحويل كل سلبيات السنوات السابقة إلى ايجابيات في المستقبل القريب. وكنا نؤمن بأن الهدف الأسمى من دعمنا لقضية الشعب العراقي، كان بسبب: 1- أننا لا نريد الاكتفاء بالإطاحة بالديكتاتورية. ولكننا كنا نسعى إلى القطيعة مع التراث الديكتاتوري جملة وتفصيلاً. فالتراث الديكتاتوري كان تراث العراق السياسي منذ آلاف السنين وحتى 2003. 2- إن كارثة العراق الكبرى، بعد القضاء على ديكتاتورية صدام ، ستكون العودة إلى الدولة المركزية الديكتاتورية بالضرورة، في بلد متعدد الطوائف والقوميات. وهو ما نلاحظه الآن، ونخشى منه. 3- إن المطلوب من العراق الجديد ديمقراطياً هو الانتخابات غير المزورة والتعددية الحزبية، مع الاستئناس بتجربة ألمانيا ما بعد هتلر، في التعامل مع الحزب النازي ومناضليه، والمنع الفوري للشعارات الدموية التي ثقَّفت العراقيين بعبادة الشخصية والحكم الفردي والاستهتار بحقوق الإنسان، على حد تعبير المفكر التونسي العفيف الأخضر. 4-إن التقدم إلى فيدرالية عراقية ديمقراطية وعلمانية – كما هو الحال الآن في كردستان العراق - يمر حكماً بظهور إعلام حر، حديث ونزيه. وفي عصر ثورة الاتصالات، يُشكِّل الإعلام المستقل عن الدولة مدرسة الديمقراطية والعلمانية. 5- تبني تعليم حديث، ديمقراطي، وعلماني، لغسيل الأدمغة من أفكار الديكتاتورية التي مارستها المدرسة الصدامية. فالمطلوب اليوم هو مدرسة قادرة علي تخريج عمال الغد: التقنيين، المهندسين، الباحثين، العلماء والأطباء الذين يُشكِّلون رافعة التنمية في العراق والشرق الأوسط عامة. 6- إلغاء تعدد الزوجات والطلاق التعسفي بدون الاحتكام إلى القضاء والزواج المبكر، الذي يُحرم الفتاة من إكمال تعليمها الثانوي، ويفاقم من الانفجار السكاني. وإعطاء للمرأة الحق في الإجهاض، والحد من النسل، والأهلية المدنية، لتزويج نفسها بنفسها، والسفر وحدها، ورئاسة العائلة بالمشاركة مع الزوج، والتشاور مع الأطفال، وميراث كامل ثروة أبيها إذا لم يترك لها أخاً. والمرأة العراقية، وكذلك المرأة الكردستانية العراقية، جديرة هي الأخرى بكل هذه الحقوق الأولية وغيرها، مثل المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث، والشهادة أمام القضاء. -3- هذا ما كنا نأمله من العراق الجديد بعد التاسع من نيسان/إبريل 2003 فهل أخطأنا في دعمنا للعراق الجديد؟ لقد دعم الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل فوكو (1926-1984) المثقف الليبرالي العلماني الديمقراطي الفرنسي، ثورة الخميني عام 1979. فقد كان منظراً مثيراً لفوكو وهو يرى على شاشات التلفزيون، بطولة الحشود الإيرانية في مواجهة البوليس والجيش عام 1979. وربما كان هذا المنظر هو ما دفعه – كمفكر وفيلسوف - إلى تجاوز الحياد تجاه هذه الثورة، واتخاذ موقف محبّذ للثائرين، من دون انتظار ما الذي سوف تتمخض عنه الثورة الإيرانية، وما قد تعطيه من أسباب تستوجب الإدانة، أو تثير الاعتراض. وربما كان هذا أيضاً موقفاً ذهب به إلى الحد الأقصى تجاه "الحقائق الغربية"، من موقع أن لا أحد كاملاً. -4- كان تبرير فوكو لموقفه المبدئي من الثورة الخمينية، ولهذا الدعم الغريب من فيلسوف علماني ليبرالي لدولة دينية في إيران يتلخص في التالي: 1- أن الفيلسوف فوكو، كان يدعم كل حركة أو ثورة مناهضة للإمبريالية الأمريكية، ومنها ثورة الخميني، التي كانت متشددة ومتطرفة في مناهضتها للسياسة الأمريكية. 2- أن الفيلسوف ميشيل فوكو، كان كالفيلسوف الفرنسي سارتر (1905-1980) يدعم كل ثورة من أجل تحرير شعب من الشعوب. وثورة الخميني في شكلها الخارجي، ولأول وهلة، كانت تبدو ثورة لتحرير الشعب الإيراني من الديكتاتورية الشاهنشاهية العلمانية. ولكنها سقطت أخيراً في يد الديكتاتورية الدينية المنغلقة، كما شاهدنا في انتخابات الرئاسة الإيرانية يونيو 2009. 3- كانت شخصية الخميني مدهشة للفيلسوف فوكو. وكان يعتبر الخميني بطلاً سياسياً، ومحرراً لشعبه، وليس فقهياً دينياً فقط. 4- كان فوكو قد زار الخميني أثناء إقامته في فرنسا (في نوشفيل – لوشاتو). وبعد هذه الزيارة، قال فوكو لأحد أصدقائه : هذا رجل تكفي كلمة منه يلفظها من بعيد، لكي تجعل مئات الآلاف من المحتجين، يرمون بأنفسهم أمام دبابات الشاه في شوارع طهران. 5- كان فوكو يرى أن ثورة الخميني كانت الثورة الأولى في العالم، التي تنفجر فيها حركة إسلامية. ولكن كانت نتائج هذا الحدث – وقتئذ - لم تزل غير معروفة. ولكن فوكو أعلن أنه مندهش من محاولة انفتاح السياسة على البعد الديني. فمن المعروف أن الدين لم يكن من أوائل اهتمامات فوكو. وكان فوكو يتساءل، ما الذي يريده هؤلاء الإيرانيون، حتى ولو دفعوا حياتهم ثمناً له. ويجيب: إنها "الروحانية السياسية" التي نسينا قوتها في أوروبا منذ عصر الأنوار. وتوقَّع فوكو، بأن الفرنسيين سوف يضحكون – وهم على خطأ - من موقفه. وهذا ما حصل بالفعل. فقد ضحك الآن الفرنسيون، بل ضحك العالم كله، من موقف فوكو، والعالم على صواب من ذلك، وليس على خطأ. مات فوكو عام 1980 ؛ أي بعد عام من قيام ثورة الخميني التي كانت في ذلك الوقت في عزِّ نشوتها الثورية الحماسية . ولو عاش فوكو حتى الآن ورأي المظاهرات الصاخبة التي قادتها المعارضة الإيرانية بقيادة مير حسين الموسوي في شوارع طهران، احتجاجاً على تزوير الانتخابات في يونيو 2009 ومقتل العشرات منهم على أيدي الباسيج (الحرس الثوري الإيراني) فماذا كان سيقول؟ نأمل أن لا تكون فاجعتنا في العراق الجديد، كفاجعة تلاميذ فوكو ومريديه والعالم، في إيران الخمينية الديكتاتورية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |