نظام خاص لمراقبة الفاعلين السياسيين

 

 

عبد الرحيم الوالي

 abderrahimelouali@gmail.com

في كثير من المحطات الانتخابية المغربية بكى رؤساء جماعات ومقاطعات، وبرلمانيون، وحتى وزراء. وحصلت مشاهد مماثلة داخل مؤتمرات بعض الأحزاب والنقابات. وكان السبب الوحيد، والأوحد، هوأن هؤلاء إما خسروا مقعدا برلمانياً، ورئاسة جماعة ومقاطعة، ومنصباً وزارياً، وموقعاً متقدماً على رأس حزب ونقابة.

لا يهمنا هنا أن نضع قائمة بأسماء هؤلاء البكائين، بقدر ما يهمنا أن نقارن بكاءهم بابتسامات الوداع التي تنطبع على وجوه المسؤولين، في المجتمعات الديموقراطية، بعد أن يكونوا قد أنهوا مهامهم؛ والمرشحين بعد أن يكونوا قد خسروا الانتخابات.

الذين يخسرون الانتخابات في البلدان الديموقراطية يعلنون هزيمتهم بوجوه طافحة بالبسمة لأنهم بذلوا ما في وسعهم لإقناع الناخبين ببرامجهم فلم تكن أغلبية الناخبين في صفهم. ولذلك فهم يتقبلون نتيجة الانتخابات باعتبارها، أولا وأخيرا، نتاجاً للديموقراطية، ويعلنون خسارتهم في الانتخابات مبتسمين. وهؤلاء لم يصرفوا من أموالهم الشخصية ملايين ولا ملايير لشراء الأصوات. ولذلك فهم يشعرون أنه إذا كانت هناك من خسارة فهي خسارة سياسية تدعوإلى مراجعة البرامج، لا خسارة مالية شخصية تجعل المرء يتحول من وزير، وبرلماني، وزعيم، إلى طفل بَكَّاء.

والذين يغادرون مناصبهم السياسية والنقابية في البلدان الديموقراطية، بعد انتهاء ولايتهم وعقب استقالتهم وإقالتهم، يغادرونها مبتسمين أمام وسائل الإعلام وأمام الناس (مَا لَم يتعلق الأمر بقضية فساد!) لأنهم قد قاموا بواجبهم، وبما يعتقدون أنه كذلك، ويذهبون بعد ذلك راضين على أنفسهم دون أن يكونوا قد استغلوا مناصبهم لتحقيق مكاسب مالية وامتيازات أخرى شخصية. وبعد توديع المناصب يتفرغون للكتابة، ولإدارة أعمالهم الخاصة، وللعمل الخيري، ولهوايتهم المفضلة بكل بساطة. وتظل الابتسامة مطبوعة دائما على وجوههم.  وحتى ميخائيل غورباتشوف، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، غادر الكرملين مبتسماً، وقال للصحافيين: "لن أقول لكم وداعاً ولكن إلى اللقاء"، وظهر بعد ذلك في عدة برامج تلفزية وابتسامته المعهودة ترصع وجهه، ولم يبك أبدا لأن الدولة التي كان على رأسها قد انهارت.

أما الذين يتباكون عندنا على رئاسة مجالس المدن، والجماعات والمقاطعات، والمقاعد البرلمانية، والمناصب الحكومية، والمواقع الحزبية والنقابية، فهم أناس خسروا أموالهم في الانتخابات وفي التقرب من مراكز القرار، وفي كليهما. ودخولهم إلى المقاطعة، ومجلس المدينة، والبرلمان، والحكومة، ليس من باب خدمة الصالح العام. ولا نظن أن أحداً من هؤلاء يمكن أن يزعم أن ما يُبكيه هوحرصُه على خدمة البلاد والعباد. وحتى إذا ما ادعى ذلك فلن يجد، بالتأكيد، من يصدقه. فكل المغاربة يعرفون أن الحقل السياسي لم يعد مجالا للنضال من أجل مبادئ وأفكار كما كان بالأمس. وقائمة المفسدين الذين تم ضبطهم لم تستثن ليبرالياً، ولا اشتراكياً، ولا إسلامياً.

وفوق كل ذلك فهؤلاء البكاؤون لا يرون فكرة الديموقراطية من حيث هي مرتبطة بتداول السلطة، ولا يتمثلونها إلا من حيث هي فرصة سانحة للوصول إلى المال، والسلطة، والامتيازات. ولذلك فهم يريدون أن يتربعوا على عرش مناصبهم إلى الأبد ويتشبثون بها كما يتشبث رضيع بثدي أمه، ويصعب عليهم الفطام.

يقول المثل المغربي الدارج بأن "الفْلُوسْ طَرْفْ من الكَبْدَة"، أي أن المال يوشك أن يتساوى في محبته مع البنين. وعليه، فالتفسير الوحيد لبكاء أصحابنا هؤلاء ـ وحتى لنوبات الإغماء والوعكات الصحية التي أصيب بها بعضهم ـ هوفقدانهم جزءً من أموالهم وامتيازاتهم الأخرى التي لا تحصى، أي جزء من أكبادهم إذا ما سايرنا منطق المثل المغربي الذي تقدم ذكره.

ولربما يشكل هذا النوع من البكاء، الذي هوبالمناسبة منتوج مغربي قح وأصيل، مادة صالحة للباحثين في علم النفس. ذلك أنه صنف جديد تماماً من البكاء، لا يتعلق بأطفال حُرموا من لُعَبهم، ولا بعاشق يشكولواعج البعد عن محبوبة القلب، ولا بأرملة فقدت بعلها. بل هي مشاهد تنهمر فيها الدموع بسخاء على خدود رجال كانوا ـ قبل فقدان مناصبهم وقبل خسارتهم في الانتخابات ـ يتظاهرون بالصرامة والمسؤولية، ويتباهون برجولتهم، وجُلُّهم ـ حتى لا نقول كلهم! ـ متعجرفون. لكنهم ينهارون فجأة لينتحبوا مثل الأطفال.

لذا، فوزارة الداخلية لم تعد في حاجة إلى أجهزة إلكترونية متطورة للتصنت على المكالمات الهاتفية للمرشحين، ولا إلى مراقبة مالية بعدية لاكتشاف مختلسي المال العام وقناصة الامتيازات. بل أصبح يكفي رصد عيون المرشحين، في كل أطوار الانتخابات، ورصد عيون كل رؤساء المجالس المنتخبة، والبرلمانيين، والوزراء وباقي المسؤولين الذين آن أوان مغادرتهم لمناصبهم. فكل مَنْ بكى بعد سقوطه في الانتخابات يكون مستعملاً للمال في شراء الأصوات. وكل مَنْ بكى عقب فقدانه وزارة ومنصبا آخر، سواء بعد انتهاء ولايته وعقب تعديل حكومي، يكون من مختلسي المال العام وقناصة الامتيازات. وما على الدولة إلا أن تخصص ميزانية للبحث العلمي من أجل اختراع عدسات اصطناعية تحتفظ بأثر الدموع ليتم زرعها في عيون المرشحين قبل إعلان نتائج الانتخابات، وفي عيون الوزراء قبل إقالتهم، وقبل انتهاء كل ولاية حكومية، وقبل كل تعديل حكومي، وقبل كل مؤتمر وطني لكل نقابة وحزب. وبعد ذلك تُستَخْرَج هذه العدسات وترسل إلى المختبرات المختصة لتكشف عن كل أولئك الذين ذرفوا الدمع من مآقيهم حسرة وأسفا على فقدان محبوبيهم، أي مناصبهم.

 ومن الحب ما قتل!

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com