وجهة نظر قومية في ثورة 23 يوليو

 

حبيب عيسى

altaleaa@googlegroups.com

منذ أن ورث المستعمرون الأوربيون الوطن العربي عن الاستعمار العثماني، وقاموا باقتسام أرض هذا الوطن فيما بينهم، وأقاموا عليه دولاً اصطنعوا لها الحدود والحكام .. منذ ذلك الوقت رفع المناضلون العرب من أجل الحرية شعار الوحدة العربية كهدف لمسيرتهم .. أولئك المناضلون الذين يرفضون أن يخدعوا انفسهم أو يخادعوا الآخرين فيزعمون التحرر وهم سجناء الحدود التي أرساها حولهم المستعمرون .

فالمناضلون لا يتعاملون عادة مع الزيف كأصدقاء .. وهم في وطننا العربي يعرفون أن اجلاء الغاصبين عن رقعة من أرض الوطن العربي خطوة أولى، لا أكثر، لتصفية تركتهم .. والمناضلون يعرفون انهم لن يذوقوا طعم الحرية فعلاً الى أن تمحى بصمات الغاصبين في أرض الوطن .. ومن أبرز تلك البصمات وأكثرها خطراً تلك الحدود التي تشوه الخريطة العربية وتمزق أمة واحدة الى شعوب متعددة، وتجزيء الوطن الواحد الى دول عديدة .

لقد تبين لبعض الذين ألهتهم فرحة طرد المستعمرين من أقاليمهم وتصوروا وقتها انهم كسبوا معركة التحرير يوم ان كسبوا معركة الجلاء.. لقد تبين لهؤلاء أن أحداً في الوطن العربي لا يستطيع أن يزعم التحرر طالما استمرت التجزئة .. فالاستعمار من خلال حمايته للحدود المصطنعة واستقلال كل دولة عربية بشؤونها الداخلية يحشد قواه .. ويعدها للانقضاض .. خفية او علنا على المناضلين العرب من أجل الحرية فور انتصارهم في معارك الجلاء ..

والمناضلون العرب يعيشون الان درساً واضحاً يلقنه التاريخ الحي للذين لم يدركوا بعد تحرر الأقاليم من الاستعمار العسكري ليس إلا خطوة أولية على طريق تحقيق الحرية .. التي لا يمكن أن تتحقق الا في دولة الوحدة .

والمتتبع للمنحى الذي سارت عليه الثورة العربية وللقوى الفاعلة فيها يقف أمام قوتين اساسيتين .. ان لم نقل منفردتين رفعتا راية الوحدة العربية وقدمتا من اجلها الشهداء والضحايا في وجه الاقليمية التي كانت تضرب جذورها في الأرض العربية :

·        القوة الأولى : ظهرت في الاربعينات من هذا القرن .. وقد تمثلت في حزب البعث العربي الاشتراكي .. وهذه القوة كانت أول قوة جماهيرية حزبية منظمة في الوطن العربي ترفع شعار الوحدة كهدف وغاية تسعى وتسخر من أجله كل امكانية كوادرها المنظمة في وقت سادت الاقليمية فيه وطغت على كل ما حولها متمثلة بالأفكار الاقليمية المختلفة الألوان والمنطلقات، وبالموروثات العشائرية القبلية .. التي تتمتع بدعم غير محدود من القوى الطامعة في وطننا .

·        القوة الثانية : - والتي هي موضوع بحثنا الآن – تمثلت في حركة الضباط الشباب من عرب مصر تلك الحركة التي تمكنت من استلام السلطة في مصر عام 1952، ووضعتها الأحداث وجهاً لوجه أمام الحقيقة القائلة .. ان الحرية بدون الوحدة سراب .. وان التقدم بغير الوحدة محفوف بالمخاطر في كل لحظة .. وان البناء دون الوحدة .. مهدد بالانهيار والهجوم عليه من قوى الاعداء القريبة والمرابطة هنا .. وهناك .. من الأرض العربية المجاورة .

***

منذ أن قامت ثورة عرب مصر في 23 تموز عام 1952 وحتى الآن .. ووجهات النظر المختلفة والمتناقضة في فهمها للثورة لا تنقطع .. ويمكن حصر مواقف الجماهير العربية من تلك الثورة في ثلاثة اتجاهات رئيسية :

·        الاتجاه الأول : ويتمثل في أولئك الذين اعتبروا ثورة القاهرة مسؤولة عن تحقيق أهداف الجماهير العربية في التحرر والوحدة .. وهم بذلك أعفوا أنفسهم .. وأعفوا بقية الجماهير العربية من مسؤولية النضال .. وتصوروا انهم يحددون مكانتهم الجماهيرية بادعائهم انهم مقربين من تلك الثورة .. وما عليهم إلا الدفاع عنها .. وتعظيمها والتصفيق لها فكانوا عبئاً على الثورة بدلاً من أن يكونوا سنداً جماهيرياً لها .. وحملوها انقساماتهم وشرذماتهم وخلافاتهم الشخصية .. فأرهقوا الثورة .. وحطموا قلب قائدها .. !

·        الاتجاه الثاني : ويتمثل في أولئك الذين وقفوا من هذه الأرض ومن قائدها موقف العداء المطلق المتجني المتهم والمشكك .. وهؤلاء لم يدخروا وسعاً في التهجم على القاهرة .. وعلى ثورتها – بمناسبة .. وبغير مناسبة – واستخدموا لذلك كل الاساليب التي وفرتها لهم عصور التخلف والانحطاط من أول الطائفية والعشائرية والقبلية إلى آخر الاقليمية العصرية بالاضافة الى الاسلحة المتعددة التي كانت قوى الاستعمار والامبريالية على استعداد تام لتقديمها لهم حتى دون ان يكلفوا أنفسهم مشقة الطلب .. فالمحتلون رأوا في ثورة عبد الناصر خطراً يتهدد مصالحهم وسياستهم في المنطقة، وهم لذلك لا بد ان يشاركوا في عملية قتل الثورة، وإذا لم يستطيعوا فباحتواءها، واذا فشلوا، فبالعدوان المسلح المكشوف عليها .. ولعل الوقائع تبين انهم استخدموا كل هذه الاسلحة ضد ثورة العرب المصريين .

·        الاتجاه الثالث : ويتمثل في اولئك الذين رأوا في ثورة عرب مصر أملاً مشرقاً بعد نكبة عام 1948 وهؤلاء ازدادت آمالهم في تلك الثورة عندما كان كل يوم جديد من عمرها يوضح أكثر فأكثر اصالتها والتزامها بالسير على الخط القومي العربي الاشتراكي والتقدمي، وكانوا ينظرون اليها نظرة خوف .. والاشفاق عليها مما كانت تتحمله من اعدائها واصدقائها على حد سواء .

ويعتبر هؤلاء أن الحفاظ على ثورة عرب مصر ومساعدتها لا يكون بالتصفيق لها وتعظيمها وحسب، وانما يكون وبالدرجة الأولى ببناء الثورة العربية في كل قرية عربية وفي كل مدينة للقضاء على بصمات المستعمرين وقواتهم المستورة وغير المستورة .

وكان هؤلاء وبكامل وعيهم يعرفون أن اعداء الثورة اقوياء وانها بإمكانيات مصر الاقليمية لن تصمد أمامهم فهي بحاجة لكل امكانيات الأمة العربية من المحيط الى الخليج حتى تستطيع أن تبني وتتقدم وتحرر .. ولعل الدرس الذي تعيشه امتنا اليوم قد اثبت لكل من يسمع ويرى أن التجزئة تساوي الفشل والهزيمة والتخلف والاستعباد .  

***

لكن مهما اختلفت وجهات النظر، وتعددت الآراء .. فإن الحقيقة التي يتفق عليها الجميع تقريباً هي أن ثورة عبد الناصر تعتبر حدثاً تاريخياً هاماً في الواقع العربي لا يمكن تجاهله .. فقد شاركت تلك الثورة منذ قيامها وحتى غياب قائدها في صنع معظم الأحداث التي وقعت على الأرض العربية .. ولعل التاريخ سيذكر يوماً انه منذ عام 1952 لم يحدث على الأرض العربية حدث هام الا وساهمت في صنعه تلك الثورة .. لم يحدث نصر الا وكان لتلك الثورة نصيبا منه، ولم تحدث هزيمة الا وكان لتلك الثورة نصيب فيها ايضا .

ومهما اختلفت الآراء في ثورة تموز فستبقى باعتراف الجميع ايضاً أول ثورة في الوطن العربي قامت بهدم أصلف عروش الخيانة والعمالة على أرضه، وحاربت الاقطاع وشاركت ببناء أول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث، وكسرت احتكار السلاح، وبنت علاقات صداقة متينة مع معسكر الاشتراكية والتقدم في العالم وساهمت في كل معارك التحرير العربية، واصدرت أول قانون اشتراكي في الوطن العربي .. وبنت مئات المصانع .

لكن ليس كل هذا .. هو موضوع حديثنا الآن .. فهذا الحديث سيحاول الاقتراب بقدر ما يستطيع، وبقدر ما تسمح به الظروف .. من الفكر القومي والسلوك القومي، لثورة عرب مصر ..

***

منذ ان قامت ثورة تموز وهي تحتل المكان الأول في النقاش الجاري باستمرار بين فصائل الشباب العربي على طول الأرض العربية وعرضها حول الطريق نحو تحقيق دولة الوحدة العربية التقدمية .. حتى أصبح كل حديث عن الوحدة العربية لا يأخذ بعين الاعتبار تلك الثورة ومقدرتها على المشاركة في بناء دولة الوحدة .. لا يساوي اكثر من الصفر ! ..

فقد ولدت ثورة 23 تموز في جو عربي بالغ التعقيد والصعوبة يمكن تلخيصه بالنقاط التالية :

·        كانت بريطانيا قد نفذت وعدها الذي أعطاه بلفور وزير خارجيتها للمنظمة الصهيونية وأقيمت على جزء من فلسطين العربية دولة أسماها العالم – اسرائيل – واعترفت بها الأمم المتحدة بأغلب أعضائها الكبار والصغار .

·        قوات الاحتلال الأجنبي كانت ما تزال موجودة وبشكل فعلي على الأرض العربية في المغرب والجنوب والخليج بالاضافة الى وجود 80 الف عسكري انكليزي على ضفة قناة السويس بالذات مع وجود قواعد اجنبية في ليبيا والعراق والاردن والسعودية ومناطق اخرى .

·        المناطق العربية التي غادرتها قوات المستعمرين واستقلت – ظاهرياً - .. كانت محكومة من قبل حكومات هزيلة لا تقوى على مجابهة الاجنبي والوقوف ضد اطماعه الاقتصادية والسياسية في المنطقة .

·        معاهدة سايكس بيكو الموقعة في اوائل هذا القرن كانت قد تأكدت وتأصلت جذورها ... فالحدود بين المقاطعات العربية اخذت شكل حدود دولية معترف بها عالمياً يقف عليها رجال الأمن والجمارك .. وترفع فوقها  أعلام الدول الاقليمية .. بالاضافة الى أن الحركات الاقليمية كانت قد ازدادت قوة واتخذت لنفسها – ايديولوجيات – وعقائد تبرر بها التجزئة العربية، وتدعو علناً لأفكارها الاقليمية .. ومن هذه الحركات ما كان يدعو الى تجزئة الأرض العربية مثل الدعوة الفينيقية في سورية الكبرى، والفرعونية في مصر والبربرية والمغربية في المغرب .. وحركات أخرى كانت تتجاوز حدود الوطن العربي وتدعو إلى العالمية بدون الأخذ بعين الاعتبار وجود الأمة العربية والشعب العربي وأبرز هذه الحركات كانت الدعوة الاسلامية والدعوة الأممية .

كل هذه الأمور جعلت من الاقليمية واقعاً عربياً ودولياً وأصبحت بذلك التجزئة العربية تحمى بالقانون والشرعية .. واصبح اختراق هذه التجزئة أو العمل ضدها هو عمل خارج عن القانون يعاقب عليه مرتكبه بأقصى العقوبات ويتحمل تهمة خيانة الدولة التي يقيم على أرضها ..

·        مقابل كل هذا الواقع الأليم والمتخلف كانت الجماهير العربية تقف أمام هذه الدعوات المخربة والنشيطة وهي لا حول لها ولا قوة ولكنها كانت في الوقت نفسه تعزل هذه الحركات التي لم تستطع أي منها أن تكون جماهيرية ذات شأن على الأرض العربية .. مما أدى إلى ظهور بوادر أصيلة للثورة العربية كانت أصدق تعبير عنها هو ميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي الذي دعا الجماهير العربية للنضال تحت راية – الوحدة والحرية والاشتراكية – في مقابل كل الدعوات الاقليمية .

وكان الحزب يزداد جماهيرية بسرعة مذهلة فجماهيرنا عربية أصيلة بطبيعتها ... ولعل هذه .. كانت الظاهرة الايجابية الوحيدة الموجودة في الأرض العربية قبل ميلاد ثورة عرب مصر .

***

في وسط هذا الجو المشحون ولدت حركة ضباط عرب مصر الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر .. وهي حركة عسكرية كانت منحصرة بين صفوف الضباط العرب المصريين، أي أنه لم تكن لتلك الحركة جذور جماهيرية منظمة، والوثيقة الفكرية الأولى لتلك الحركة كانت متمثلة في كتاب –فلسفة الثورة – لجمال عبد الناصر وقد ظهرت تلك الحركة من خلال هذه الوثيقة حركة مصرية اقليمية تتطلع الى اصلاح الأوضاع الفاسدة داخل حدود مصر، وترى في الوطن العربي مجرد دائرة أولى حول مصر تليها الدائرة الأفريقية، فالدائرة الاسلامية وتظهر تلك الحركة من خلال هذه الوثيقة كحركة لا تحمل أية – ايديولوجية – محددة .. وقد ظهر كل هذا في المبادىء الستة التي اعلنتها الحركة – بعد استيلائها على السلطة في 23 تموز 1952 – والتي تستهدف اعادة صياغة الحياة الاجتماعية والسياسية داخل مصر وطرد قوات الاحتلال .

وبينما بدأت تلك الثورة بالتصدي لبناء مصر اقتصادياً واجتماعيا .. بدأ شعور قادتها بالقومية العربية يتعمق ويتأصل يوما بعد يوم بعد أن تأكد لهم أن ثورتهم لايمكنها أن تمارس دورها في البناء بمعزل عن المعارك الدائرة على الأرض العربية .. فقوى العدوان تنظر الى الوطن العربي نظرة خوف وهي تخشى أي بادرة يعتقد بأنها قد تتجاوز الحدود المصطنعة لذلك فإن تلك القوى ستضرب من قواعدها المنتشرة هنا وهناك من الأرض العربية .. وتبين بعد ذلك لقادة ثورة تموز أن المعركة على الأرض العربية لا يمكن ان تتجزأ فهي معركة ضد الاستغلال والتخلف والجهل والأمية كما هي معركة ضد الطامعين والعملاء والتجزئة .

وبعد ان تمكنت ثورة تموز من طرد الانكليز عام 1954 تبين لها أن قوات الاحتلال والعدوان المنتشرة في الأرض العربية تشكل من الخطر على ثورة مصر نفس ما كانت تشكله قوات الانكليز على ضفة قناة السويس، وقد عبر قائد الثورة جمال عبد الناصر عن ذلك بوضوح عندما قال :

" لقد غير الاستعمار طريقة تسلله الى أرضنا .. وتوارى وراء الرجعية العربية وفي قصورها العالية المشيدة من استغلال الجماهير .. فلا بد لنا لسلامة النضال الشعبي .. أن نقاتل الاستعمار في قصور الرجعية ... وان نقاتل الرجعية في احضان الاستعمار " ..

وفي عام 1956 وبعد ان توضح خط ثورة عرب مصر وكسرت احتكار السلاح وقررت قيادتها السير في تحدي مصالح المستعمرين حتى النهاية بتأميم قناة السويس وبناء السد العالي وتأميم المصالح الأجنبية في مصر وجدت تلك القيادة نفسها انها لا تستطيع أن تحقق ذلك إلا إذا وقفت كل الجماهير العربية معها من المحيط الى الخليج ومرة أخرى وقف جمال عبد الناصر في بداية عام 1956 ليقول :

" نحن نعلن عروبتنا الحقيقية ونعلن تماسكنا مع العرب جميعاً حتى لا يتكرر ما مضى لقد ضاعت قطعة من أرضنا لقد محيت قومية العروبة من فلسطين لأننا خدعنا ولأننا تبعنا الاستعمار واعوان الاستعمار وكانوا يقولون هنا في مصر ما لكم وللعرب، وكانوا يقولون للعرب في البلاد الأخرى ما لكم ولمصر ولكننا بعد ان تنبهنا اننا مع العرب جميعا من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي من اجل الحرية ومن أجل الاستقلال ومن أجل الحق في الحياة .. "

ثم جاءت معركة العدوان الثلاثي التي فرزت القوى في المنطقة العربية .. فإذا العدو أياً كان موقعه في الأرض العربية وتحت كل المسميات هو عدو لكل حركة تحرر عربي .. وكان على المناضلين العرب أن يوحدوا جهودهم في وجه الاخطار العديدة المتربصة بهم فكانت الوحدة .. وكانت الجمهورية العربية المتحدة التي قامت على لقاء قادة ثورة تموز في مصر مع المناضلين في بلاد الشام الذين رفعوا راية الوحدة العربية عاليا وكان على رأسهم حزب البعث العربي الاشتراكي وكانت هذه الخطوة بما حققته من التفاف جماهيري عربي حولها كافية لتعمق المفهوم الانساني للقومية العربية .. ووقف جمال عبد الناصر مرة أخرى ليعبر عن تطور المفهوم القومي لدى قيادة ثورة تموز فقال في عام 1958 :

" ان القومية العربية ليست فقط حركة سياسية، انما هي أيضاً فلسفة اجتماعية .. هي ضرورة استراتيجية وكما هي شعارات لا بد أن تكون ايضاً تخطيطاً اجتماعياً وكما هي حلماً لا بد ان تترجم الى مستوى معيشة لائق لجميع العرب ذلك أنه لا كرامة لجائع، ولا قوة لمريض، ولا طمأنينة لمن لا بيت له ولا مقاومة ولا صمود لمن لا يطمئن الى غده، ولمن لا يشعر أن حوله مجتمعاً يكفله ويرعاه لا يسلبه حقه ولا يستغله .. ومن ثم لا يهدد حريته ... "

وقال أيضاً في موقع آخر :

" ان العرب كلهم يؤمنون بالوحدة العربية وايمان العرب بالقومية سابق للثورة المصرية بكثير، ولقد حاول العرب قبل الثورة المصرية عدة محاولات ولم تكن ثورتنا الا قوة دافعة جديدة لنفس الفكرة .. "

وقال :

" هذه القومية العربية سيرتفع علمها، لم يرفعه جمال عبد الناصر وحده، ولكن سيرفعه الشعب العربي .. "

وأضاف :

" لقد كان الكفاح من أجل الوحدة، هو نفسه الكفاح من أجل الحياة . ولقد كان التلازم بين القوة والوحدة أبرز معالم تاريخ امتنا . فما من مرة تحققت الوحدة، الا وتبعتها القوة .. وليس محض صدفة ان اشاعة الفرقة واقامة الحدود والحواجز، كانتا أول ما يفعله كل من يريد ان يتمكن في المنطقة ويسيطر عليها .. وكذلك لم يكن محض صدفة أن محاولة الوحدة في المنطقة لم تتوقف منذ اربعة آلاف عام .. ليس طلباً للقوة وحسب بل كما قلت طلباً للحياة .. " وعندما بدأت الجمهورية العربية المتحدة بالسير على طريق التحويل الاشتراكي نرى جمال عبد الناصر يربط بين الاشتراكية والتنمية فيقول : " ان الاشتراكية ليست مجرد ان نعدل في توزيع ما نملكه .. وانما الاشتراكية ان يكون لدينا أصلاً ما نملك أن نوزعه، وانتم ترون من الاحصائيات ان الذي نملكه لا يفي، مع ايماني الكامل بضرورة وجود اسس عادلة للتوزيع على كل مستوى فإن زيادة الانتاج هي أقدر الأسس على فتح آفاق الفرص الكريمة أمام العدد الكبير من ابناء شعبنا .. "

***

وبعد ان نجح حفنة من الانفصاليين المدعمين بكل قوى الرجعية والتآمر والاحتلال على الأرض العربية في فصل الوحدة تأكدت المعركة المعقدة التي يتوجب على المناضلين العرب أن يخوضوها .. فالمعركة من أجل الوحدة هي في الحقيقة معركة ضد الرجعية والاستعمار والصهيونية والتخلف .. وقد عبر عبد الناصر عن ذلك بقوله :

" اعداء الوحدة، كما وضح بعد نكستها، من هم .. ؟ هم .. الاستعمار وأعوانه، والرجعية، والعملاء والانتهازية، وهذه العناصر متآزرة متحالفة ومتعاونة وملتقية مع – اسرائيل – على طريق ضرب الوحدة .. " وكانت القوى المعادية للثورة العربية تتوقع من قيادة الثورة المصرية ان تتقوقع على نفسها وتدير ظهرها للأمة العربية ولكن الرؤية التاريخية لقائد هذه الثورة جعلتها تزداد ايمانا بالوحدة، وقد عبرت عن ذلك بشكل عملي عندما انطلقت ثورة عرب اليمن حيث ارسلت الثورة المصرية قواتها المسلحة للدفاع عن هذه الثورة كتعبير عن ايمانها بالوحدة .

وفي عام 1962 بعد ان وضح الصراع ووقفت الرجعية وجهاً لوجه امام الثورة المصرية وجدت تلك الثورة نفسها بحاجة لتنظيم صفوفها فصدر الميثاق كبرنامج للعمل الوطني .. وقد عبر عبد الناصر في هذا الميثاق عن التلاحم بين الوحدة العربية والاشتراكية ولم يدع عبد الناصر ان هذا الميثاق يمكن اعتباره نظرية نهائية للثورة العربية بل قال وبكل وضوح قد نضطر أن نغير هذا الميثاق في عام 1970 وبالنظر لأن الثورة لم تكن قد اعتمدت – ايديولوجية – معينة .. فقد اعتمدت – التجربة والخطأ – في الميثاق كخطوة مرحلية حتى تتاح الفرصة للمفكرين العرب لصياغة نظرية علمية متكاملة للثورة العربية .. ذلك لأن الممارسة العملية للثورة لا يمكن ان تتوقف حتى تنجز النظرية ولكن هذا لا يعني استمرار – التجربة والخطأ – الى فترة غير محدودة فلا بد من نظرية ثورية حتى تتقدم الثورة باضطراد دون خوف .. وحتى تنتصر دون هزائم .. وقد تكون على اساس الميثاق . التنظيم السياسي للثورة الذي هو " الاتحاد الاشتراكي العربي " الذي ينص نظامه الداخلي على أن يكون العمال والفلاحون أكثر من 50 بالمائة .. وفي عام 1963 دعا جمال عبد الناصر الى قيام الحركة العربية الواحدة كرد على الدعوات الاقليمية والانفصالية وكتعبير عن أن الوحدة العربية لا يمكن أن تتحقق الا عن طريق الثورة الجماهيرية المنظمة وأوضح ذلك بقوله :

" أنا لن استطيع بأي حال أن أعمل " الحركة العربية الواحدة " .. فإذا أنا حاولت أن اعمل " الحركة العربية الواحدة " معنى هذا ان هذه الحركة ستولد ميتة، لازم أن تكون الحركة العربية الواحدة نتيجة العمل النضالي، والكفاح في كل بلد عربي .. "

وبعد ذلك فرضت المعارك نفسها على الثورة المصرية وحوصرت من كل القوى الرجعية والاستعمارية حتى تتراجع عن أهدافها الوحدوية وقد وعى عبد الناصر هذه الحقيقة، وتأكد له ان كل ما يريده الاعداء من مصر هو الانحسار داخل حدودها ولكن كان كل يوم يمر يزيد من تعمق المفهوم القومي في ذهن قادة الثورة ومرة اخرى يقول جمال عبد الناصر في مجلس الأمة عام 1964 :

" يجب أن نعلم ان الوحدة هي عمل كبير جداً يجب ان يواجه تحديات كبيرة جداً لأنه لا يمكن للاستعمار أن يقبل الوحدة ولا يمكن للصهيونية أن تقبل بالوحدة، ولا يمكن للرجعية ولا الاقطاع ولا الانتهازية أن تقبل بالوحدة .. لأن الوحدة أصبح محتواها محتوى قومي، وفي نفس الوقت محتوى اجتماعي .. "

وعندما اضطرت معارك النضال العربي جمال عبد الناصر للدعوة الى مؤتمرات القمة جاءت الرجعية الى هذه المؤتمرات لا لتوحد جهودها ضد الصهيونية مع قوى الثورة العربية وإنما جاءت لتتآمر على القوى الثورية العربية وقد عبر عبد الناصر عن ذلك بقوله عام 1966 :

" ... ظهر أن الرجعية العربية تحاول استغلال مؤتمرات القمة التي تنص على وحدة العمل من أجل فلسطين وتقيم وحدة مع القوى الرجعية ضد القوى الثورية وضد الجمهورية العربية المتحدة .. "

وعندما طرح جمال عبد الناصر شعار " الحرية والاشتراكية والوحدة " كشعار للثورة العربية لم يطرح ذلك بشكل ميكانيكي وقد وضح ذلك بقوله: "في اول كلامي قلت أن الحرية السياسية والحرية الاجتماعية ضرورية للوحدة .. ليس معنى هذا أنه يتعين علينا الانتظار حتى يتحقق ذلك كله تماماً في كل أرض عربية لكي تبدأ الحديث أو العمل من أجل الوحدة .. أهداف النضال متداخلة .. اهداف النضال تعطي لبعضها البعض وتأخذ من بعضها وتعزز أحدها الأخرى وتتعزز بها .. "

***

وعندما ضاقت القوى المعادية ذرعاً بالثورة العربية وفشلت أساليب الاحتواء والعزل والتآمر الخفي ضدها شنت الصهيونية عدوانها السافر على الأمة العربية عام 1967 – مدعمة بالامبريالية العالمية – كما تصور الامبرياليون ان ثورة مصر ستعزل نفسها عن الأمة العربية وستطلب السلامة لنفسها فقال رئيس تحرير " النيويورك تايمز " الامريكية وهو يوجه سؤاله الى جمال عبد الناصر : هل هناك ازدياد في الشعور بالوطنية المصرية ؟ فكان رد جمال عبد الناصر " " قبل سنة 1967 كان الشعور الأكثر ظهوراً هو الشعور بالقومية العربية، وبعد سنة 1967 ظهر ايضا الشعور بالوطنية المصرية الى جانب الشعور بالقومية العربية، واظنك تعرف انهم عرضوا علينا صيغا تنص على الانسحاب من سيناء وحدها، ولم يوافق أحد على ذلك . وهذا هو الشعور بالقومية العربية والحقيقة انه ليس هناك تناقض بين الشعور بالوطنية المصرية والقومية العربية .. "

***

وفي آخر أيام حياته وقف جمال عبد الناصر ليقول القدس قبل سيناء والجولان قبل سيناء والضفة الغربية قبل سيناء .. وقال في كلماته الأخيرة:

"ان الشعب المصري تحت اعلام هذه الثورة رفض السلامة عن طريق الانعزال، ورفض الانانية برفض كل مغرياتها الوقتية، لقد جعل قضية أمته قضيته، وعاش النضال من أجلها بحياته، وكان في ذلك الوقت يعبر عن وعيه بمسار التاريخ، لم يساوره فيه شك أو تردد، واثبت ابناء هذا الشعب دائما انهم الامناء بالكلمة والامناء بالفعل .. لم تكن الحرية والاشتراكية والوحدة .. بالنسبة له كلمات، وانما كانت بالنسبة له اعمالا، بل كانت كلها بالنسبة له قتالا .. "

.. قال كلماته هذه ومضى ... !!

***

وفي الختام .. لابد أن نقول أن ثورة عرب مصر .. كانت حدثاً تاريخياً هاماً على طريق الثورة العربية الشاملة ... وان كانت تلك الثورة لم تتمكن من بلوغ اهداف الأمة العربية .. وتحقيق دولة الوحدة العربية فإن ذلك يعود لسببين اساسيين :

·        الأول هو شراسة القوى المعادية وتكالبها على الاستمرار في نهب الثروات العربية الذي يتحقق في ظل التجزئة العربية والضعف العربي .

·        والثاني: هو ان حركة الثورة المصرية .. والثورة العربية بصفة عامة تعرضت لعملية غزو وتشويه من الداخل .. بتشتيتها، وتمييع أهدافها .. وتهجين منطلقاتها الفكرية .. وبالتالي بمحاولات مستمرة للقضاء على وحدتها .

ومهما كان الأمر .. فإن ثورة جمال عبد الناصر وثورة البعث العربي الاشتراكي .. ستبقيان على المدى الطويل .. ومن المنظور التاريخي أول حركتين تاريخيتين تصدتا بالكلمة والمدفع للقضاء على بصمات المستعمرين على أرض وطننا المتمثلة في الحدود الاقليمية .. وان كانت تلك الثورتان لم تبلغا هدفهما فلا بد أن نذكر ان التحديات كانت كثيرة ومتشعبة .. وان كانت قد ظهرت في حركتهما بعض الثغرات والاخطاء .. وان كان قد حصل بعض القصور .. فإنه لابد ان يقال أيضاً انهما تمكنتا على الأقل من ابقاء راية النضال العربي مرفوعة ... وتبقى مسؤولية الاجيال العربية المعاصرة الآن ليست في تعقب السلبيات .. والخوض في مجاهل الجدال العقيم .. وانما تنحصر المسؤولية التاريخية الآن بدراسة تجربة حركة القومية العربية عبر الربع قرن الأخير، واستخلاص الدروس اللازمة لتأصيل هذه الحركة ..و منهجة مبادئها .. وتأصيل خطها الفكري بشكل خاص .. وتنظيمها ضمن معايير ثورية متميزة أصيلة .

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com