كوميديا التناقضات!!

 

أ.د. سّيار الجميل

 akhbaarorg@googlemail.com

تجتاح مجتمعاتنا، للأسف الشديد، فوضى التناقضات، ورسوخ المزدوجات، وتعاظم الثنائيات، وخطورة التعارضات، وكلها لا مفكّر فيها إلا ما ندر، إذ تجدها حالة طبيعية! يحاول التوفيقيون أن يقنعونا بأن الجدوى تكمن بالأخذ من القديم ومن الجديد .. إنهم يرفضون حياة المعاصرة والحداثة، ولكنهم لا يستطيعون أبدا البقاء دقيقة واحدة بلا اتصالات حديثة، وبلا تكنولوجية حديثة، وبلا وسائل نقل متطورة .. إنهم ما زالوا يلوكون نصوصا وأشعارا قديمة ويمارسون قيما متوارثة سيئة، ولكنهم يرفضون ظواهر حديثة وفلسفات حديثة .. إنهم يفكرون خارج العصر، ولكنهم يدركون انعدام قدرتهم على البقاء من دون منتجات هذا العصر بأدويته واختراعاته وعلومه واتصالاته وحتى أغذيته .. إنهم يتبجحون بما يؤمنون به، ولكن ليس بمقدورهم البقاء ساعة واحدة وراء هذا العصر .. إنهم يمارسون حتى اليوم لعبة الأضداد بكل غباء! ولا يمكن أن تجد الناس، إلا وقد تفشت عندهم سكيزوفرينيا مخيفة من الثنائيات المتعارضة، كما بدت واضحة جلية في تضاعيف القرن العشرين.

نماذج لا حد لها!

 كنت قد سجلت تفاصيل هذه الرؤية بنماذجها في كتاب أصدرته عام 1997 وعنوانه : " التحولات العربية : إشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل "، معالجا فيه ثنائيات التفكير، وقلت تحت عنوان متاهة التناقضات، بازدواجية التفكير والذات واللاوعي عند الجميع، والنماذج التي أوردتها كلها حقيقية كنت قد شهدتها بنفسي، وباستطاعة أي إنسان أن يراقبها في مجتمعاتنا : فمن معجب بتراثه وتقاليده وطقوسه، ولكنه لا ينفك عن متابعة أفلام هوليوود! ومن متعصب لقضاياه الوطنية ضد أمريكا، ولكنه لا يدخن إلا تبوغ فرجينيا الأمريكية! ومن شيخ بدوي لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه يرش عباءته بقنينة عطور فرنسية! ومن يثرثر بالنضال والامبريالية وهو يستخدم سيارته الأمريكية الفارهة! وشاعر أو مفكر يتبارى نهارا جهارا بقيمه الدينية وفي علب الليل تجده يحتسي الخمور الاسكتلندية! ورجل دين لا يشيع مواعظه ودعواته وخطبه ضد العولمة وكل معاني الحداثة الغربية إلا من خلال الكاسيتات وستالايتات الأقمار الصناعية ولا يتنقل من بلد إلى آخر إلا في درجة رجال الأعمال على متن البوينغ الأمريكية! ومحارب صنديد يعبر خطوط النار نشيده (الله اكبر) وهو يقاتل ويجاهد على دبابة سوفييتية الصنع! وشاب ارعن لا يحترم الزمن أبدا وفي معصمه ساعة رولكس سويسرية! وطفيلي محتكر ثري في السوق ولكنه أمي لا يقرأ ولا يكتب وقد زيّن قصره بالكتب التراثية المذهبة! وراديكالي يهاجم الرأسمالية والغرب وتجده مهاجر أو لاجئ في بريطانيا! وطبيب مختص ومعروف، ولكنه لم يزل يؤمن بالخرافات والأوهام، ورجل دين ينشر نفسه على الفضائيات وهو يحّرم في بيته جهاز التلفزيون! وأستاذ جامعي يفترض فيه أن له فلسفته ولكنه ما زال يؤمن بالسحر والكرامات! وفضائيات تعرض مشاهد وقحة وهي تفتتح برامجها بالذكر الحكيم! وأشباه مثقفين يقطنون في الغرب، ولكنهم ما زالوا يؤمنون بالطائفية والمذهبية ويمارسون العادات السيئة المتوارثة!

 أكواخ وصرائف وأطفال حفاة وحمير وأوساخ ومياه آسنة قذرة .. في قلب شوارع عاصمة عربية كبيرة تتنافر فيها الأزياء (الأوربية والعربية ) والألوان المبهرجة والأبنية الحديثة والسيارات الفارهة الحديثة مع أصوات مزاميرها المتداخلة، ويزداد التنافر حدة وغباء وجنونية عندما يستخدم متخلف جاهل لا يعرف قيم الحداثة آخر مبتكرات التكنولوجية اليابانية .. مراقص وبيوت فيها كل المجون وخلوات الدعارة وبجانبها مساجد تقام فيه الصلوات! بلاد تجد في المواريث القديمة ضالتها حتى النخاع، ولكن شوارعها، تعج بالعناوين والأسماء الأمريكية! أناس يقومون الليل في شهر رمضان وهم يصلون التراويح ويتهجدون قياما ويتبتلون قعودا .. وأناس يسهرون الليالي في الخيم الرمضانية مع الرقص والغناء ولعب الورق والنفخ في الشيشة حتى انبلاج الصباح .. وعندما يرجع هؤلاء وأولئك إلى بيوتهم يغطون في نوم عميق طوال ساعات النهار كونهم من الصائمين!

قبل أعوام كنت ازور عاصمة عربية تضج بالحياة فوجدت منظرا لم أنسه أبدا وأنا أرى مشهدا غريبا : رجل مسن يركب بثيابه المتسخة حمارا قصيرا اسودا يمشي به وقد افرد صحيفة يومية بين يديه يقرأ فيها بكل نهم، والحمار كما يبدو يعرف طريقه! الخ

 إن شواهد سوسيولوجية تعكس تناقضات صارخة وتشوهات في التفكير واللاوعي في حياتنا المعاصرة، وقد ازدادت اليوم عند الجيل الجديد بشكل لا يمكن تخيله أو تصديقه إذ يبدو انه ولد وترعرع في خضم هذه الثنائيات التي لا يفكّر أبدا في مخاطرها بعد أن ألفها وشّب عليها، فكثيرا ما يثير السخرية والقرف في آن واحد أن يطل علينا مطرب أو مطربة يغني لنا كل منهما بالعربية أغنية عن العشق والتأوهات وقد صوراها بالفيديو كليب في أحراش وبحيرات أوروبا! لقد وصل التناقض أعلى مداه هنا وكأن العربي هنا الملقي والمتلقي قد فقدا كل أصالتهما .. فهل سمعنا يوما مغنيا أو مغنية من الغرب يغنيان البوب أو يرقصان الروك اندرول في البوادي والمضارب العربية ؟ ولم يقتصر أمر شوزوفرينية التناقضات على الفنانين والفنانات فقط، بل انه يطال كل أبناء مجتمعاتنا في هذا الوجود ..

عرب ماك

دعوني أختتم هذه النماذج الحقيقية بما شهدته قبل أشهر في واحد من مراكز التسوق الحديثة العربية لا الغربية من منظر يبدو طبيعيا للناس، ولكنه مفجع لمستقبل أجيالنا، وخصوصا أولئك الذين يؤمنون بالتوفيقية التلفيقية : جلس رجل مسن قريبا مني وكانت سيدة محجبة ومنقبة قد أخذت موقعها إلى جانبه .. كان شكل الرجل ورموزه يعلنان عن هويته، بدا مكفهر الوجه لا يعرف محياه البسمة، طويل اللحية حليق الشارب يعتمر كوفية على رأسه وثوبه قصير والمكان غير مزدحم بالناس .. كل شيء جديد وأمريكي في تلك الصالة المدّورة وآخر ما وصلت إليه أساليب العصر وتحيط دائريا بها المطاعم من كل الجوانب .. سألت المرأة زوجها : ماذا نأكل ؟ قال لها بعد أن بدأ يعدّد لها : هناك كما ترين : كنتاكي .. بيتزا هوت .. برغر كنك .. ماكدونالد .. تشيللي .. فرايد تشكن .. صب وي .. الخ أجابته : دعنا نأكل اليوم كنتاكي فقد شبعنا من ماكدونالد .. ولما شبعا من طعامهما الأمريكي والكوكا كولا الامريكي تمادت المرأة بعد أن ابتلعت وجبتها من تحت منقبها وأصرت على أن يجلب لها مرطبات من باسكن روبنز كي تتحلى ‍! أجابها : دعيني اذهب للصلاة إذ كان آذان العشاء يعلن في ردهات ذلك المول الأمريكي .. وفعلا حضر باسكنز روبنز بعد صلاة العشاء! كنت أراقب هذا المشهد الملئ بالتناقض المضحك المفجع بكل حزن وأسى.

 لقد ازدادت حدة التناقضات اليوم مقارنة بما كانت عليه سلفا .. وقد تكون غائبة عن الوعي العربي أو الذهنية المركبة .. أو قد يحس بها من لا يؤمن بهذه التمثيلية الهزلية التي أسموها بالتوفيقية التي يفضحها واقع مزيف، أو منظر مشوه، أو ازدواج شخصية، أو تعامل التقية بوجهين، أو خطاب منشطر، أو لغة هجينة، أو عادات سقيمة، أو تصرفات مبهمة، أو قرارات متناقضة، أو انتماء مركب، أو هوية مبعثرة، أو أساليب حياة مختلطة أو أزياء متنافرة أو ثقافة هزيلة، أو سلوكيات غير متجانسة .. الخ

التوفيقية : المعزوفات المضطربة

إنها ظاهرة استشرت على التفكير باعتبارها طريقة حسنة، هي تجمع بين ما أسموه بـ :"القديم والجديد" أو "التراث والمعاصرة" و "الأصولية و التغريب"، و"الأصالة والتجديد" و"الموروث والتحديث" .. الخ وكلها أساليب مزيفة للحياة التي غدت مضطربة جراء هذا الحجم الهائل من التناقضات التي يعيش من وجودها كل المفلسين وكارهي هذا العصر .. ولقد كان للدولة والمجتمع دورهما السالبين في تكوين خطايا لا ترحم وخصوصا في المدارس والجامعات أو في الاعلام والسياسة وكل المؤسسات فضلا عن المواعظ والخطب الرنانة التي لا نفع من ورائها .. فمن المضحك مثلا أن يتكلم شيخ يختص في العلوم الدينية بقضايا العولمة ويحلل ويحرم جملة مسائل معاصرة لا يفقه من جزئياتها شيئا!! ومن سخرية القدر أن يدخل رئيس دولة أنفه في كل صغيرة وكبيرة وهو في أقصى درجات التخلف والغباء!

فمن يوقف تناقضات مجتمعاتنا ؟ من يجعل الإنسان يمتلك وعيه الحضاري بحيث يوقف تراقصه عن التناقضات، من يزحزح تفكير الناس عن التصاقهم بالتلفيقات ؟ من يجعلهم يغادرون مركباتهم الذهنية ؟ متى يتخلصون من مزدوجاتهم المضطربة . متى يعلنون حالة الرفض من اجل التغيير ؟ متى يعملون على خلق مكونات تفكير جديد تنتفي منه كل بقايا ورواسب ماضويات القرن العشرين ؟

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com