أوراق بيروتية (2): العراقيون يتجملون في لبنان

 

د. حامد العطية

 hsatiyyah@hotmail.com

الجمال مفهوم متعدد الجوانب، اجتماعي وفلسفي وفني، تتفاوت معانيه، وتتباين مقاييسه، حتى التناقض حياناً، فمايعده البعض جمالاً فذا قد يستقبحه آخرون، لذا هو مفهوم نسبي، لكنه حاضر في كل المجتمعات، من البدائية حتى المتحضرة، تزخر لغاتها بمصطلحاته، ويعكس تراثها الأدبي والفني أهميته.

الجمال في كل مكان، وحتى في الصحراء القاحلة، وإذا كان البدوي يجد في صحراءه جمالاً، فالعراقي لديه اسباب مضاعفة للتغني بجمال بلاده، التي أفاء الله عليها بنعم لا تعد ولا تحصى، لذا قد يختلف عراقيان حول كل شيء ما عدا صورة الوطن في ذهنيهما، فالعراقي لا يطيق سماع كلمة انتقاد واحدة تقال في حق موطنه، ويحرص على إيجابية صورته، في أعين الآخرين، إلى درجة التعصب الأعمى أحياناً.

أثناء زيارتي لبيروت مؤخراً عادت بي الذاكرة إلى أيام الدراسة فيها، وفي ستينات القرن الماضي بالتحديد، حينما كان حماس العرب وتفاخرهم بأعلى الدرجات، وكما هو معروف فإن من أساليب التفاخر والتجمل عندنا الانتقاص من الآخرين، لذا كثيراً ما كانت القبيلة تتفاخر بالتعالي على غيرها من القبائل وتحقرها، ومن المفجع أننا لا نزال نحمل بعض الطبائع والعادات القبلية، وهي المسيطرة على تفكيرنا والمحركة لسلوكنا، ولو كنا مسلمين ملتزمين بالأوامر الآلهية، لما سخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولكننا قبليين حتى العظم، لذا يسخر ويهزأ بعضنا من البعض.

لسخرية العرب من العرب نمط معين، يكاد أن يكون مكرراً حتى الرتابة المملة، يبدأ أخوك العربي حديثه عن العراقيين بامتداح شجاعتهم، ثم يستدرك بأنهم في حرب ضياع فلسطين في 1948م كانت قواتهم تبرر تقاعسها عن الهجوم على الصهاينة ونجدة الفلسطينيين بترديد "ماكو أوامر"، اي أن الأوامر لم تصدر لها من قيادتها في بغداد، فماذا تقول للفلسطيني الذي ضاع وطنه بسبب وعود لم تحترم وأوامر لم تصدر؟ ثم لا ينقضي وقت طويل حتى يتطرق أحدهم لمحكمة الثورة آبان حكم عبد الكريم قاسم، مشيداً بمهارات رئيسها المهداوي الأدبية والبلاغية،  ومثنياً على مواهبه الكوميدية، وبنفس الوقت منتقصاً من أساليبها القضائية والإجرائية المتناقضة مع مبدأ العدالة وقواعد القضاء، ومستهجناً تهديد المتهمين بالسحل، فلا تجد ما تدافع به عن وطنك سوى التذكير بهوية المهداوي السياسية.

يصبح الدفاع عن جمال الوطن أمام هجمات المستهزئين صعباً عندما تكون أنت ساخطاً على قرار أصدرته حكومتك، وأفضل مثال على ذلك قرار لحكومة البعث في عهد أحمد حسن البكر، قضى بمغادرة جميع العراقيين في لبنان خلال أيام معدودات، وتنفيذاً للأمر سارع الألاف من المصطافين العراقيين لحزم حقابئهم، أما نحن الطلاب فبقينا متحيرين حتى وصل الخبر باستثنائنا من الأمر التعسفي، وتعاطف معنا أخوتنا العرب حتى عرفوا السبب، فقد قيل أن " الأب القائد" استاء من معاملة السلطات اللبنانية لولده الذي كان يعربد في أحد الملاهي أو الحانات الليلية فقرر معاقبة الحكومة اللبنانية بسحب المصطافين! وقبل أن ينسى العرب هذا الموضوع انتشر خبر اختطاف و "صندقة" المعارضين العراقيين ونقلهم إلى بغداد، فكان موضوعاً جديداً للتندر والسخرية، مما تطلب منا تذكير الأخوة المستهزئين بأن هذه الحكومات المتسلطة لا تمثل العراقيين، ولا تعبر بقراراتها عن قيمهم وأعرافهم، بل هي على النقيض من ذلك، والعراقيون براء من هذه الحكومات، ولكن الذئب وعلى الرغم من برائته من دم يعقوب يظل في دائرة الإتهام.

تقول الأغنية العراقية: تفرحون أفرح إلكم، ولكن الأخوة العرب فرحوا لأحزان العراقيين نتيجة المذبحة التي نفذها النظام البعثي للإيرانيين والعراقيين، لأنهم وبسبب اختلال الرؤية وندرة البطولة بينهم تصوروا القاتل بطلاً، وصوروا المجزرة مفخرة، ثم توالت هزائم العراق، في الكويت والحصار والاحتلال، والعرب ما بين شامت وساخط، وكان خذلانهم الأكبر عندما استسلمت قوات محبوبهم الطاغية لقوات الاحتلال الأمريكي، وكعادتهم القوا باللائمة على العراقيين، متناسين بأن الطاغية هو الذي أوهن قوة العراقيين، وساعد بذلك المحتلين على  بلوغ أهدافهم، تقول الأغنية العراقية: لاموني كل الناس شلهم عليه أضحك جذب والنار تشتعل بيه، النار تشتعل بالعراق والعراقيين لكنهم لا يضحكون، سوى قلة، يتجملون في لبنان، ليضحكوا قليلاً، ويبكوا كثيراً.

كنت اظن ان العراقيين في شغل شاغل عن مباهج الدنيا، فإذا كنت قد فجعت بعشرة قتلى، تسعة من الأقارب وصديق واحد، راحوا ضحية الإرهاب المبرمج امريكياً والمنفذ عربياً ومحلياً، فلا بد أن بقية العراقيين مثلي يندبون أحبائهم، وهم لاهون عن زينة الحياة الدنيا، لذا فوجئت بما رواه لي سائق سيارة اجرة في بيروت، عن العراقيين، من الاناث والذكور، الذين يقصدون بيروت هذه الأيام لا للسياحة أو للتبرك بزيارة أرض الجنوبيين الأبطال، وإنما لاجراء عمليات تجميل، لتصغير الأنف حتى يكون شبيهاً بأنف المغنية الفلانية أو لزرع الشعر وغيرها من العمليات التجميلية المعروفة، سألته إن كانت معلوماته دقيقة، فأجابني بأنهم عراقيون، لا ريب في ذلك، وهو يعرف هذه الحقيقة، لأنه يعمل في النهار في عيادة لعمليات التجميل، ويقسم بأن معظم روادها عراقيون.

نسخر من الخليجيين الذين يتهافتون على عيادات جراحي التجميل ونتهمهم بالاسراف والتبذير وقد اتخمتهم عوائد النفط والثروات الهائلة، ولكن كيف يجرأ عراقي في هذه الأيام على التفكير بعملية تجميلية، ومن حوله يتساقط اخوة وأحبة صرعى الإرهاب والإحتلال والمرض والفقر، وهل يزيل مبضع جراح التجميل ذل الاحتلال، الذي يرهق وجوهنا، المشوهة بفعل التفجيرات وسكاكين الذباحين، وهل يستطيع أبرع الجراحين إزالة الغشاوة التي أسدلتها على أبصارنا التعصبات الطائفية والاثنية والقبلية والمناطقية، وهل يعيد أنف مستقيم أوشعيرات فوق الرأس للنفوس صفوها ويمحو الآهات من الحناجر والحسرات من القلوب؟     

هنالك أولويات للجمال، وقبل أن يتجمل العراقيون بتغيير ملامح وجوهم واجسامهم عليهم العمل على تجميل نفوسهم وأفكارهم، والبداية في التخلص من الاحتلال، ومداواة الطائفية بالعودة للاسلام الأصيل، ونبذ العصبية القبلية لأنها وكما وصفها رسول الآنسانية "منتنة"، والتعامل بحزم مع الإرهابيين والمفسدين والمرتشين، آنذاك سيفيض صفاء النفوس على ملامح الوجوه فتصدأ مبضع جراح التجميل.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com