مـــــا هي العلمانية من منظور خصومـــهــا؟؟

 

سهيل أحمد بهجت

sohel_writer72@yahoo.com

تحت هذا العنوان سنبدأ في البحث عن مفهوم كلمة "علمنة" و"علمانية" و"Secularism" حسب المصطلح الإنكليزي المتداول والذي يعني فصل الدين عن السياسة ـ العلمانية الجزئية حسب عبد الوهاب المسيري ـ وتعني لدى البعض الآخر فصل العالم المادي الزمني عن عالم الدين والغيب ـ العلمانية الشاملة حسب المسيري مرة أخرى ـ والحقيقة هي أن العلمانية لا تعني الإلحاد والوقوف ضد الدين، وإن كانت توفر للمواطن الحرية لإظهار قبوله ورفضه للدين، لكن المشكلة في العالم الإسلامي تكمن في أن أنظمة دكتاتورية استبدادية كنظام ناصر وصدام والقذافي ومبارك تعلن علمانيتها وتواجه المعارضين المؤمنين بالدين بشعار العلمانية في خلط واضح بين العلمانية الإيجابية ـ الحيادية ـ وبين المناهج الإلحادية التي واجهت الدين بالعنف، كالشيوعيين والماركسيين في الاتحاد السوفيتي والصين وعبد الناصر وصدام والبعث في العراق.

هذه المواجهة شوهت العلمانية في الوعي الجمعي لهذه المجتمعات وجعلت الكثيرين لا يفرقون ولا يميزون بين العلمانية كطريقة ومنهج للتسامح وتقبل الآخر وبين الموقف العقائدي والفكري في رفض وقبول الدين ودين معين، فالعلمانية ليست ضرورية للتعايش بين الإيمان والإلحاد فحسب بل في تعايش الأديان مع بعضها البعض وكان إدراك أهمية العلمانية خلال الحرب الدينية خلال القرنين 16 و17 أحد أهم أسباب توجه المجتمعات الغربية إلى تبني العلمانية كمنهج لنظام الحياة، وسنرى كيف أن ظواهر الإلحاد والعنصرية القومية جاءت نتيجة تحولات فكرية رافقت نشوء العلمانية ولم تكن نتاجا مباشرا لها، بالتالي فإن العلمانية تقدم أفضل الموجود وهي لا تدعي أنها كاملة كما أن العلمانية هي صنع إنساني بحت وليست نتاجا "شيطانيا" كما يصورها وعاظ السلاطين وسلاطين الوعاظ "الولي الفقيه"، إنها بالأحرى وسيلة لتستمر الحياة السلمية.

نبدأ مناقشة العلمانية من خلال نظرة خصومها إليها، وليكن النموذج الأكثر طرحا هنا هوما كتبه المرحوم عبد الوهاب المسيري في نقد العلمانية وتوابعها التنويرية والحداثية والرأسمالية، فالرجل قام بنقد موسع لمفهوم العلمانية وخلال قراءتنا لنقده نجد أن الرجل اعتبر كل ما هوغربي (ســـــلبيا) والعلمانية هي إحدى هذه السلبيات، ولنبدأ مع أطروحاته بكتاب ((العلمانية تحت المجهر)) والذي ألفه مناصفة مع الدكتور عزيز العظم ـ الصادر عن دار الفكر دمشق ودار الفكر المعاصر بيروت 2000 يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:

وكان معنى المصطلح ـ أي العلمنة ـ في البداية محدود الدلالة ولا يتسم بأي نوع من أنواع الشمول والإبهام، إذ تمت الإشارة إلى "علمنة" ممتلكات الكنيسة وحسب. بمعنى "نقلها إلى سلطات غير دينية"، أي إلى سلطة الدولة والدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة. وفي فرنسا، في القرن الثامن عشر، أصبحت الكلمة تعني (من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية) "المصادرة غير الشرعية لممتلكات الكنيسة". أما من وجهة نظر مجموعة المفكرين الفرنسيين المدافعين عن مثل الإستنارة والعقلانية المادية والمعروفين باسم "الفلاسفة" (فيلسوف Philosophes) (ويشار إليهم أيضا باسم "الموسوعيين")، فإن الكلمة كانت تعني "المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة" ولكن المجال الدلالي للكلمة اتسع، وبدأت الكلمة تتجه نحومزيد من التركيب والإبهام على يد جون هوليوك John Holyooke (1817 ـ 1906 ) أول من صك المصطلح بمعناه الحديث وحوله إلى أحد أهم المصطلحات في الخطاب السياسي والاجتماعي والفلسفي الغربي. وقد حاول هوليوك أن يأتي بتعريف تصور أنه محايد تماما (ليست له علاقة بمصطلحات مثل "ملحد" و"لا أدري"). فعرّف العلمانية بأنها: ((الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان، سواء بالقبول والرفض".." نهاية الاقتباس ـ العلمانية تحت المجهر ص 12 وأنظر أيضا كتابه العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية ج 1 ص 15

لقد حصر المسيري مسألة العلمانية وتطور معناها ومفهومها في مستوى النظر وكأن الموضوع كله متعلق بتطور فكري "نظري" بحت لا علاقة له بالتطور الاجتماعي والسياسي وحتى السايكولوجي الفردي، فالعلمانية ليست نتاجا مدرسيا بحتا وإن كان هذا ينطبق على جزء منها، فالإنسان لا يشك في حقيقة من الحقائق إلا عندما يرى أنها لم تعد عملية وليس في الإمكان الاستفادة منها بأي وجه من الوجوه، وأوروبا لم تشك في نزعتها الدينية إلا عندما وجدت أن الدين أصبح مشكلة بدلا من أن يكون حلا وأن الدين أصبح سببا في انقسام الناس لا عامل وحدة وتناغم، فعدى أن المسيحية كانت قد أصبحت في القرون الوسطى لعبة في أيدي الملوك فكان أن أخرج الملك الإنكليزي هنري الثامن بلاده من الكنيسة الكاثوليكية بسبب رغبته في الطلاق من زوجته ولأن الكنيسة الكاثوليكية كانت ترفض الطلاق إلا لعلة الزنا، ولأن ملوكا آخرين شنوا حروبا باسم الحفاظ على "الدين القويم"، إظافة إلى ذلك كانت فضائح رجال الدين واستغلالهم للدين قد بلغ أوجه، كل هذه الأسباب وغيرها كانت عاملا نفسيا قبل أن نركز على العامل العقلي والنتاج الأكاديمي البحثي، وإذا كان المسيري يرى أن هذا الحديث لم يعد محايدا بمجرد إبعاد الدين عن المعادلة، ولكن اختيار جون لوك لحل مشاكل الإنسان بالوسائل المادية لا تعني إلا أن العالم المادي بدوره لا يمكنه التدخل في شؤون الدين كون الدين متعلق بالروح وبسبب تنوع الظاهرة الدينية، فلواعترف النظام العام بدور أساسي للدين في إدارة حياة الإنسان فإن السؤال الذي سيطرح نفسه وبقوة هو"ماذا عن الحل الإسلامي"؟ وأيضا "ماذا عن الحلول اليهودية والمسيحية"؟ وكل دين سيطرح سؤاله المشروع عن دوره في تنظيم حياة الفرد والمجتمع وإدارة النظام العام وننتهي بكارثة حقيقية.

يقول المرحوم عبد الوهاب المسيري:

والحديث عن "إصلاح حال الإنسان" ليس حديثا محايدا، كما قد يبدولأول وهلة، فهويفترض وجود نموذج متكامل ورؤية شاملة (للإنسان والكون) ومنظومة معرفية قيمية يمكن "إصلاح حال الإنسان" حسبها. وهنا يحق لنا أن نسأل: هل مثل هذه المنظومة "تضاف" إلى العلمانية أم أنها جزء لا يتجزأ منها؟ فإن كانت تضاف إليها فمن أي مصدر نستقيها؟ وهل الأمر متروك لكل إنسان ومجتمع أن يختار مثل هذه المنظومة؟ وإن كان جزءا عضويا من العلمانية، أي النموذج الكامن وراء المصطلح، فهل حدد هوليوك السمات والملامح الأساسية لهذا النموذج؟ أعتقد أن الإجابة عن مثل هذا السؤال الأخير بالنفي والإيجاب سيكون أمرا صعبا، فهوليوك لا يتصدى بصراحة ووضوح لقضية القيمة (هل هي قيم مادية)؟ وقضية المعرفة (هل مصدرها الحواس فحسب)؟ وهويتحدث عن سمات الإنسان دون تعريف للسمات الأساسية لما يشكل جوهر الإنسان الذي ستتم العملية الإصلاحية عليه وباسمه (هل هوإنسان طبيعي / مادي).." العلمانية تحت المجهر ص 13

يحاول المسيري طرح إشكالية يستطيع من خلالها نقض المنظومة الغربية العلمانية التي يرى أنها هي التي صنعت مصطلح "علمنة" و"علمانية" كما سنرى في كتابه حول العلمانية الشاملة والجزئية، فالمشكلة هنا حسب رأيه تكمن في النقطتين الأساسيتين وهما "تعريف ماهية الإنسان" و"مصادر المعرفة" ومن خلال هاتين النقطتين وبشكل نظري كلي ـ حيث أنه سيناقش تطور مفهوم العلمانية تاريخيا بمنهجية بعيدة عن التحقيق العلمي ـ سيحاول نقض العلمانية التي لا يرى إلا أنها مجرد "مفاهيم وقيم غربية" تصدّر إلينا على أنها "مفاهيم وقيم إنسانية" ويريد بالتالي إقامة "حداثة" و"تنوير" و"تطوير" منتج من ثقافتنا نحن "عربية إسلامية حسب المسيري"!! وهوما نشك أن يتم دون الدخول مرة أخرى في المجال المعرفي الغربي الذي تجاوز الغرب وأصبح عالميا بالفعل، والمسيري نفسه يؤكد ضرورة بعض جوانب من العلمانية الجزئية كالفصل بين الدين وبعض جوانب إدارة الدولة "المصدر نفسه ص 16" و"العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية ج 1 ص 17 ـ 18 حيث يشير إلى وجود نوع من العلمانية في الإسلام" ولكن هذه العملية الجزئية والتي تجتزيء الحقيقة غير فعالة إذ تصبح علمانية محدودة كهذه مجرد قناع لهيمنة فكرة دينية وقومية. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com