العلمانية والإنسانية... إشكالات نقدية
 

سهيل أحمد بهجت

sohel_writer72@yahoo.com

إن الإنسان لا يملك تعريفا كاملا شاملا يعرف به ذاته، وهوكان ولا زال يطرح الأسئلة الفلسفية المعهودة منذ القدم "من أين جئت ؟ ولماذا جئت ؟ وإلى أين أذهب ؟" وهي أسئلة يجيب عنها كل دين إجابة مختلفة، بل إن الأديان نفسها تتنوع بتنوع الإنسان وظروفه الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، ففكرة الله مثلا تختلف من المسلم إلى اليهودي والمسيحي والهندوسي وهي تختلف مرة أخرى بين المسلم الشيعي والسني والمعتزلي وكل واحد من هؤلاء يمتلك منهجا مختلفا كليا عن الآخر، والأسوأ أن هذا الاختلاف يؤدي إلى نتائج عنفية سلبية والماضي والحاضر الإسلامي خير مثال لها، بالتالي فإن الأسباب المادية للمعالجة "حسب ما نقل المسيري عن هوليوك، هي حصيلة تناقض الإجابات والحلول التي طرحها المتدينون، وكان حريا بنا أن لا نلوم الألمان حينما فصلوا الدين عن الدولة بعد حرب كـاثوليكية ـ بروتيستانتية أهلكت ثلث السكان في القرن السابع عشر، هذا عدا الثمن الاقتصادي والنفسي الذي دفعه السكان نتيجة مسألة تتعلق بـ"الخلاص الآخروي".

ولعل السؤال الصحيح حول ماهية الإنسان تتعلق بسؤال آخر هو(ماهية العقل)؟ وفي جواب هذا السؤال يكمن الحل، ولعل أفضل إجابة حول هذا الموضوع نجدها عند المرحوم الدكتور علي الوردي، فتحت عنوان "طبيعة الإنسان" وهوالملحق الثاني في الجزء الثاني من كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" يرى الوردي أن الإنسان هو"حيوان" قبل أن يكون إنسانا بمعنى العاقل، وأن التفكير هوالاختلاف الوحيد الذي يملكه عن أخيه الحيوان ـ حسب تعبير الوردي ـ بالتالي فإن هذا العقل نفسه تتحكم به رغبات وشهوات وطموحات قد تتفاوت من إنسان إلى آخر، والقدماء من مسلمين وغير مسلمين أخطأوا حينما جعلوا وظيفة العقل هي البحث عن الخير والشر، وأن الحقيقة هي أن الله جعل العقل ليحمي الإنسان به نفسه وإن هوإلا عضوكسائر أعضاء الإنسان ـ حاله حال الخرطوم للفيل والمخلب للأسد والسقان السريعة للفرس ـ ليساعده في صراع البقاء وبعبارة أخرى أن العقل ليس المقصود به اكتشاف الحقيقة، والتمييز بين الخير والشر كما توهم الأقدمون، بل وظيفته هي أن يحمي به الإنسان نفسه ويضرّ خصمه.

فالعقل حسب طرح الوردي وإن كان مخلوقا إلهيا إلا أن وظيفته أداتية ـ وهوما ينتقده المسيري في نقده التفكيكي للعلمانية ـ وحسب الوردي، وهوما يقره الواقع، فإن الإنسان يدّعي دوما حب الحق والحقيقة، وأنه يضحي في سبيلها، وأن هذا وهم يتوهمه الإنسان أحيانا بل ويتفاخر به، ولكن الواقع هوأن الإنسان في الغالب ـ والشاذ عن القاعدة نادر ـ يحب الحقيقة حينما تكون في جانبه وتنفعه وكل زادت المنفعة زاد هودفاعا عنها، ولكن ما أن تصبح الحقيقة في جانب خصمه وتضره حتى يلعنها ويبحث عن الحجج لإظهار أنها باطل، ولكي نفهم العقل البشري يطرح لنا الوردي ثلاث أمثلة جديرة بالإنتباه وهي:

أولا: أن الإنسان إبن البيئة التي ينشأ فيها والمجتمع يلقنه التقاليد والمعتقدات فيتشربها منذ نعومة أظفاره، وأن العقد التي ينشأ عليها الإنسان قد تكون "سخيفة" جدا ولكنها في نظره "معقولة" جدا وهي الحق كله، وهويتعجب كيف لا يؤمن بها المخالفون مثلما هومؤمن بها، ولا يدري أن المخالفين يتساءلون مثله كيف لا يعتقد اعتقادهم.

ثانيا: الإنسان حينما يتنازع مع خصم على مصلحة له مادية ومعنوية نراه يتخذ كل وسيلة للتغلب على خصمه. وهومؤمن أن الحق معه والباطل مع خصمه، ويريد من الناس أن يؤيدوه، فإن هم وافقوه كانوا في نظره منصفين وأن خالفوه كانوا من المبطلين، ومن الصعب والمستحيل أحيانا إقناع إنسان برأي لا يكون في مصلحته.

ثالثا: إذا أحب الإنسان شخصا وشيئا تحيز في تفكيره كليا نحوه، فصار يبالغ في ذكر محاسنه ويبغض النظر في مساؤه. وهويتحيز ضده تماما إذا كره ذلك الشخص والشيء بحيث لا يرى له فضلا ونقطة إيجابية.

وهنا ينتقل الوردي الذي نقلنا كلامه هنا بتصرف إلى الرد على سؤال إذا ما كان العقل بهذه المنزلة فما بال المخترعات والآلات العجيبة التي اخترعها العقل؟. والوردي هنا لا ينكر عظمة العقل البشري ـ رغم أنه ألف مهزلة العقل البشري ـ ولكن هذا العقل لا يخلوبالتأكيد من تحيز وحب لذاته، وهنا أذكر أن الشهيد الصدر الأول أيضا يقرر في كتاب اقتصادنا أن "حب الذات" هومحور التاريخ البشري وأنه حتى ذلك الذي يضحي بنفسه في سبيل قضية يؤمن بها فهويفعل ذلك ليصل إلى مرتبة أسمى وأفضل، ولا أستبعد أن يكون العلامة الصدر تأثر بالوردي في هذه النقطة تحديدا، وهنا يصل الوردي إلى قمة الاستنتاج فيقول:

إن العقل البشري لا يبدع إلا إذا كانت لديه مشكلة يريد حلها." ـ لمحات اجتماعية ج 2 ص 308 وبالتالي فإن معظم المخترعات الحديثة غالبا كان هدفها مغالبة الخصوم على وجه من الوجوه حتى توصل اليوم إلى الأسلحة النووية كما يقول الوردي، ومن المهم الرجوع إلى بحثه للمزيد من الاطلاع.

وإذا كان الإنسان قائما بذاته، بمعنى أنه حتى في الفلسفة الدينية هومحبوب الله وغاية الكون، إذا فعلى الإنسان أن يوجد بيئة سليمة تتيح له العيش بسلام أولا وتتيح له البحث الشخصي عن الخلاص والخلود بعد الخروج من عالم حتميته الموت، والعلمانية كتجربة لا تخلومن الأخطاء والمناطق المظلمة التي يراد لها أن تستكشف إما عبر البحث النظري الفلسفي وعبر الممارسة الفعلية لعملية الوعي اليومي الذي يرى الأخطاء والسلبيات والإيجابيات خلال كل مرحلة وأخرى، فالتطور الغربي نحوالدولة الحديثة لم يخلومن قباحات وجرائم وأخطاء ولكنها أيضا تجربة حققت في الوقت نفسه استكشافا لوعي جديد لحقوق الإنسان والاستخدام الآمن والمفيد للعلم، كما أننا رأينا كيف أن تجربة فعلية هي الحرب العالمية الثانية أدت إلى تحطيم الدولة القومية التي تضخمت على حساب الحرية والحقوق الفردية والعامة، والعلمانية كأي تجربة أخرى تستفيد ن أخطاءها فهي لا تدعي العصمة ولا الكمال، فإذا كان المسيري في كل مؤلفاته ـ بدءا من موسوعة اليهود واليهودية وحتى في نقده العلمانية ـ يلزم الصمت أزاء التجربة الإسلامية الدينية ولا يطرح السؤال المهم "هل القرآن مسؤول عن تعدد المذاهب والآراء وهل هذا إيجابي أم سلبي"؟ إنه يتجاهل كل النماذج والتجارب ويتغافل عن تاريخية التجربة نفسها كونها عملية تراكم خبرة وممارسة وانتاج استنتاجات متواصلة، فإذا ولدت العلمانية تجربة كاملة لا نقص فيها ولا لبس وكانت تمتلك كل الأجوبة عن كل الأسئلة فإنها بالتأكيد ستكون دينا أكثر من كونها منهج تعايش وتطور، والشيوعية الماركسية تصدت لكل سؤال بجواب فكانت النتيجة أن سقطت وحالت إلى دين آخر بلا إله.

من هذا المنطلق تجد أن المسيري حكم بالسلب المطلق على العلمانية، ويكفي لها سلبا أنها نتاج غربي مادي لا علاقة له بالروح فالروح شرقية كما يبدو، لكننا سنتجاوز الاختصار لنمضي في التفصيل الممكن مع نقد المسيري (الناقد الأبرز للعلمانية) والذي يُنظِّر من طرف خفي للدولة الدينية مخلوطة بنزعة "قومية". يقول الدكتور المسيري:

إن المصطلح الذي تصور هوليوك أنه محايد، ليس محايدا تماما، فهويشير من طرف خفي إلى رؤية شاملة للكون "أنظر العلمانية الشاملة ج 1 ص 54"، وإلى منظومة قيمية انسلخت عن الإيمان الديني وتبنت الطرق المادية، فهل تبنى هوليوك نموذجا ماديا شاملا دون أن يدرك هونفسه ذاك، مع أنه تصور أنه سيترك الإيمان الديني وشأنه؟ (وهوأمر ـ بطبيعة الحال ـ مستحيل في هذا الإطار الشامل)" المصدر نفسه ص 14

إن النظرية الشاملة التي يحدثنا عنها المسيري لا يمكن أن تكون كذلك في ظل منظومة الغرب القائمة على حرية الاختيار، فالعلمانية كونها شأنا دنيويا محدودة بحدود الدنيا وهذا العالم وهي لا تدخل ضمن الفلسفة الماركسية مثلا التي أستطيع أن أصفها بالدين المادي، فالعلمانية الغربية تتسم باعتراف بالدين كون الدين يُمارس ضمن إطار الحرية وجعله جزءا من الإسهام في المجتمع وبناء الفرد والأسرة، ولا مجال لإنكار الدور الكبير الذي تقوم به الكنيسة في الدول الغربية كأمريكا وبريطانيا، لكن طرح هوليوك لا يتعدى الجانب المادي من الإنسان ولا أحسب أن أحدا يستطيع أن يزعم أن الإنسان ليس مادة بالدرجة الأولى، فمشكلات الحياة وتوفير حاجات الإنسان الغريزية والاجتماعية ومستلزمات العيش الكريم كلها أمور تتعلق بالجانب المادي، تبقى مسألة المباحات والمحظورات التي تختلف من دين إلى آخر، والمسيري منذ البداية يطرح العلمانية كـ"نقيض" لما يسميه "الدين" وكأن الدين كائن متكامل واضح المعالم والحدود وأنه وحدة واحدة، وهذا طبعا ليس صحيحا.

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com