|
قضية مثقف لا أريد أن أعيد واكرر ما قاله وكتبه ونادى به كل المثقفين العراقيين الأحرار حول الأزمة الشديدة التي تعرضّت لها الصحافة العراقية مؤخرا، بل والمحنة التي يعيشها الآن الصديق الشاعر احمد عبد الحسين سكرتير تحرير جريدة الصباح البغدادية، ومسؤول القسم الثقافي فيها جراء نشره مقالته الشجاعة عن جريمة مصرف الزوية واستشهاد ثمانية من الحراس العراقيين على أيدي مجرمين ينتمي بعضهم إلى كتلة سياسية معروفة، بل ومنهم الآخر من كوادر الدولة ! إن مقالة هذا الشاعر المثقف كان لها تأثيرها البالغ، ولقد نجح احمد عبد الحسين في إشعال فتيل صاعق بعد كل القناديل التي أضاءها على الطريق منذ سنين .. وستكون لهذه البادرة تداعياتها على المستقبل، خصوصا وان هذا الرجل كان يعمل بصمت ليل نهار من اجل أن يرى وطنه يمشي على الطريق السوي . كنت قد أرسلت له مقالتي الأسبوعية يوم الثلاثاء الماضي 4 آب / اغسطس 2009، والموسومة " هذا العراق .. المجنيُّ عليه " على أمل أن تنشر كالعادة فجر يوم الخميس 6 آب / اغسطس 2009، ولكنها لم تنشر مذ تفجرت أزمة جريدة الصباح، وقد وصلتني رسالة من احمد عبد الحسين قبل ساعات عبر الانترنيت، يقول فيها : "أستاذي الأعز الدكتور سيار الجميل : محبة. آسف لعدم نشر مقالك .. لا أعرف ما يدور في الجريدة أنا غائب عنها منذ أسبوع تقريباً، وأنا متوار عن الأنظار في مكان ما في بغداد. بعد أن تنتهي الأزمة بسلام، سأكتب لك .. حتى ذلك الوقت، أرجو أن ترسل مقالاتك على عنوان الجريدة الالكتروني وتعنونها إلى الزميل ماجد موجد فهو الآن رئيس القسم في غيابي القسري . محبتي إليك . واسلم لنا أخوكم
معاناة إنسان .. مأساة جيل إذن توارى احمد عبد الحسين عن الأنظار، خوفا على حياته، بعد كل التعسف الذي ناله، وهو الصحفي المثقف العراقي الحر الذي يؤمن منذ بداياته الأولى بالكلمة الحرة وحرية الرأي .. وهو الشاعر الجدلي مع هذا الواقع المؤلم .. انه الإنسان المرهف الإحساس إزاء كل النائبات وأقول لمن لم يعرف احمد عبد الحسين، نعم، انه شاعر عراقي مبدع من جيل المأساة، صاحب كلمة ورؤية وموقف .. انه من جيل ما بعد 1979، ولقد عرفته منذ سنوات طوال عندما كان مغتربا غربته القسرية، فكان نعم الصديق، يهديني إشعاره ويكتب لي ما يعن له من الأفكار أسوة بزملاء وأصدقاء شعراء عراقيين من جيله .. له أسلوبه المتميز بجزالته واختصاره .. كان مهموما بالعراق لأكثر من عشرين سنة في غربته الصعبة .. مثقف وطني حتى النخاع، ولا يمكن لأي إنسان أن يتهمه بأي اتهام .. لم يكن بعثيا، بل كان إنسانا مشردا ومستقلا ونظيفا، لم تلوثه السياسات لا القديمة منها ولا الجديدة .. كتب لي رسالة الكترونية مؤلمة قبل أيام، وبعد احتراق دار الشؤون الثقافية ببغداد بأسلوب متعمد .. فوقف يدين ذلك العمل، فوصلته تهديدات شتى وقال لي : لقد احتاروا أي تهمة يلصقونها بي ! لقد عانى احمد عبد الحسين معاناة صعبة على غرار كل أبناء جيله من المثقفين المبدعين العراقيين الأحرار الذين نجدهم اليوم وما أكثرهم، ولكنهم بقوا في الخطوط الخلفية .. بل ويريد البعض أن يهمشهم ويقصيهم ويسكت أصواتهم نهائيا ! لقد حلم كل المثقفين والمبدعين العراقيين الأحرار أن يكونوا في العراق يوما كي يخدموا أهلهم، ويشيدوا ثقافة جديدة ومبدعة فيه.. كانت أمنياتهم تتوسّع في كل الآفاق من اجل إعادة بناء وانطلاق العراق الحضاري، وهم ينظرون دوما إلى المستقبل، وقد تحملوا أثقال السنوات العجاف بطولها وكل آلامها ومعاناتها، ولم يكن الجميع يظن أن العراق سيحّل به كل هذا التدمير ويسحق أهله انسحاقا مريرا .. جيل يمثله رهط كبير من المبدعين العراقيين الرائعين، واعرفهم واحدا واحدا منذ بدايات التسعينيات، وأنا اقرأ لبعضهم، أو التقي ببعضهم الآخر .. أنهم ليسوا كالآخرين من الذين لوثتهم الأحزاب السياسية والدينية . لقد وجدتهم متناثرين في كل الدنيا بين من يكتب الشعر أو القصة أو الرواية أو المقال .. بين من يهتم بالمسرح والدراما والنقد ..
العود أحمد: الانطلاق والفجيعة احمد عبد الحسين، رجع إلى العراق عام 2003، ليس بصفة سياسي متخندق مع أي طرف، بل رجع إلى وطن، كان يعد الأيام عدا ليراه ويشبع منه .. ويخدم أهله وشعبه . كتب لي عند رجوعه، وهو فرح بذاك الرجوع، فباركت له ذلك، ولكنه بدأ يسجّل لي تباعا، كم غصة عانى منها، وكم مأساة تعّرض لها .. بقي يصارع كل الأضداد مذ وجد مكانه في جريدة الصباح التي دعاني للكتابة فيها، واستجبت لندائه كوني اعرف من هو احمد عبد الحسين .. ومضت الأيام الصعبة وعانى من التهديد بالقتل ومن مأساة الخطف ومن مخاطر التفجير .. بقي الرجل نظيفا وحرا ونزيها كما عهدته منذ سنين، بقي وفيا للكلمة الحرة، ومدافعا رائعا عن الثقافة والمثقفين العراقيين .. بقي يقارع أنماط المتخلفين المتحجرين والمتعصبين المتكلسين .. بقي يناضل ضد المخطئين والمزورين والمنافقين والمختلسين والسارقين وحارقي المؤسسات الرسمية .. بقي يثير المساجلات المهمة والحوارات الصعبة بين المثقفين .. بقي يتألم لكل الضحايا العراقيين الذين ذهبوا بالآلاف المؤلفة قرابين أبرياء من اجل العراق .. بقي يعاني من قسوة المتحزبين والمتاجرين سياسيا باسم الدين .. بقي احمد عبد الحسين لم تغّيره الأزمان الجديدة، ولم يلوّثه الموبوؤن بالفساد والاهتراءات والأعمال المتوحشة .. بقي يعيش على راتبه الضئيل وهو متعلق ببغداد التي أحبها وعشقها، كونه ابنها الحقيقي، وان اسمه واصله وفصله مسجّل على لوح رافديني كتب عليه بأنه عراقي ابن العراقيين و"أنه لم يحمل عارا يخفيه في رماد الحريق" ـ على حد قوله ـ! أليس من المعيب أن يجازى شاعر ومثقف وصحفي عراقي مثل احمد عبد الحسين بهذه الطريقة ؟ فما جنايته ؟ وما الذي كتبه ؟ ما الذي سجله ؟ أليس من حق أي عراقي أن يستفسر عن سر التناقض في التصريحات التي يقدمها المسؤولون ؟ أليس من حقه أن يقول : بأي وجه حق يقتل ثمانية من الحراس العراقيين ظلما وعدوانا ؟ أليس من حقه أن ينادي بأعلى صوته بحثا عن حقائق الأشياء التي خفيت عن الأعين ؟ أليس من حقه أن يكتب رأيه السياسي حول أي قضية يراد أن يعتّم عليها كما هو حال القضايا الأخرى؟ أليس من حق أي عراقي أن يدين أي أجرام أو أي جناية ؟ ويحاول أن يبّين من يقف وراء ذلك؟ لو لم يقبل احمد بالتغيير، لما خدم العراق .. ولكن لا يمكن لكائن من كان أن يتاجر باسم الدين مرة، وباسم الديمقراطية مرات، وهو يقمع الأصوات الحرة .. العراق ليس مزرعة لأبي احد .. والعراق لم يسجّل بالطابو باسم كتلة أو حزب أو جماعة أو تيار أو هيئة .. والعراق لا يمكن أن يبقى رهين حمامات الدم وبأيدي العابثين وميليشيات الطغاة .. وندماء الحاضر ونصراء الماضي .
وما نيل المطالب بالتمني .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا أتمنى على كل عراقي يحسّ بالمأساة أن يطالب برجوع صوت احمد عبد الحسين الى الصباح من جديد .. أتمنى على الحكومة العراقية أن تكون ممثّلة حقيقية للديمقراطية، وتقف وقفتها إلى جانب حرية التعبير والى جانب الصحافة وتعيد قلم احمد عبد الحسين متدفقا إلى الناس .. وان يكون العراق بيد الحكومة العراقية، لا بأيدي أي حزب أو كتلة أو تحالف أو جبهة أو هيئة أو تيار .. أتمنى من كل أصدقاء احمد عبد الحسين وزملائه الوقوف إلى جانبه في محنته، والعمل على إلغاء أي قرار صادر في حقه .. وأطالب الحكومة العراقية أن تخضع ما حدث في مصرف الزوية للتحقيق العلني، دون إخفاء أي حيثيات أو أدلة تدين كل متهم قد تورط فعلا أو سهوا بتلك الجريمة النكراء .. واذكر أن أي حزب أو أي سياسيين قياديين كانوا أم غير قياديين في أي بلد ديمقراطي، عندما يتعرضون لهكذا حدث مثير تحوم حوله الشكوك، فإنهم يحالون للتحقيق مباشرة بالإضافة إلى تسمياتهم ومناصبهم كي يثبتوا براءتهم ..
وأخيرا .. الشمس في الغياب تنتظر لقد أعدت إرسال مقالتي (هذا العراق .. المجنّي عليه!) إلى جريدة الصباح، متمنيا نشرها، كما جرت العادة، فان لم تنشر فسأقول: وداعا لجريدة الصباح! ولكن سأبقى وكل المثقفين العراقيين نطالب بعودة احمد عبد الحسين إلى مكانه الحقيقي والاعتذار منه، ومن كل المثقفين العراقيين .. وإلا فان تداعيات الحدث سيؤثر حتما على كل المعادلة . دعوني أحّي الصديق الشجاع احمد عبد الحسين، واختتم هذا المقال الخاص ببعض من شعر الصديق احمد عبد الحسين .. يقول : وغداً إذا ما متُّ اترك لي يا ربّ قطعة من فجر كنت أتلوع فيه هبْ لي ضنكاً وحيرة أعرف منهما أني موجود وإذا تلطفتَ فامنحني كسرةَ ليلٍ أسكن فيها وشمساً في الغياب تنتظر
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |