أوهام .. ما وراء فصل الدين عن الدولة
 

سهيل أحمد بهجت

 sohel_writer72@yahoo.com

من خلال استشهادنا بالفقرات التالية نحن نهدف إلى فهم طبيعة النقد الذي وجهه المسيري للعلمانية وعبر ذلك نستطيع نقد مكامن الخلل في نظرته ذات الأحكام المسبقة تجاه العلمانية، يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:

واقع الإنسان يتكون من مستويين (وبنيتين) البنية الظاهرة والبنية الكامنة، وعادة ما تكون البنية الظاهرة تبديا للكامنة. وأفضل أن أراهما باعتبارهما دائرتين متداخلتين، الأولى صغيرة (ونشير لها بالجزئية) والأخرى كبيرة ونشير لها بالكلية وهي تحيط بالأولى وتشملها، وهي بمثابة الإطار الذي ينتظمها، ويمكن القول: إن الأولى إن هي إلا مجرد إجراءات تشكل تبديا للثانية، ولا يمكن فهمها حق الفهم إلا بالرجوع إلى الدائرة الأشمل، لأن هذه الدائرة الأكبر هي البنية الكامنة والمرجعية النهائية، وفي حالة العلمانية يشكل الفصل بين الدين والدولة الدائرة الصغيرة الجزئية الإجرائية، وهودائرة لا يمكن فهمها في حد ذاتها، وإنما بالعودة إلى الدائرة الشاملة الأكبر التي تشمل الأمور النهائية والمنظومات المعرفية والأخلاقية الكلية التي تمت عملية الفصل في إطارها." ـ المصدر ص 15

إن عملية "فصل الدين عن الدولة" ليست عملية ناتجة عن علمنة أجزاء أخرى من الحياة، وهوما يوحي به المسيري في كتاباته الأخرى حيث يبدووكأن علمنة مجالات الحياة كانت نتاجا لعلمنة الدولة وليس العكس، وهنا يبرر المسيري وجود حتمية لفصل الدين عن الدولة ويرى ذلك أمرا حتميا إذ يقول:

ونحن نذهب إلى أن عملية فصل الدين ومؤسساته عن الدولة عملية حتمية في جميع المجتمعات، باستثناء بعض المجتمعات الموغلة في البساطة والبدائية، حيث نجد أن رئيس القبيلة هوالنبي والساحر والكاهن [ وأحيانا من سليل الآلهة] وأن طقوس الحياة اليومية طقوس دينية. ففي المجتمعات المركبة نوعا، ثمة تمايز بين السلطات والمجالات المختلفة يبدأ في البروز (وهوأمر يعرفه أي دارس للمجتمعات الإنسانية). وحتى في الإمبراطوريات الوثنية التي يحكمها ملك متأله، فإن ثمة تمايزا بين الملك المتأله، وكبير الكهنة، وقائد الجيوش! فالمؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد بالمؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي وحضاري مركّب، تماما مثلما لا يمكن لمؤسسة الشرطة الخاصة بالأمن الداخلي في الدولة الحديثة أن تتوحد بمؤسسة الجيش الموكل إليها الأمن الخارجي، كما لا يمكن للمؤسسة التعليمية أن تتوحد بالمؤسسة الدينية، وفي العصور الوسطى المسيحية، كانت هناك سلطة دينية (الكنيسة) وأخرى زمنية (النظام الإقطاعي)، بل داخل الكنيسة نفسها، كان هناك بين رجال الدين من ينشغل بأمور الدين وحسب ومن ينشغل بأمور الدنيا.." ـ المصدر ص 16

فالإقرار بالمبدأ من قبل المسيري هوخطوة مهمة في نقد النقد الذي وجهه المسيري إلى العلمانية بوصفها منتجا غربيا، فكون التطور جزءا أساسيا من وجود الإنسان ومواجهته وصراعه مع الطبيعة يجعل من العلمانية حلقة واقعية حتمية ضمن هذا الصراع، فالعلمانية جاءت كردّ فعل على استغلال الدين كأداة للسيطرة والهيمنة واتخاذه تبريرا لاستمرار هيمنة القوي على الضعيف بحجة أن الفعل الطبيعي ـ الذي يعتريه الظلم والإجحاف ـ منسوبا إلى الله والإرادة الغيبية، من هنا كان الدين نفسه يعاني من أزمة من خلال الخلط بينه كطريق إلى الله ليختلط بالفعل الإنساني الباحث عن النزوات والشهوات والمصلحة الخاصة، ولأن الإسلام نظام قائم على أفضلية المنفعة {{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}} الرعد 17 "خير الناس من نفع الناس" فإننا سنبدأ في الفصل الواقعي الضروري بين الدين كنصوص يحق لكل فرد دراستها والبحث فيها بالحرية الكاملة، وبين التعامل الدنيوي الذي يتغير بتغير الظروف والحاجات، مع ملاحظة أن الحاجة نفسها تتفاوت من مجموعة إلى أخرى ومن ظرف إلى آخر.

والآن لنأتي إلى ما يقوله المسيري عن العلمنة في الإسلام وكإجراء نوع من الفصل بين الديني والدنيوي، يقول الدكتور المسيري:

وحينما قال الرسول (ص): "أنتم أعلم بأمور دنياكم" فهوفي واقع الأمر يقرر مثل هذا التمايز المؤسسي (فالقطاع الزراعي، حيث يمكن للمرء أن يؤبر ولا يؤبر حسب مقدار معرفته العلمية الدنيوية، وحسب ما يمليه عليه عقله وتقديره للملابسات، متحرر في بعض جوانبه من المطلقات الأخلاقية والدينية). وثمة تمييز هنا بين الوحي (الذي لا يمكن الحوار بشأنه) وبين عملية الزراعة (التي تتطلب خبرة فنية معينة)، أي أن ثمة تمايزا بين المؤسسة الدينية والمؤسسة المدنية (ممثلة في قطاع الزراعة)، ومع تزايد تركيبية الدولة الإسلامية (مع الفتوحات والمواجهات)، تزايد التمايز بين المؤسسات، وتزايد الفصل فيما بينها، ومن ثم، فإن فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة والمؤسسات المدنية عملية ليست مقصورة على المجتمعات العلمانية بأية حال، وإنما هي عملية موجودة في معظم المجتمعات المركبة بشكل من الأشكال (ومن هنا نجد من يقول: إن المسيحية عقيدة علمانية، ومن يقول: إن الإسلام دين علماني، وهكذا). ومع هذا حصر بعضهم العلمانية في هذه الدائرة الضيقة وحسب، واستبعدوا الدائرة المرجعية الأشمل، وتعريف العلمانية على هذا النحويتجاهل قضية المرجعية والنموذج الكامن وراء المصطلح، إذ لا بد أن نسأل عن الإطار المعرفي الكلي والنهائي الذي تتم في إطاره عملية الفصل.." ، المصدر ـ ص 16 ـ 17

مشكلة هذا النقد هوأنه يقر أولا في ضرورة الفصل بين الدين وممارسة فهم الواقع الذي ترتكز عليه السياسة، وهذا الواقع متغير بينما النص ثابت وجامد كحروف، مما يعني أن لا حدود ولا معنى لتجزئة هذا الفصل، فالسؤال الذي سيطرح نفسه مرة أخرى سيكون: من هي الجهة التي ستقرر متى نفصل بين الدين والشؤون المدنية؟ وما هي الحدود لهذا الفصل؟ حقيقة أن هذا الأمر يكتنفه غموض كبير، وإذا كــان هناك من سيضع هذه الحدود، كالمؤسسة الدينية مثلا، فحينها ستكون هذه العلمانية وهذا الفصل صبغة تخفي بشاعة دولة دينية تضع الحدود كما تشاء بين ما هولله وما هوللناس، بالتالي تكون هذه العملية غير ذات مغزى ومعنى، وإذا كان الشعب وأغلبية الناس هم من سيضع هذه الحدود حينها سنعود إلى النمط الغربي والنموذج الفرنسي خير مثال على ذلك.

إن الدين وإن كان مجموعة نصوص ثابتة، قرآن وأحاديث عند السنة وقرآن وحديث وأقوال الأئمة المعصومين عند الشيعة، إلا أن النص لا يسلم من الهوى والرغبة وهوما لا يسلم منه الفقيه والمجتهد مهما كان متجردا من الرغبة والميول النفسية والسياسية، من هنا يصبح النص غير محايد ولا يمتلك صفة الحياد الموجودة في المنهج العلماني، وإن أقررنا بعصمة النص، فما دام النص انفصل عن النبي والمعصوم فإن ذلك يستدعي فصلا حقيقيا بين نظام الدولة وآليات انتخابه فيما يناسب مصلحة الشعب وبين تسخير الدين لصالح فئة وجماعة ذات بنية "مقدسة" تربط قسرا بين المطلق الإلهي لصالح النسبي المادي لصالح هذا الأخير مما يعني إضعافا لدور الدين وبالتالي جعله تابعا للسياسي ـ سواءٌ كان هذا السياسي علمانيا وفقيها معمما ـ وهوما لا يصب في مصلحة الشعب.

نجد مرة أخرى أن المسيري وبعد إقراره بالعلمانية كمبدأ ـ رغم أن علمانيته ليست سوى صبغة شكلية ـ إلا أنه يخلط مرة أخرى بين العلمانية كفصل بين الدين والدولة وبين الإلحاد كظاهرة فكرية نتجت عن الحرية وكرد فعل من ممارسات المتدينين بحق غيرهم، فالمسيري يريد إدخال المجتمعات الغربية كلية في نمط فكري صوره لنفسه، ومن خلال عباراته يتضح لنا أنه يهدف إلى إخافة المجتمعات الشرقية الإسلامية من توابع "العلمانية" وعواقبها وكأن المشرق الإسلامي المغرق في الغيبية والخرافة على خير ما يرام، ويحاول على الدوام إخافتنا مما يسميه بالانحلال الخلقي والإباحية وما إلى ذلك، مع أن العلمانية لا تنفي الأخلاق ولا تنكرها وإنما تترك للمجتمع وقواه الدينية والثقافية أن تحدد مكامن العلاقة بين الحرية ـ في أوسع أطرها الممكنة ـ والحدود الأخلاقية التي ينتجها الدين والفلسفة التي يقوم عليها المجتمع، وطالما كان التنظير ينظر إلى الفكرة خارج أطرها الإنسانية ـ كما يفعل المسيري ـ وخارج طبيعة التجريب والاختبار فإن الأفكار ستبقى بمعزل عن تغيير الواقع، وإذا كان الدين ناقصا من حيث أنه لا يتجسد إلا في ظل التجربة الإنسانية، نجد أن تجربتنا الدينية الإسلامية مغلقة عبر التكرار والتعصب وإظفاء المقدس على التجربة، فالتقديس تجاوز النبي والنصوص ليشمل فترات كاملة من التاريخ الإسلامي "الظلامي"، هذا في التطبيق السني، أما على المستوى الشيعي فقد تجاوز التقديس النصوص والمعصومين ليشمل "المجتهدين" وحتى الوصول إلى تجربة ولاية الفقيه "سلطان الواعظين".

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com