|
لكي لا نفقد هويتنا الملاحية
تتميز ضفاف شط العرب، الممتدة من القرنة إلي رأس البيشة، بشواهدها التاريخية الكثيرة والمتنوعة. وتشترك هذه الشواهد في بناء وتشكيل اكبر متحف حضاري. يحتوي علي أغني المواقع الأثرية، المرتبطة بالعهود والعصور القديمة. وترقد كل ذرة من تراب شط العرب في بيئة ملاحية وثقافية، تشكل القلب مما يعرف بتاريخ البصرة الزاهرة، وذات الوشامين، وأم العراق، وقبة العلم، وهي غنية عن التعريف بضواحيها الحبلي بالثقافات والأفكار والمذاهب، حيث ولدت فيها مذاهب وفرق إسلامية كثيرة، كالمعتزلة والواصلية والجاحظية والزيادية والصفرية والأباظية، وتأسست فيها مدارس فكرية وعلمية رائدة، وكانت منطلقا لخطوط تجارية وبحرية متعددة، لها تاريخ طويل ومتشابك مع بعضها البعض. فالبصرة جسر العالم القديم، وواجهة العراق البحرية، وملتقي القوافل، ومنبع الفنون، والعلوم، والآداب. يتجلي ذلك في شهرة موانئها القديمة، وغزارة معالمها الملاحية والمينائية، التي تربو اليوم علي مئات المواقع الأثرية من المرافئ القديمة، والجزر، والأنهار، والفنارات، والمدن، والمراسي، والمساجد، والمواقع الأخري، وما تشتمل عليه من ملامح ورموز أصيلة، ضاربة في عمق التاريخ. لقد حالفني الحظ في قيادة السفن والمراكب، وإرشادها عبر ممرات ومسالك هذا النهر الخالد، منذ عام 1975 وحتى كتابة هذه السطور، فاكتشفت حقائق متناقضة تماما مع ما كنت أتمناه وأتطلع إليه، ومخيبة لتوقعات الناس، إذ لاحظت عدم وجود لوحات تعريفية لأنهار وتفرعات ومنعطفات وجزر وقرى شط العرب، ولا توجد في الواجهات المائية للشط أية شواهد تحمل أسماءها وتبين دلالاتها. ويصعب على السفن المبحرة التعرف على مواقع شط العرب. الأمر الذي يتنافي مع مكانتها وقيمتها التاريخية. ويعطي مدلولا سيئاً لا يتناسب مع قيمتها التاريخية والحضارية. وهو ما دفعني إلي كتابة سلسلة من المقالات للمطالبة بالاهتمام بالتاريخ الحضاري والثقافي لشط العرب، وحمايته من الاندثار والضياع. وإظهار هذا الشريان الملاحي الكبير بالمظهر الذي يليق به، ويعكس قيمته الملاحية والمينائية والسيادية. فلا مناص من القيام بحملة شاملة لتثبيت اللوحات، واللافتات التعريفية. وبما يضمن ترسيخ أسماء الأماكن في ذاكرة الناس والأجيال القادمة. وفي هذا السياق لابد من قيام مديرية تربية البصرة بحملة أخرى لتعريف الطلاب بهذه المواقع التراثية من خلال التوعية الممنهجة في المدارس، فهذا التراث العريق يعد ملكا للفرد العراقي حيثما كان. وان واجبنا يحتم علينا العمل بشتي الطرق لحماية تاريخنا الملاحي والثقافي، وصيانة تراثنا البحري النفيس، والمحافظة عليه من الضياع.. . فلكل منعطف من منعطفات شط العرب ذاكرة مجسمة. تتشكل من حلقات زمنية متراكمة، ومرتبطة بإحداثيات المكان، المثبتة على الخارطة بخطوط الطول والعرض. وهي تغوص في المستقبل. مثلما تغوص في الماضي. وتعيش بوجوه متعددة. لكنها مازالت تحمل الأسماء التي أطلقت عليها عند ولادتها. وان فقدانها لهذه الأسماء يدفعها إلي المزيد من التشوه. ويفقدها مكانتها الجمالية والتاريخية. وربما يفقدها مخزونها الحضاري. لذا فإن اسم المدينة الساحلية يمثل هويتها التاريخية. ويمثل خلاصة حياتها. فهي الناس والصلات والعواطف. وهي الفن والعمارة. والسفن والملاحة، والحكومة والسياسة. والثقافة والذوق، وهي أصدق تعبير لانعكاس ثقافة الشعوب وتطور الأمم. وهي صورة لكفاح الإنسان العراقي وتضحياته، وصورة لسيادته علي ممراته الملاحية، وصورة لامتداد سلطته علي مسطحاته المائية. وهي فوق ذلك كله صورة من صور أقدم الحضارات المينائية وأعرقها. من هذا المنطلق نرى إن مثل هذه الحملات الوطنية تستدعي استنفار همم أعضاء مجلس المحافظة، والمجالس البلدية، والمؤسسات البحرية ، وبالتنسيق مع جامعة البصرة، والمراكز العلمية والتراثية والسياحية في المحافظة. وصدقوني إن المسألة في غاية البساطة. ويمكن تنفيذها علي الوجه الأكمل وبالصورة المثالية. وبخاصة بعد أن أصبحت صناعة الملصقات الانتخابية واللافتات الاستعراضية من الصناعات الرائجة في العراق. فما المانع من توظيف الجزء اليسير من تلك الجهود التي كرست للحملات الدعائية، وتسخيرها في هذا النشاط الوطني التثقيفي الإنساني الهادف. ان ملامح شط العرب في أمس الحاجة إلي الصيانة والتوثيق بحروف من ذهب. وفي أمس الحاجة إلي تجميلها بلوحات وإشارات ولافتات وشواهد تعزز مكانتها التاريخية. وتنتشلها من ركام النسيان. وتحميها من الضياع..
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |