|
إنهم يريدون العراق سداً أو خندق دم
د. حامد العطية لا أتكهن بالغيب، ولا أعلم خفايا النفوس، ولا أحدس النوايا، ولا أعرف الأسرار، ولا يوحي إلي، وليس لي غير الظواهر، أستدل بها، واحتكم لشواهدها، وكل الظواهر تشير بأن الاستراتيجية المكونة والمحركة للوضع العراقي شهدت مرحلتين، أولهما مرحلة السد والثانية مرحلة الخندق. بدأت مرحلة السد قبل الاحتلال البريطاني للعراق ابان الحرب العالمية الأولى، فقد أرادت بريطانيا الاستعمارية للعراق أن يكون سداً أو جزءاً من منظومة السدود، في وجه تطلعات روسيا القيصرية للوصول إلى المياه الدافئة للخليج، وما يترتب على ذلك من تهديد لمستعمراتها في الهند وشرق أسيا، وفي نفس السياق الاستراتيجي شاركت بريطانيا بجانب حليفها المؤقت العثماني في حرب القرم ضد روسيا القيصرية، ثم اتخذت موقفاً مناوئاً من الدولة العثمانية لتحالفها مع الألمان وموافقتها على إنشاء خط للقطارات بين برلين وبغداد. احتلت بريطانيا العراق لتحصن السد الاستراتيجي عن كثب، وبذلت قصارى جهدها لتاسيس حكومة مركزية قوية، فكان لها الدور الرئيسي في تكوين وتدريب الجيش العراقي، وامداده بالأسلحة والعتاد، لكي يكون قادراً على القيام بدوره في الحفاظ على السد من عوامل الهدم الداخلية، بما في ذلك التمردات الإثنية والقبلية والطائفية، وكذلك التصدي للتهديد الآتي من الشرق، أي الاتحاد السوفيتي، وليس إيران الشاهنشاهية الحليفة لبريطانيا والغرب. فقدت بريطانيا مستعمراتها في الشرق لكن بقيت أهمية السد العراقي الاستراتيجية، بل لعلها ازدادت، فبالإضافه إلى موقعة الجغرافي الحيوي تم اكتشاف واستخراج النفط من العراق ودول الخليج العربية، وضمنت المعاهدات البريطانية العراقية والتحالفات الإقليمية بمشاركة الدول الغربية ديمومة استراتيجية السد، وتميزت علاقات العراق مع دول الجوار المرتبطة بالغرب في تلك الحقبة بالاستقرار والهدوء. في السنوات العشرة بين 1958م و1968م خبت أهمية السد العراقي، وحل محلها السد الإيراني الشاهنشاهي، وفي تلك الأثناء كانت أمريكا قد ورثت الشرق العربي من بريطانيا، ولكنهم أعادوا احياء الدور العراقي بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، فتحالفت الدول الغربية مع النظام الصدامي الطاغوتي لتفعيل السد العراقي تجاه إيران الإسلامية، ولأول مرة استعمل الجيش العراقي لتنفيذ المهمة الأساسية التي أسس من أجلها، وهي حماية المصالح الغربية في الخليج، والتي تقاطعت مع طموحات الطاغية المعتوه وأحقاده الطائفية وأيديولوجيته العنصرية، فأمدته الحكومات الغربية بالأسلحة والتجهيزات العسكرية، وزودته بالمعلومات الاستخبارية، وآزرته في المحافل الدولية، فيما أغدقت عليه دول الخليج العربية الأموال الطائلة. مع دخول القوات الصدامية الأراضي الكويتية انتهت استراتيجية السد العراقي، فقد تبين بأن فعالية السد غير كافية، كما تأكد لهم بأن أي تحصين إضافي للسد، من خلال تزويده بأنواع متطورة من الأسلحة قد تكون له نتائج عرضية خطيرة، إذ لا ضمان بأن هذه الأسلحة قد تستعمل ضد حلفاء امريكا والغرب، كما ثبت من احتلال الكويت، ومن المحتمل أيضاً وقوع هذه الأسلحة بأيدي أعداء حقيقيين للغرب، على شاكلة النظام الإسلامي في إيران، لهذه الأسباب الجوهرية اقتنعت امريكا وحلفاؤها من الدول الغربية والكيان الصهيوني ودول الخليج العربية بأن حماية مصالحهم المشتركة تقتضي تحويل السد العراقي إلى خندق أمام الخطر المستمر من المشرق. كانت أولى الخطوات العملية لتحويل العراق إلى خندق بعد تدمير تشكيلات كبيرة من قواته في حرب الكويت فرض العقوبات الدولية والحصار الاقتصادي عليه، ومن ثم شن العمليات الجوية والصاروخية المحدودة عليه، والتي مهدت لاجتياحه واحتلاله من قبل القوات الأمريكية والبريطانية، وبعد اسقاط النظام الصدامي المنتهية صلاحيته وفائدته للمصالح الغربية والصهيونية بادرت سلطة الاحتلال الأمريكي لتأسيس النظام السياسي الكفيل بتحويل العراق إلى خندق، فكانت المحاصصة الطائفية والإثنية والفدرالية التقسيمية، فتحولت العلاقات بين الطوائف والإثنيات من التعايش والتآخي الاجتماعي إلى التنافس الحاد على السلطة والمصالح، وسادت بين أفرادها مشاعر عدم الثقة والنفور والحقد، ولكي يضمنوا هدم القليل المتبقي من السد العراقي بادر الأمريكان لدعوة الإرهابيين الطائفيين للمنازلة على الأراضي العراقية، وتركوا الحدود العراقية الغربية مفتوحة ليدخلها الآلاف من الإرهابيين الطائفيين، الذين احتضنهم أخوانهم الطائفيون المحليون، متوهمين بأنهم سيعززون مكاسبهم الطائفية، ولم يدروا بأن أمريكا استغلتهم جميعاً لتنفيذ مآربها الخبيثة، في تعميق هوة الخلافات بين العراقيين على أسس طائفية، وفي نفس الوقت أتاح الاحتلال الأمريكي الفرصة للأكراد الإنفصاليين للإمعان في تمزيق وحدة العراقيين، وكردستان اليوم وباعتراف الجميع أقرب منه إلى الاستقلال الفعلي عن التوحد مع بقية العراق. قال القادة الأمريكان بأنهم جاؤوا للعراق لتخليصه من الطغيان وإعادة بناءه سياسياً واقتصادياً ليكون النموذج الذي تقتدي به دول المنطقة، وهم كاذبون، وكل الأدلة المادية الماثلة أمامنا شواهد على كذبهم، فالاحتلال الأمريكي استبدل الطغيان بالاحتلال والقبور الجماعية بالذبح الجماعي والاغتيالات بالتفجيرات والسجون بالمعتقلات، والغى حزب البعث ليضع محله أحزاب وان اختلفت معه في الفكر لكنها شبيهة له في الولاء المطلق للزعامة والنخبوية والفساد، والنهب الأمريكي للعراق بدأ في المتحف العراقي ولم ينتهي حتى الآن، ولا ننسى مساهمتهم في نشر الفساد الإداري. التخريب المتعمد للعراق بهدف تحويله إلى قاع صفصف أو خندق دائم مستمر بفضل الاتفاقية الأمنية التي وقعتها الحكومة العراقية مع امريكا، ولن يتوقف ما بقيت هنالك قوات محتلة، وحتى بعد الانسحاب ستتولى سفارة أمريكا بموظفيها وحراسها الستة الاف اكمال المهمة، كما أن الغالبية العظمى من المشاركين في العملية متورطون في هدم العراق من خلال ممارساتهم الأنانية والمفسدة، وكل على طريقته، فالجماعات الكردية في امعانها في اضعاف الكيان العراقي وتقسيمه، والمجموعات السنية بتسترها على الإرهابيين واستقواءها ببقايا النظام السابق ودول الخليج، والكيانات الشيعية من خلال احتماءها بالمحتلين وتخاذلها واستعانتها بالانتهازيين وعديمي الكفاءة. التفجيرات والهجمات الأخيرة على المدنيين ووزارات الدولة لم تكن الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، لأن مخطط أمريكا والكيان الصهيوني وآل سعود يريد للعراق أن يكون خندقاً مليئاً بالأشلاء والدماء والأنقاض، فهل هذا ما يريده العراقيون أيضاً من خلال سكوتهم على الاحتلال واصطفافهم وراء الزعامات السياسية والدينية المشاركة في تنفيذ مآربه التخريبية بقصد أو من غير قصد؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |