|
المُتقون والسلوك الاجتماعي الرشيد
الشيخ محمد حسن الحبيب قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} سورة آل عمران التقوى هي روح الدين والمحور الذي ترتكز عليه الأحكام الشرعية، وهي وإن كانت من أعمال القلوب إلا أن لها انعكاسات على سلوك الإنسان وحركته في الحياة، وقد قالوا عنها أنها التزام بما ورد في الكتاب والسنة، وعمل بمضمونها، فليس المطلوب صدور العمل من الإنسان كيفما كان، وإنما لا بد من اقتران العمل بالالتزام النابع من الحق سبحانه فقط وفقط. فقد يدعي الإنسان الإيمان ولكنه لا يتحمل مسؤولية تجاه إيمانه فلا يعمل وفق ما يدعيه، وقد يعمل ولكن الداعي والدافع والمحرك ليس هو الإيمان، وإنما هو شيء آخر، وقد يعمل بداعي الالتزام بأوامر الحق سبحانه ويلتزم بكل ما أمر ويجتنب عن كل ما نهى، وهذا الأخير هو المطلوب وهو الذي يكون له انعكاسات في الواقع الخارجي على سلوك حركته في المجتمع والحياة. وإذا كانت الثمرة المرجوة من الكثير من التشريعات كالصلاة والصيام والحج وغيرها هي الوصول إلى التقوى والترقي في درجاتها العليا، فإن الثمرة المرجوة من التقوى في الدنيا هي الأمن والطمأنينة والسلام وما يصاحب ذلك من رغد العيش والازدهار والتقدم الحضاري. وفي الآخرة الفوز بجنة "عرضها السماوات والأرض"والرضوان في دار السلام.
الأمن والطمأنينة والسلام مع التأمل العميق في آثار التقوى على المستوى النفسي وعلى الواقع الاجتماعي يتبين أن التقوى مصدر للأمن والطمأنينة والسلام، وذلك لأنها تعني التمسك بالأحكام الواردة في الشريعة الإسلامية، وهذه الأحكام فيها من الأوامر التي تحض الإنسان وتحثه على ما يؤسس لمجتمع آمن ومطمئن وينعم أبنائه بالسلام مثل التعاون على البر والتقوى. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} سورة المائدة وأداء بعض الواجبات بصورة جمعية على نحو الوجوب كالحج وصلاة الجمعة وصلاة العيدين بناء على القول بالوجوب في زمن الغيبة، أو على نحو الاستحباب كصلاة الجماعة، والإنفاق الواجب على ذوي الأرحام من واجبي النفقة، ودفع الحقوق الشرعية (الخمس والزكاة) وغيرها. وفيها من الزواجر والنواهي عن جملة من الأمور التي تهدد الأمن على المستوى الشخصي والاجتماعي كالقتل والسرقة والقذف والتجسس وغيرها. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...(33) } سورة الأعراف والفواحش التي حرمها الله سبحانه تشترك غالبا في إضعاف الأمن أو تقويضه على المستوى الشخصي، بينما البغي تطاول على الأمن الذي يسود في البلاد وينعم به العباد في الخارج.
خطوة في السلوك الوقائي قيل قديما أن الحرب أولها كلام، وبالطبع ليس كل كلام وإنما الكلام الذي يعمل في النفس ما يدفعها للدفاع أو الانتقام أو على أقل تقدير إثبات القوة والقدرة على الردع وهو ما يعبر عنه بإثبات الوجود. ولكن قرار التوقف عند نقطة معينة قد لا يكون بمقدور أي منهما إذا حدث التشابك بينهما وغالبا ما تسقط كل المعايير والقيم مما ينعكس سلبا على واقع المجتمع فيسلب منه الأمن والطمأنينة والسلام. ونظرا لخطورة النتائج من ردات الفعل حث القرآن أتباعه على الالتزام بقواعد وخطوات للتعامل مع المسببات لقطع الطريق أمام أي تدهور قد ينتج عنها في وضع المجتمع، وهذا السلوك لا ينبأ عن ضعف بل عن القوة التي يتمتع بها السائر في هذا النهج وذلك لأن سكوت الضعيف وعدم صدور شيء عنه لا يعني سوى الصبر مقهورا مغلوبا، بينما الآخر يكظم ويعفو ويحسن مع القوة والقدرة على عكس ذلك تماما. وهذه القواعد كما بينتها الآية الكريمة: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} سورة آل عمران وهي بالترتيب الذي جاء في الآية: أولا: الإنفاق غالبا ما يتأثر الإنفاق بالحالة النفسية للمنفق نتيجة للظروف من حوله أو نتيجة للاحتقانات المتولدة نتيجة للمواقف السلبية تجاه المنفق عليه، فأرضية العطاء والإنفاق تكون خصبة حينما يكون المنفق في وضع جيد أو راضيا على المنفق عليه، أو على الأقل ليس بغاضب أو حامل أو حانق عليه، وعلى العكس تماما يكون المنع عن العطاء. ومعلوم أن المنع من العطاء له آثار ذميمة على المستوى الفردي والاجتماعي، وربما تبدأ بالأحقاد ولكنها لا تقف عنده بل قد تتحول إلى أعمال عنيفة داخل المجتمع من قبل السطو والسرقة وربما القتل والخراب والدمار. وتزداد الآثار السلبية إذا كان المنع ليس لما يملك وإنما لما هو في يده على سبيل السلطة والأمانة أو الوكالة كالمال الذي يكون في يد المسؤول في السلطة أو المدير في المؤسسات الخيرية أو الوكيل في الحقوق الشرعية. ولمنع حدوث هذه الآثار أمر الله سبحانه بالإنفاق في السراء والضراء، وتعني في حالة الضيق والسعة، أو الرضا وعدمه، وواضح أن لأي من المعنيين الآثار النفسية التي قد تثبط الإنسان عن العطاء، والقرآن يدعوا لتجاوز كل الحالات في سبيل العطاء والإنفاق. ويمكن أن يقال أن الإنفاق ليس مربوطا بالحالات المادية وحدها بل يعم كل الأمور فكل ينفق مما في يده ومما يملك فصاحب القرار ينفق بقراره، والعالم ينفق من علمه، والغني من ماله، والفقير من جهده ... وهكذا. ولذلك قال بعض المفسرين أن الأوصاف الثلاثة التي تلت هذا الوصف في هذه الآية هو بيان لبعض مراتب الإنفاق. جاء في تفسير بيان السعادة: والأوصاف الثلاثة بيان لبعض مراتب الإنفاق لأن كظم الغيظ في الحقيقة إنفاق من سورة القوة الغضبية، كما أن العفو عن الناس وطهارة القلب عن الحقد عليهم والإنزجار من إسائتهم ثم الإحسان إليهم بعد إسائتهم إنفاق من سورة كبرياء النفس وأنانيتها. ([i]1) ثانيا: كظم الغيظ يقول أحد الكتاب وهو يصف ما يحدث في مجتمع عربي مسلم: صعقت لهول الجرائم الجنائية، خصوصاً ما وقع منها عمداً مع سبق الإصرار والترصد": شاب يقتل والده طعناً، أب يطعن ابنه، مواطن يدهس وافداً عربياً، شابان يقتلان مدرس، طالبان يقتلان آخر طعناً بسكين، معلم يتعرض إلى ضرب "مبرح" على يد طلاّبه، ممرض يسقط قتيلا بالرصاص في هجوم مسلح على مستشفى. هذه الجرائم وكثير مثلها، أقل أو أكثر منها بشاعة المتسبب الأساس فيها هو الغيظ والغضب، ولو كظم المغتاظ غيظه وسيطر الغاضب على غضبه لما حدث ما حدث. والغيْظُ هو: الغَضب، و قيل: الغيظ غضب كامن للعاجز، و قيل: هو أَشدُّ من الغضَب، و قيل: هو سَوْرَتُه و أَوّله. ([ii]2) وربما فرق بين الغيظ والغضب بأن: " الغيظ هيجان الطبع للانتقام بمشاهدة كثرة ما لا يرتضيه، بخلاف الغضب؛ فهو إرادة الانتقام أو المجازاة، ولذلك يقال غضب الله. ولا يقال اغتاظ".([iii]3) فهو إذاً تفاعل في النفس إن حبس فإن آثاره تكون حبيسة النفس وكفى وإن خرج فإن آثاره ستكون وخيمة عليه أو على الآخرين أو عليهما معا. ورد عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال: ( سَمِعْتُ أَبِي (ع) يَقُولُ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (ص) رَجُلٌ بَدَوِيٌّ فَقَالَ: إِنِّي أَسْكُنُ الْبَادِيَةَ فَعَلِّمْنِي جَوَامِعَ الْكَلامِ. فَقَالَ (ص): آمُرُكَ أَنْ لا تَغْضَبَ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ الأَعْرَابِيُّ الْمَسْأَلَةَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ لا أَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ هَذَا مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ (ص) إِلا بِالْخَيْرِ. قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِنَ الْغَضَبِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَيَقْذِفُ الْمُحْصَنَةَ). ([iv][4]) ولتجاوز الإشكالات والآثار السلبية الناتجة عن الغيظ والغضب فقد حث الدين الحنيف على كظم الغيظ، والسيطرة على الغضب. وكظم الغيظ هو " في اللغة: شد رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثم شددت رأسها وقد استعملت كناية عمن يمتلئ غضبا ولكنه لا ينتقم".([v]5) وقد ورد عن المعصومين (ع) أساليب متعددة لمواجهة سورة الغضب منها: 1. ما روي عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (إِنَّ هَذَا الْغَضَبَ جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تُوقَدُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا غَضِبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِيهِ فَإِذَا خَافَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فَلْيَلْزَمِ الأَرْضَ فَإِنَّ رِجْزَ الشَّيْطَانِ لَيَذْهَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ). ([vi]6) 2. ما رواه القطب الراوندي مرسلا عن النبي (ص) أنه قال: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ). ([vii]7) والحديث عن الغضب لا يعني أنه مذموم مطلقا، كلا وإنما المذموم منه هو ما يخرج الإنسان عن لبه فيضل طريق الحق. قال الإمام الصادق (ع): ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي إِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْهُ غَضَبُهُ مِنْ حَقٍّ). ([viii]8) ثالثا: العفو العفو حالة متقدمة على كظم الغيظ والسيطرة على الغضب، وهو خطوة ينبغي أن يسلكها الكاظم لغيظه، والسبب هو تنقية النفس عما علق بها من رواسب تجاه الآخر الذي تسبب في إيجاد حالة الغيظ. وهو لا ينم عن ضعف وإنما عن عزة وقوة ورفعة، ونفس مؤمنة تتعالى على الجراح وتترفع عن كل ما يحدث الشرخ والقرح وبالتالي اختلال الأمن الشخصي والاجتماعي. ومن جهة أخرى توفير الطاقات والإمكانات وتوجيهها لعملية البناء والنمو في المجتمع. والعفو إنما يكون عن البعد الشخصي أو فيما له حق العفو عنه، أما غيره فيكون تعديا على ما ليس له فيكون من المعتدين بدلا من أن يكون من العافين. رابعا: الإحسان الإحسان هو أعلى المراتب في السلوك الاجتماعي الرشيد، وقد أورد جمع من المفسرين في ذيل تفسير هذه الآية حادثة الجارية مع الإمام السجاد (ع) حيث كانت تسكب الماء عليه فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه فرفع الإمام (ع) رأسه إليها فقالت له: ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ "وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ" فَقَالَ (ع) لَهَا: قَدْ كَظَمْتُ غَيْظِي. قَالَتْ: "وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ". قَالَ (ع) لَهَا: قَدْ عَفَى اللَّهُ عَنْكِ. قَالَتْ: "وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". قَالَ (ع): اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ). ([ix]9).
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |