أوهام .. ما وراء فصل الدين عن الدولة ـ حلقة ثانية

 

سهيل أحمد بهجت

 sohel_writer72@yahoo.com

من خلال استشهادنا بالفقرات التالية نحن نهدف إلى فهم طبيعة النقد الذي وجهه المسيري للعلمانية وعبر ذلك نستطيع نقد مكامن الخلل في نظرته ذات الأحكام المسبقة تجاه العلمانية، يقول الدكتور المسيري:

بالإضافة إلى هذا الخلل الأساسي في المصطلح وتحركه بين الدائرتين الجزئية والشاملة، نجد أنه قد تقلص نطاقه، نظرا لأن بعضهم يظن أن العلمانية ليست ظاهرة تاريخية شاملة كاسحة، وإنما هي مجموعة أفكار يتم إشاعتها والتبشير بها (مثل الهجوم على الكتب المقدسة، والمطالبة بالحرية المطلقة)، وعدد من الممارسات والمخططات الواضحة المحددة يتم تطبيقها من خلال آليات محددة (مثل إشاعة الإباحية، ومصادرة أموال الكنيسة والأوقاف، وإصدار تشريعات سياسية معينة)، ويظن هؤلاء أن هذه الأفكار والممارسات (العلمانية) يمكن التصدي لها (واستئصال شأفتها) من خلال ممارسات ومخططات مضادة، محددة واضحة!" ـ المصدر ص 18

إن المصطلح "علمانية" لا علاقة له بالدوائر الوهمية التي صنعها المسيري من بنات خياله الذي يحكم مسبقا على كل منتج غربي بالسلبية والعبثية والشر، فما سماه المسيري بالإباحية تراه أديان أخرى من ضمن المباحات، وما قد يراه مذهب معين حلالا قد يراه مذهب آخر "زنا" يستحق مرتكبه الرجم، هذا إذا لم يُقتل!!. من خلال هذه الضبابية التي يضيفها الإنسان إلى الدين نجد أن العلمانية تصبح ضرورة اجتماعية وسياسية للفك بين حاجة المجتمع للحلول والأجوبة المتناقضة التي تطرحها "تطبيقات" الدين، والحقيقة أن امتزاج وتشابه الحلال والحرام هوأحد أكبر كوارث الدولة الدينية أولا وكوارث الحلول الوسطى المسيرية ـ نسبة إلى المسيري ـ وما يصفه المسيري بأن العلمانية ظاهرة تاريخية شاملة كاسحة، فلا بأس باكتساح أي فكرة للساحة الاجتماعية إذا أثبتت الفكرة عمليتها ونجاحها عبر تكرر التجربة التي يمكنها إيقاف التبرير الذي يوقف التقدم.

وإذا كان المسيري نفسه يشكك في أن الغرب انطلق نحوالعلمانية بسبب الطبيعة العلمانية للمسيحية بعكس الإسلام، وموقفه في هذه النقطة غير واضح حيث أنه يورد مسألة تبعية العلمانية للغرب بصيغة التشكيك لكنه لاحقا يكرر هذا الرأي، بل إن كتابه "العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية" كله تكرار ممل لهذا الرأي، ولكننا نورد هنا كلماته لإخضاعها لمزيد من النقاش المفيد، إذ يقول:

فالتصور السائد بين بعض مؤرخي العلمانية أن الأفكار العلمانية ظهرت في أوروبا المسيحية بسبب طبيعة المسيحية باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة (أدوا إذا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) [21 ـ 22] متي، وبسبب فساد الكنيسة وسطوتها، فالعلمانية ظاهرة مسيحية وحسب، مرتبطة ارتباطا كاملا بالغرب الذي لا زال بعضهم يصفه بأنه "مسيحي"، لا علاقة للإسلام والمسلمين بها، وأن ما حدث هوأن بعض المفكرين العرب (وخصوصا مسيحيي الشام) قام "بنقل" الأفكار العلمانية الغربية وأنهم "تسببوا" بذلك في نشر العلمانية في بلادنا، بل يذهب بعضهم إلى أن عملية نقل وتطبيق الأفكار العلمانية تتم من خلال مخطط محكم (وربما مؤامرة عالمية يقال لها أحيانا "صليبية" ويهودية" و"غربية").." العلمانية تحت المجهر ص 19

يبدولي أن هناك تغيرا طرأ على تفكير المسيري من تأليفه هذا الكتاب "العلمانية تحت المجهر" مناصفة مع الدكتور عزيز العظمة إلى تأليفه كتابه "العلمانية الشاملة"، فهذه الصيغة على الأقل (تشكك) بصحة كون العلمانية شأنا غربيا، لكنه في "العلمانية الشاملة" ينسب العلمانية إلى الغرب بشقيه التراثي (اليهودي + المسيحي) ويظهر حجم "مؤامرة" ضخمة ضد العالم العربي والإسلامي. فلا بأس إن كانت العلمانية وجدت بيئة مناسبة في البيئة اليهودية المسيحية فإن ذلك لا يعني عدم صلاحية العلمانية وكونها كائنا طارئا على المشرق الإسلامي، فالمشتركات بين الأديان الثلاثة كبيرة إلى حد أنها تبدوكمذاهب في دين واحد يجمعها إبراهيم أبوالأنبياء، بالتالي فإن العلمانية موجودة ضمن القرآن كروح فلسفية مقياسها الاستفادة والمنفعة وسعادة الإنسان وكونه هدف الوجود.

وإذا كنا سنمضي وراء المصطلح الشمولي الذي أطلقه الدكتور المسيري فإن الضروري لنا أن نفهم أن الشمولية المزعومة ليست جزءا من مفهوم العلمانية المعتدلة، قد يبدوالإلحاد علمانية مفرطة ـ كالشيوعية مثلا ـ إلا أنها ليست علمانية حقيقية، فالإلحاد هودين مقنع يستبعد الإله عن المعادلات ويبقي على الإجراء التعسفي الذي لا يختلف عن إجراءات الكنيسة ضد التنويريين الذين كان مصير كثير منهم الحرق والتعذيب والموت، إذا فنسبة الإلحاد والإلحادية Atheism إلى العلمانية نسبة ظالمة، ولنضرب على ذلك مثالا، في القرون الوسطى وحينما كانت الكنيسة تضطهد حتى المؤمنين بالمسيحية باسم "الحفاظ على الدين القويم" كان الملحدون يقفون جنبا إلى جنب مع هؤلاء المضطهدين ليحظوا بحرية التعبير والتفكير، من غير أن يعني ذلك بالتأكيد أن العلمانية إلحادية، ومرة أخرى حينما قامت أول إمبراطورية فلسفية في التاريخ ـ الاتحاد السوفيتي ـ كان هناك اضطهاد حتى للشيوعيين الذين آمنوا بإعطاء حرية التفكير للملحدين والمتدينين على حد سواء، وفي هذه المرة وقف المتدينون مع الملحدين من غير أن يعني ذلك أن العلمانية شأن إيماني ديني، ببساطة إنها مرادفة للتسامح وحرية البحث والتفكير، وكل فكرة جديدة غالبا ما يتعصب لها أنصارها إلى حد أنهم يضطهدون أعدائها بنفس الطريقة التي كانوا يعانون فيها قبل أن تهيمن الفكرة الجديدة، والشيوعية أرادت أن تكون مسيرية بمعنى أن تعطي نموذجا مثاليا Idealism لا نقص فيه ولا أسئلة بدون أجوبة، وهذا مستحيل كون الإنسان سيبقى نسبي المعرفة طالما هو إنسان.

إن العلمانية لا شأن لها بما يتعلق ببحث الإنسان عن المطلق والمثالية، لأن وظيفتها ببساطة هي إيجاد حيز الحرية المطلوب للعقل في التكيف مع المستجد من الأشياء والظروف المحيطة بالإنسان، فالعلمانية جاءت كارتقاء طبيعي وكأحد خيارين لا ثالث لهما، فإما البقاء في إطار المجتمعات المغلقة والتقليدية والتقدم باتجاه التطور والعقلانية ومنظومة الحقوق الفردية، بالتالي لا طريق ثالث هنا، ونحن نجد أن المرحوم الدكتور علي الوردي هوأفضل من تفهم في أبحاثه التاريخية الاجتماعية هذه المعادلة حيث اختبر بنفسه مسألة انتقال المجتمع من الطور القبلي المنغلق إلى عصر المستحدثات والمخترعات وبالتالي تعيش القيم القديمة في أزمة ولا تصلح كقيم للتطبيق، يقول الدكتور علي الوردي:

هناك خطأ شائع لا يزال بعض مفكرينا يؤمنون بصحته هوأننا نستطيع أن نجمع في أنفسنا محاسن الحضارة الحديثة مع محاسن التراث الاجتماعي الذي نشأنا عليه، أي أننا نستطيع أن نكون من أرقى الأمم في العلم والصناعة والجهاز الحكومي مع المحافظة على روابط القرابة والجيرة والنخوة والمروءة والزاد والملح وغيرها من القيم المحلية التي ورثناها عن الآباء. منشأ الخطأ لدى هؤلاء أنهم لا يدركون طبيعة التناقض بين الحضارة الحديثة وقيمنا المحلية القديمة، فلقد نشأت تلك القيم في مجتمع بدوي وهي ملائمة له كل الملائمة، إنما هي إذا سيطرت في مجتمع حديث أدت إلى انحطاطه وهدمه. يمكن تشبيه الحضارة الحديثة بالماكنة المعقدة ذات الأجزاء الدقيقة، فكل جزء منها يجب أن يكون في مكانه المناسب له، وهي تتوقف عن العمل عند طروء أي خلل في أي جزء منها مهما كان صغيرا. إن الحضارة بعباررة أخرى تقوم على أساس الاختصاص وتقسيم العمل وعلى أساس وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. إن قيمنا المحلية القديمة تفرض على كل رجل من ذوي النفوذ أن يهب لنجدة من يأتيه راجيا إياه في حاجة، والمتوقع منه أن يتوسط له في دوائر الحكومة والمؤسسات العامة والخاصة، فإذا نجح في ذلك مدحه الناس، وافتخر هوبه أمام الناس، ولكنه لا يدري أنه بعمله هذا كان كمن يضع أجزاء "الماكنة" في غير أماكنها المناسبة، وكمن يضع جزءا مكان جزء فيها. فهويعطل "ماكنة" الحضارة في بلاده ويحسب أنه فعل خيرا." ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ـ ج 1 ص 304 ـ 305

إن قيم التدين المعمول بها في عالمنا الإسلامي لم تعد مفيدة ولنقل أن تكوين بنية الدولة الحديثة لا تستوعب هذه القيم التي تهمل الفرد وكان موقف المسيري هنا في نفده للعلمنة وإظهاره لسلبياتها كان كمن يشرح مضار التخمة والأكل الكثير لشخص يتضور جوعا وسط مجاعة، فمجتمعاتنا الشرقية الإسلامية لا تعرف ولم تذق طعم الحرية حتى نصف لها "سلبيات الحرية"!! وهي مجتمعات لا تعرف معنى "المساواة أمام القانون" لنحدثها عن "القانون الجامد المادي في الغرب"!! وغيرها من التصنيفات المسيرية، وهويشبه مرة أخرى قيام فيلسوف من فلاسفتنا بالذهاب إلى سوق الخضار وأحد المقاهي ليشرح للبقال والحمال "نسبية أينشتاين" وأضرارها الفلسفية على مستقبل البشرية، وأظن أن هذا الأمر مرده إلى أن ما يسمى بـ"النخبة المثقفة" في دول العالم الإسلامي تعيش بمعزل عن معاناة المجتمع ومشاكله اليومية، فالمسيري وغيره يحلولهم التنظير "فلسفيا" للنظريات والوقائع السياسية بعيدا عن الواقع، حاله حال أرسطوالذي كان يعيش في كنف الإسكندر المقدوني فكان يحسب أن قوانين الطبيعة والمجتمع تأتي ببساطة وسهولة طلبه الماء والطعام.

يقول المسيري:

ولتوضيح فكرتنا، قد يكون من المفيد أن نذكر أنفسنا بحقيقة بديهية، وهي أن كل الأشياء والظواهر والأفكار المحيطة بنا، المهم منها والتافه، تجسد نموذجا حضاريا متكاملا، وتستند إلى رؤية شاملة تحوي داخلها إجابة عن الأسئلة الكلية النهائية التي تواجه الإنسان، فإن كانت هذه الأشياء (مثل الهامبورجر والتي شيرت) والظواهر (مثل الانتقال من القرية إلى المدينة) والأفكار التي قد تبدوبريئة (مثل الدعوة إلى اقتصاديات السوق) تجسد رؤية علمانية وحتى تخلق تربة خصبة لنموموقف علماني من الحياة، فإنها ستقوم بإعادة صياغة وجدان وأحلام ورغبات الناس (حياتهم الخاصة) وتعلمنهم بشكل شامل كامل، دون أن يشعروا بذلك، من خلال عمليات غاية في التركيب والكمون." ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 20

إن ما نراه ونحسبه جوابا عن أسئلة كلية نهائية هي في حقيقتها ليست كذلك، وحتى الأديان بكل ما فيها من تراث مقدس وغير مقدس لا تقدم إلا نقاطا وتعميمات لا ينبغي تجاوزها، فعندما يخبرنا النبي أن نفكر في خلق الله لا في ذات الله لكي لا نهلك فهويعلن لنا موقفا علمانيا وإن تجسد في نصٍّ مقدس، بمعنى أن الوصول إلى الله والمطلق يختلف عن وصولنا إلى حل لأزمة نقدية ـ مثلا ـ فالدين هنا يفصل قطعا بين العالم المحدود النسبي الذي يمكننا التوصل إليه عبر البحث والجهد وبين المطلق الكامل الذي لا يمكن له أن يكون له أي نموذج مادي مماثل {{ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}} الشورى 11 ـ فالتشبيه الممنوع هنا مع الله هوهذا العالم المادي الذي يمتلك قابلية أن يُعرف من قبل الإنسان لأن الإنسان هومن صنف هذا العالم المادي المحدود، كما أن تطور نظر الإنسان نحو"إجابات الدين" على الأسئلة الكبرى للإنسان إنما يرجع مرده إلى أن نظرة الإنسان إلى العالم أصبحت أكثر انطباقا مع الواقع وبالتالي كلما ازداد اطلاع الإنسان على نسبية هذا العالم كلما ازداد احترامه للمطلق الكامل الذي هونقيض هذا العالم الناقص البائس، من هنا يمتلك الإنسان الحق كل الحق في أن يضع كل الأجوبة على كل الأسئلة ـ بما فيها الدّيني ـ في مستوى واحد من قابلية التصديق والتكذيب لكي يستمر الإنسان في تطوير وعيه بالحقيقة، والبحث هنا الله المطلق لا تتم عبر البحث عن التفكير في ذات الله المطلقة ولكن بالبحث عن العالم النسبي الناقص الذي عبره يمكن للعالم العلماني والفقيه والملحد أن يُدركوا عظمة المطلق عبر اطلاعهم على هذا النسبي الناقص.

مشكلة المسيري مرة أخرى أنه يضع الحضارات في تصنيفات الاختلاف والتمايز والـ"نحن" والـ"هم" والخصوصيات والهويات وكان هناك أنواع متعددة من البشر وهي التهمة التي يلصفها على الدوام بالغربيين واليهود على وجه الخصوص، من هنا أصبح من الضروري أن نكره "الهامبورجر والهامبورغر كما أفضل أن أسميه" وأن نتجنب لبس البدلة والتي شيرت ولا نركب السيارة ولا نشرب البيبسي والكولا ولا نشاهد التلفاز ونستخدم الإنترنت، فلماذا اقتصر المسيري على الدوام في ذكر منتجات بسيطة من منتجات الغرب التي لم يعد من الممكن إحصائها ولماذا اقتصر على ذكر الهامبورغر والتي شيرت؟ المسيري نفسه يدرك أن الحضارة كمفهوم تجاوزت الشرق والغرب كشيئين متمايزين، فقد انضمت آسيا وعن قريب أفريقيا والشرق الأوسط إلى مفهوم الحضارة "العلمانية" عبر تحول العالم إلى قرية صغيرة بعد ثورة الاتصالات التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي وأحداث 11 سبتمبر التي أتاحت للولايات المتحدة والعالم الحر أن تصنف العالم إلى معتدلين ومتطرفين، ولكن المتمظهرين بالاعتدال كالمسيري وجلال أمين وفهمي هويدي يمثلون خطرا أكبر على تقدم الفكر من المتطرفين من طراز بن لادن وأبوالأعلى المودودي وسيد قطب والسيد الخميني.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com