تجليات علمانية

 

سهيل أحمد بهجت

sohel_writer72@yahoo.com

إن قطاع الإعلام والإعلانات ـ الذي يسميه المسيري بقطاع اللذة ـ  والنظام الاقتصادي الغربي الرأسمالي لا يمتلك خاصيات الأيديولوجبة والفكر الشمولي على عكس ما يزعمه المسيري من أنه يكون في الإنسان وبشكل لا شعوري موقفا شاملا ويخلق فيه نمطية محددة، ويورد على ذلك أمثلة من صناعة السينما الأمريكية وأفلام كارتون "توم وجيري ـ نموذجا" وما إلى ذلك، ولكي نفهم فكرة الرجل ونستطيع نقدها فعلينا الالتزام بإيراد أفكاره كما كتبها هو، يقول المسيري:

ولعل أهم آليات هذه العلمنة البنيوية الكامنة الشاملة الكاسحة هوقطاع اللذة ككل، وخصوصا الأفلام الأمريكية والبرامج التلفزيونية التي تصل إلى السواد الأعظم من البشر، وتقوم بإعادة صياغة رؤيتهم لأنفسهم (عادة في إطار دارويني وفرويدي وبرجماتي) بشكل بنيوي كامن غير واع، ولكنه شامل. ولنضرب مثلا بالكارتون المسمّى "توم وجيري" الذي يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح، حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقيا، فهي لذيذة وذكية وناجحة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل، ولنلاحظ أن القيم المسنخدمة هنا قيم نسبية نفسية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير والشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تفرق بين الظاهر والباطن. كما أن الصراع بين الإثنين لا ينتهي، يبدأ ببداية الفيلم ولا ينتهي بنهايته، فالعالم، حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هوإلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التي تلبس ثياب القط والفأر: توم وجيري." العلمانية تحت المجهر ـ ص 22

كـــل هذا الكلام والتنظير عن "الرؤية الكامنة" للمنتج الفني الغربي لا يعدوكونه تأويلا ينسب "فكرة معينة" باستطاعة أي شخص كان أن ينسبها إلى أي عمل فني وأدبي، فأفلام الكارتون التي يرى المسيري أنها تمثل "العالم الدارويني" المزعوم ليس لها إطلاقا أي علاقة بأي نظرية فلسفية، خصوصا الدارويني منها، فالشركات المنتجة لهذه الأفلام وغيرها تهدف أولا إلى جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين، وهذا تصرف إنساني لا يخلومجتمع من المجتمعات على نماذج منه، وطبيعي أن لا ينسجم فلم كارتون توم وجيري ـ وهونقطة من بحر المسلسلات والأفلام التي تحوي أنماطا إنسانية وقصصا معبرة ـ مع مزاج المسيري وغيره من الذين يريدون تحويل التلفزيون وحتى أفلام الكارتون إلى أداة للوعظ الأخلاقي وإلقاء محاضرات عن تراث الأجداد ومفاخر الأمة المزعومة، فنظرة الغربي تختلف عن نظرة المسيري الذي يعتبر الطفل "رجلا وإمرأة صغيرة" يكفي أن تعطيه بضعة دروس في الأخلاق والسلوك وسيصبح إنسانا ملائكيا على خلق، متناسيا أن الطفل يكره الواجبات فكيف إذا ارتبط التعلم بالواجب فإن ذلك يكون من أثقل الأمور على صدور الأطفال، لذلك نجد المدارس ومؤسسات التعليم غالبا ما تمزج عملية التعلم بالمرح والتنزه وممارسة نشاطات تعكس أجواء الحرية، بينما نخبنا المثقفة ـ والمسيري نموذج ممتاز لها ـ التي نشأت على ثقافة الوعظ "حسب نظرية الأستاذ الكبير المرحوم علي الوردي" والذين تربوا على الحقيقة المطلقة وشعارات "من جد وجد"، نجدهم يعاملون الطفل بعقلية الالتزام بالوقار وثقافة التلقين، وكنتيجة طبيعية لهذه النمطية تخرج مدارسنا المزيد من الفاشلين والعاطلين ذهنيا.

نعود إلى المسيري ورؤيته الكامنة حيث يقول:

ولنضرب مثلا آخر بأفلام رعاة البقر المسماة "الويسترن Western" فثمة رؤية شاملة كامنة فيها، بشكل يصعب على الإنسان اكتشافه، تنقل لنا رؤية عنصرية بشعة، فبطل الفلم هوالرائد (بالإنجليزية: Pioneer)، الرجل الأبيض الذي يذهب إلى البرية ليفتحها ويستقر فيها ولا يحمل سوى مسدسه، وكلنا يعرف المنظر الشهير، حين يقف إثنان من رعاة البقر في لحظة المواجهة التي يفوز فيها من يصل إلى مسدسه "أسرع" من الآخر، إن هذا المنظر الذي انطبع في مخيلتنا منذ نعومة أظفارنا، يعلمنا كل أسس الداروينية الاجتماعية: أن الصراع من أجل البقاء هوسنة الحياة وأنه لا يكتب البقاء إلا للأصلح، أي الأقوى والأسرع والأكثر دهاء ومكرا، وهي مجموعة من الصفات التي لا علاقة لها بأية منظومة قيمية، دينية كانت أم أخلاقية أم إنسانية.." ـ المصدر ـ ص 22 ـ 23

يذكرني المسيري خلال هذه السطور بمثل شعبي يقول: إذا كره أحدهم شخصا حلم به أحلاما سيئة.." ففي حديث المسيري تجزئة واختزال لأعمال فنية كاملة وتعميم ظالم لمنتجات فنية لا تخلومن أعمال عظيمة ولا تخلوأيضا من أعمال هابطة، بمعنى أوضح أن الفن كبضاعة السوق فيه الغالي والنفيس والتافه والرخيص، بل إن عملا فنيا ذا قيمة عند شعب من الشعوب هومنتج تافه وسخيف عند شعب آخر، وطبيعي أن الفلم الأمريكي ـ والمسيري لم يذكرنا ولواسم فلم واحد ـ إذا تم تقييمه بمنطق البدوي والواعظ والشايخانات، فسيبدوتافها فعلا، ولا لوم على هذا التقييم إذ هوينطلق من قيم مجتمع مغلق لا يزال يؤمن بقيم المجتمع المعزول الذي لا يعرف ما هوالإنترنت والهاتف والفاكس، والنتيجة هي أن هذا تقييم سطحي مستعجل يمت إلى الحكم العاطفي المسبق على الأشياء، خذ مثلا فيلم (من أجل حفنة من الدولارات For few Dollars more) بطولة الممثل الكبير (Clint Eastwood) الذي يعتبر من مؤيدي الحزب الجمهوري، فصحيح أن البطل في الفلم يعيش في بيئة خالية من النظام ولا قانون فيها والقوي يأكل الضعيف، ورغم أنه يبحث لنفسه عن ربح مالي إلا أنه يخاطر بحياته في سبيل إمرأة مخطوفة من قبل رئيس إحدى العصابات والبطل هنا ليس له أي علاقة "جنسية" ببطلة الفلم حتى يزعم المسيري أن الفلم قصد ـ المنفعة الشخصية الأنانية ـ بل هي امرأة متزوجة وأُم لطفل، فأين هي الداروينية الكامنة في فلم جسد بشاعة المجتمع من دون قانون ونظام للعدالة، فالفارق في المجتمع الإنساني وغير الإنساني يكمن في هذه النقطة، سطوة القانون ومساواته بين الجميع وليس في مظاهر "التراحم" الشكلية التي تمتليء بها مجتمعاتنا البائسة والفقيرة العاجزة عن إدراك حقيقة وجوده على الأرض وغاية وجوده.

وإذا كان المسيري يصرّ على أن "العلمانية" ليست ثابتة وأن لها تبديات "أفضل كلمة تجليات على الكلمة تبديات" متعددة الأوجه تتعلق بظروف وبيئة تطورها، بالتالي فنحن كشرقيين لسنا ملزمين بتطبيق العلمانية حسب المنظر الغربي وفق المسيري، فإن هذه التجليات ليست تحولا يكمن في ذات العلمانية بقدر ما هوتنوع مردّه يعود إلى ثقافة المجتمع ومستوى وعيه الثقافي، فالعلمانية في أوروبا في القرون الثلاثة التي سبقت القرن العشرين هي غير العلمانية منذ الحرب العالمية الأولى وإلى هذا العصر، كذلك في التجربة الأمريكية من نهاية القرن الثامن عشر إلى العصر الحاضر، وفي علمانية الدولة العثمانية وانتقالها إلى العلمانية في بداية الجمهورية وانتقالها إلى النظام العلماني الأرقى في تركيا المعاصرة.

 مشكلة الذين ينتقدون "العلمانية" أنهم ينطلقون من اعتبار المادّية شرا وأن هذا العالم المادي هونقيض الحقيقة الدّينية وليس الوجه المعاكس لها، بالتالي يصبح الموت ومفارقة الحياة الحل الأنسب للخروج من الحالة السلبية ـ العالم المادي ـ إلى الحالة الإيجابية ـ عالم ما بعد الموت ـ وهوالأمر الذي أوقف عجلة الحياة في بلدان المشرق وجعل أبناء هذه الشعوب (الأغلبية) تنتظر الموت وتتخلى عن كل مظاهر ومباهج الحياة والتوقف عن الإبداع والفعل الخلاّق، والمسيري لا يمتلك حلا للمسألة الدينية وكون الحقيقة الدينية نسبية كمجتمع ـ مطلقة ـ في التجربة الفردية الشخصية، بمعنى أنه هونفسه يدرك أن لا خيار ثالث، فإما الدولة العلمانية ـ أُفضل إضافة الديمقراطية لترقية التجربة ـ والوقوع في دولة الفوضى حيث يزعم كل طرف أنه الذي يمتلك الحقيقة الدينية كاملة معتمدا على تأويله الخاص، وما أكثر تجاربنا في مزاعم احتكار الحقيقة، بينما المعارضون كلّهم مخطئون وفي جهنم، فالمسيري حكم على نقده للعلمانية بالفشل المسبق عبر حصرها في "نقد الغرب" وربط الغرب مرة أخرى بنظرية "المؤامرة اليهودية العالمية"، مما جعله نقدا أعور.

فالعلمانية طوال تاريخها لم تكن موقفا أيديولوجيا ولا يمكن تحميل العلمانية مسؤولية جرائم النظريات القومية (النازية والبعثية وغيرها) والفلسفية الاقتصادية (الماركسية) كما لا يقوم المسيري باعتبار الدين مذنبا إذا استغله بعض المتطرفين للعنف والقتل، وللعلم فإن المسيري لاذ بالصمت على حد علمي حيال نقد التطرف الإسلامي والقومي في مناطق المشرق الإسلامي بينما لم يترك فرصة دون أن ينتقد الغرب والعلمانية وحتى الديمقراطية، وكأن العالم الإسلامي هوجنة الله على الأرض!!

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com